Search This Blog

Sunday, August 14, 2011

Mohsen Kaabi: هل غيّرت الثّورة أي شيء؟


استكشاف دور الجيش الوطني كمؤسّسة:

هل غيّرت الثّورة أي شيء؟

محسن الكعبي*

إنّ ما حصل في تونس إبّان الثّورة المباركة ثورة 14 جانفي المجيدة ، لم يكن تغييرا كاملا للنّظام بقدر ما كان تخلّصا من رئيس جثم على صدور شعبه و كتم على أنفاسه قرابة الرّبع قرن، و الجيش هو جزء مهمّ من النّظام القديم ، و قد بقي كما هو ، و لم نشهد تغييرا كاملا له كما يحدث في جلّ الثّورات الشعبية.

ولم تستطع المؤسّسة العسكرية أو على الأقل نخبها التأقلم مع العهد الثّوري الجديد، خلافا لبقية الجنود الذين تبنّوا وجهة نظر الجماهير الغاضبة و وقفوا تلقائيا إلى جانبها، وكانت لها روح المبادرة بعدم إطلاق النّار على المتظاهرين. و يمكننا اعتبار هذه النّخب جزءا من النّظام السّابق و قد سقطت أخيرا و لم تنسجم مع منطق الثّورة و أهدافها،و مازالت منفصلة عن الشارع و لم تتغيّر من جهة التحامها و تعبيرها عن الجماهير و المظلومين،و ما عدم استجابتها لحقوق العسكريين المطرودين في العهد السّابق إلاّ خير دليل على تواطئها معه، وفي ذلك حسابات تتفوّق على رومانسية المقولة الشّهيرة " الجيش و الشّعب يد واحدة "، تلك الحسابات هي التي حكمت تصرّف قيادة الجيش، من جهة كانت الحاجة ملحّة إلى إبقاء تماسك الجيش ، و خصوصا أن الإطارات العسكرية الشابّة و الجنود المنتشرين على الميدان كانوا يتعاطفون مع المتظاهرين ، و من جهة أخرى كانت محاولة من المؤسّسة العسكرية للكسب السّياسي من أجل الإعداد للمرحلة المقبلة و التّأثير عليها..

و لا شك أن العصر الجديد ، يحتاج إلى قادة عسكريين جدد، يستلهمون من الثّورة أفكارها و أحلامها أو على الأقل قادرين على قراءة و استمزاج تطلّعاتها و أهدافها.

لقد ابتلينا في ظل النظام الدكتاتوري السّابق بقيادة عسكرية مأجورة أطاعت هواها و باعت دينها بدنياها،و تخلّت عن مسؤولياتها ،وانبرت تجفّف المنابع و تستأصل النّفس العقدي الدّيني لدى أفراد المؤسسة العسكرية،إلى درجة إغلاقها المساجد و بيوت الصّلاة في الثّكنات و في المدارس العسكريّة ، وهي مغلقة إلى اليوم وهو تعدّي صارخ على حقوق الإنسان و حريّة ممارسة الشعائر الدينيّة،وأطلقت العنان إلى أعوانها في الإدارة العامة للأمن العسكري لتسجيل قوائم للمصلّين،و تسجيل كل من ترتدي زوجته الحجاب واستدعائه للبحث والمساومة والطرد،و تسجيل كل من لا يشرب الخمور،و كل من يؤذن للصّلاة و كل من يصلّي الفجر حاضرا، و منع أداء صلاة الجمعة لمن يطلب إجازة وقتية لأدائها...

وفي بداية التسعينات تطوّرت الأمور لتأخذ أبعادا تراجيدية خطيرة ، لمّا ولّي عبد الله القلال وزارة الداخلية وعلى السّرياطي الإدارة العامة للأمن الوطني مباشرة بعد انتقالهما من وزارة الدّفاع، و بعد رفض المرحوم الجنرال عبد الحميد الشّيخ وزير الداخلية آنذاك تنفيذ المؤامرة القذرة مؤامرة "براكة الساحل" السيّئة الذّكر، حيث شكّلت ظاهرة استغلال النّفوذ ، و الانتهازية سمة بارزة داخل المؤسّسة العسكرية ، و خاصّة منذ أن طالت هذه التجاوزات نخبه الشّريفة و النّظيفة ذات الكفاءات العالية ، الملتزمة بدينها أو حتى الغير ملتزمة، لتبدأ حملات الإيقافات الكبرى الممنهجة سنتي 91 و 92 في صفوف شرفاء الجيش الوطني ، قصد إفراغه و تهميشه و تقزيمه ، شملت خيرة أبنائه ،تمّ إيقافهم بالسّجن العسكري بالعوينة ، ثم تمّ نقلهم فيما بعد مكبّلين بالأغلال، من طرف زملائهم في السّلاح و وقع التّنكيل بهم في أقبية و زنزانات وزارة الداخلية،أين تعرّضوا إلى حملات تعذيب تفوق في فظاعتها ما حدث في سجون أبو غريب في العراق ، و في معتقل "دلتا" في قوانتنامو، بدعوى الانتماء لحركة النهضة و التخطيط للاستيلاء على الحكم..

لقد كان الظّلم و الفساد و التآمر و المحسوبية واستعداء الدّين و استغلال النّفوذ و المواقع ، قاموس الجنود و عامّة الناّس عند حديثهم في الخفاء عن كبار المسئولين في الدّولة عسكريين كانوا أم مدنيين..

و اليوم وبعد أن نجحت الثّورة المباركة و أسقطت الدكتاتور و عصابة اللّصوص و المافيا ، قرّرت أصوات حرّة أبية شريفة ، عن طريق جمعية إنصاف قدماء العسكريين التي أسّستها ،كشف المستور و المطالبة بفتح الملفّات و ظروف إيقاف و تعذيب و طرد العديد من الشّرفاء من المؤسّسة العسكرية .

لقد كانت المؤامرة كيديّة و جريمة في حق الشّعب و الجيش و الوطن، فهي خيانة عظمى لمن اقترفها من كبار مسئولي النّظام آنذاك، و نخصّ بالذّكر منهم وزير الدّفاع الحبيب بولعراس صاحب مسرحيّة مراد الثالث ، و رجل الثّقافة و الإعلام ،الذي لا يمكن أن يكون خارج دائرة الاتّهام ، و كذلك مساعدوه الجنرال محمّد حفيظ فرزة مدير عام الأمن العسكري ، و الجنرال محمد الهادي بن حسين و بقية أعضاء المجلس الأعلى للجيوش ، ثم الوزير عبد العزيز بن ضياء الذي تلاه والذي تمادى بقراراته الوزارية العبثيّة في نصب المحاكمات العشوائيّة الجائرة، ومجالس التأديب الظّالمة، و التي ترأّس البعض منها العقيد رشيد عمّار آنذاك، والجنرال قائد الجيوش الثلاثة حاليّا..

و إذا كان كلّ متّهم منهم يأخذ من الصّمت ملاذا آمنا ، أيّا كان موقفه من المؤامرة ، فانّه على هذا النّحو يسهم في ضياع حقوقنا ، خاصّة متى تعلّقت هذه الحقوق بما يقدّمه المتّهم و ما يبديه من أقوال ، و ليس هذا فقط في الحالات التي يمكن أن يعترف المتّهم فيها بالجريمة ، بل أيضا في الحالات التي قد تقود أقوال المتّهم للوصول إلى الفاعل الحقيقي ، و بذلك يعتبر المتّهم مساهما في إنارة العدالة ، بدل أن يكون حجرة عثرة أمامها.

ولنا في شهادة العميد موسى الخلفي من الإدارة العامة للأمن العسكري و التي أدلى بها لمجلّة حقائق ص 10الصّادرة بتاريخ 10 إلى 16 مارس 2011 ،على اثر اتهامنا له بالمشاركة في المؤامرة، خير دليل على براءتنا و تورط القيادة العسكرية آنذاك بالتنسيق مع جهاز أمن الدولة بقيادة محمد علي القنزوعي و عز الدّين جنيّح.

كذلك أخرجنا وزير الدّفاع السّابق الحبيب بو لعراس من صمته و أدلى بدلوه بعدما قرأ اتّهامنا له على أعمدة الصّحف و المجلاّت ( انظر جريدة الصّباح، ص 18، بتاريخ 23 أفريل 2011 و مجلة حقائق عدد1324 بتاريخ 12 الى18 ماي 2011 ، و عدد1326 بتاريخ 26 ماي إلى غرة جوان 2011) ،حيث حاول أن يبرّأ نفسه ، لكنه في النّهاية اعترف أن المؤامرة قد حيكت في تسعينات القرن الماضي في مطبخ داخلي تونسي بين أجهزة الرّئاسة و الدّاخلية و الدّفاع ، و أن التّعذيب قد حصل لخيرة من العسكريين الأبرياء، و أن المؤسّسة العسكرية قد انتهكت و أفرغت من أكفء كوادرها، و أنّه يجب ردّ الاعتبار إلى الضّحايا و جبر أضرارهم المادّية و المعنويّة...

و السّؤال الذي يطرح نفسه اليوم و بعد ثورة الحريّة و الكرامة:إلى متى يظل العسكريون ضحايا مؤامرة ما يسمى" باجتماع برّاكة السّاحل 1991 " و غيرهم من الضّحايا السّابقة و اللاّحقة ،يلهثون وراء الوعود اليائسة والتسويات المذلّة منذ أكثر من ستّة أشهر... و التي اقترحتها عليهم وزارتهم ممثّلة في شخص وكيلها العام للمحكمة العسكرية العميد مروان بوقرة،وعبر الأستاذان عمر السّعداوي و نجاة العبيدي و بمشاركة جمعية إنصاف قدماء العسكريين؟

ولمّا كانت مظلمة "اجتماع برّاكة السّاحل" 1991 ،أقسى مأساة سلّطت على مجموعة كبيرة من إطارات وزارة الدفاع، منذ انبعاثها ، يكون من باب أولى و أحرى بهذه المؤسّسة الدّفاعية العتيدة ، أن تسارع قبل غيرها بإزالة الآثار الاجتماعية و المعنوية لهذه المظلمة على غرار مؤسسات الدولة الأخرى .

و الواجب اليوم هو أن ترفع هاته المظلمة فورا عن هؤلاء و غيرهم من ضحايا دكتاتورية بني جلدتهم ،بتفعيل مرسوم العفو العام، و برد الاعتبار لهم ولذويهم بتكريمهم من طرف الثّورة ولا من طرف وزير الدفاع المؤقت ولا من طرف رئيس أركان جيوشه الثلاثة الذين رفضا حتى إدراج مظلمة برّاكة السّاحل لا تلميحا و لا تصريحا في الأمر اليومي للرئيس المؤقت القائد الأعلى للقوات المسلّحة بمناسبة مهرجان عيد الجيش الماضي، ولا إلى تسوية وضعية الضّحايا ، و إسدائهم التعويضات المادّية التي تضمن حقوقهم. و يستوقفني هنا بالمناسبة ما قاله المتنبي في أحد روائعه الشّعرية:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم و تأتي على قدر الكرام المكارم

و تعظم في عين الصّغير صغارها و تصغر في عين العظيم العظائم

والمعنى أنّ الرّجال قوالب الأحوال إذا صغروا صغرت ،و إذا كبروا كبرت، فعلى قدر أهل العزم من القادة ، و ما يكونون عليه من نفاذ الأمور ، و تظاهر العلوّ و الرّفعة تكون عزائمهم، و على قدر الكرام في منازلهم ، و استبانة فضائلهم ، تكون مكارمهم في جلالها، و أفعالها في قوّتها وفخامتها.

و لا ننسى كذلك أن يشمل هذا التكريم ، جيشنا الوطني الذي ننتمي كلّنا إليه و الذي يفخر به شعبنا و ذلك بردّ الاعتبار له رسميا لأنه كان و لا يزال يرتفع شأنه عند كل تدخّل والذي نأمل أن يناله وسام الشّرف و البطولة ، وسام ثورة الحرية و الكرامة، ثورة 14 جانفي .

ومن ناحية أخرى فلا بدّ للعدالة أن تأخذ مجراها تجاه من تواطأ في هذه الدّسائس و تجاه من انساق فيها بقصد أو من غير قصد، و ذلك حتى لا تتكرّر أبدا، و يقف كل واحد منّا عند أخطائه،و يعاقب الظّالم و ينصف المظلوم و تشيع بذلك العدالة بين النّاس ونجتنب الثأر لأنفسنا و لعرضنا و شرفنا...

إنّ أمنيتي مثل بقيّة أمنيّة إخوتي في السّلاح هي أن يتمّ ردّ الاعتبار هذا في موكب احتفالي رسميّ تسوده كلّ الهيبة و الوقار ، و نأمل كلّنا أن يتمّ ذلك خلال مهرجان يرفع فيه العلم و يمتشق فيه السلّاح و تعزف فيه الأهازيج وتسند فيه أوسمة الثّورة المباركة ثورة الحريّة و الكرامة لهؤلاء العسكريين و غيرهم حتى يشعروا بأن شرفهم رفيع و كرامتهم منيعة .وانّ هذا التكريم في الحقيقة هو للأسرة العسكرية عامّة و للمباشرين من العسكريين خاصّة.

و لبلوغ أهدافنا المشروعة في وضع حدّ لهذه المظلمة المتواصلة فصولها منذ 1991 إلى اليوم ، أناشد كلّ القوى الفاعلة و الضّمائر الحيّة داخل الوطن و خارجه من قضاة ومحامين و إعلاميين وأحزاب وجمعيّات ، إلى الوقوف إلى جانبنا و تبنّي قضيّتنا العادلة و معاضدة مساعينا حتى استرجاع كل حقوقنا المسلوبة ظلما و قهرا ، إذ أنه بتحقيق هذا المطلب و لا شيء دونه ، يمكننا نحن و عائلاتنا و أهلنا و ذوينا ، الشّعور بعزّة الانتماء إلى وطننا و شعبه بعد ما يزيد على العقدين من الإقصاء و التهميش و مرارة الشّعور حتى اليوم بالغبن و الغربة ونحن بين أحبّتنا و في ربوع وطننا العزيز.

وعلاوة على تمكيننا من استرداد حقوقنا و كرامتنا و اعتبارنا ، سيمكّن ذلك أيضا كل من لم يبلغه بعد خبر حدوث الثّورة في تونس ، أن القبضة الحديديّة التي خنق بها الرئيس المخلوع مجموعة من خيار المؤسّسة العسكرية التي أنجبته ، و أدار بها أجهزته القمعية طيلة ربع قرن ، فانّ هذه اليد قد بترت يوم 14 جانفي الماضي و فرّ صاحبها بلا رجعة .

و ما كان هذا ليحصل لولا تواطأ وزيري الدّفاع الحبيب بولعراس سنة 91 و عبد العزيز بن ضياء في 92 و القيادة العليا للجيش آنذاك .فعوض أن ينبري هؤلاء لحماية مرؤوسيهم ، وهم صفوة إطارات الجيش الوطني.عوضا عن ذلك قاموا بتسليمهم فريسة ينهشها أعوان أمن الدولة و البوليس السياسي بوزارة الداخلية للاشتباه في انتمائهم لحركة النهضة و التدبير لمؤامرة قلب النظام ،تحبك و تعدّ ب"براكة الساحل" يوم 6 جانفي 1991 ، مقابل امتيازات و ترقيات وتعيينات هنا و هناك...

لذا فانّي أتوجّه إلى حكّامنا ، و كذلك إلى الطّبقة السّياسية الحالية و المقبلة ، و إلى مكوّنات المجتمع المدني ، إلى القطع مع الماضي القريب الذي كان يقصي الجيش و خاصّة إطاراته من كل اتّصال أو مشاركة أو تعاون في خصوص التفكير و إعداد تصوّرات المجتمع المدني مما حال دون إثراء هذا المجتمع و حرمانه من مساهمات هذه الطاقات المهمّشة. و أعتقد أن الوقت قد حان و الفرصة مناسبة لينبذ حكّامنا و سياسيونا و بصفة نهائية كل تحفظ تجاه هذا الجيش الذي أثبت بصفة دائمة أنه مخلص و وفيّ لمبادئ الجمهورية.

واعتبارا لمستوى و لقيمة إطاراته فانه يجدر بنا، كما هو الحال عند الشّعوب المتطوّرة، أن يشارك الجيش ولما لا في ممارسة حقّه في الانتخاب،ونحن على أبواب صياغة دستور جديد، و في صياغة التصوّرات المصيريّة المحدّدة لمستقبل بلادنا، و بما أن الجيش هو من ينبري لمواجهة الأخطار سواء كانت مصادرها داخليّة أو خارجيّة.فانّه من البديهي أن يكون شريكا أساسيّا في اتّخاذ القرارات الكبرى لأنّ رأيه قد يكون حاسما في العديد من الاستشارات و الاستخارات.

إن العسكريين مواطنون تمام المواطنة، يدفعون ما عليهم من ضرائب، سبّاقون للاستجابة لنداء الوطن كلّما داهمته الأخطار باعتبارهم سور للوطن يفدوه أثناء المحن،و لأنّ العظماء لا يظهرون إلا في الشّدائد ،فالواجب يملي أن يتبوّأ الجيش ما يليق به من مكانة داخل الثكنة و خارجها.

محسن الكعبي

ضابط مهندس و أستاذ بالأكاديمية العسكرية سابقا


No comments: