بسم الله
الرحمان الرحيم
والصلاة و السلام على سيد المرسلين و
صفوة النبيين و خير الخلق أجمعين
ربي اشرح لي صدري و يسر لي أمري و أحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
أخي الكريم
راشد: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته و بعد،
لقد حرصت
أن اكتب لكم هذه الرسالة مريدا بذلك وجه الله أولا و تذكيركم فيه ثانيا و لفت انتباهكم إلى بعض
الأخطاء ثالثا و شعاري في ذلك قول الرسول
صلى الله عليه و سلم " إنما الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله و لرسوله و
لائمة المسلمين و عامتهم ." و كذلك قول الفاروق عمر رضي الله عنه" لا خير فيكم إن لم تقولوها و لا خير فينا إن لم نقبلها "
و قوله كذلك"رحم الله امرئ أهدى اليّ عيوبي" و كذلك قول الإمام مالك رضي الله عنه " كل
راد و مردود عليه إلا صاحب هذا القبر".
و يقول الإمام
الغزالي في الإحياء : أن كنت تريد أن تكون بصيرا
بعيوب نفسك:
- فاتخذ
صديقا صدوقا يبصرك بعيوب نفسك فيعينك إذا تذكرت و يذكرك إذا نسيت
- اتهم
نفسك و انسب اليها كل ما تراه خطأً
عند الآخرين ثم احرص على أن لا تقع فيه.
ـ راجع
نفسك في كل ما يقوله أعداؤك فيك و خذه بعين الاعتبار فان عين السخط تُبدأ المساوي و
العيوب.
أو كما قال رحمه الله.
و من هذا
المنطلق ، أردت أن أُذكرك ببعض التصريحات
و المواقف سواء كانت مكتوبة أو مسموعة،
قريبة في الزمان أو بعيدة ، و التي يرى البعض أن الأحداث قد تجاوزتها لكن للأسف التاريخ لا
يمكن يتجاوزها أو ينساها هذه المواقف أضرت
بالحركة في الماضي، و تضر بها في الحاضر و المستقبل هذا أن صح أن هناك
اليوم حركة بالمعنى الذي كان يعرفنا عليه
الأصدقاء و الأعداء في السابق . تصريحات و
مواقف تؤلم الإخوان و تحرج الأصدقاء و تؤلم و تسر الأعداء في آن واحد فيكون ذلك
مبررا لمزيد الاضطهاد و التنكيل بإخواننا و عائلاتنا في الداخل ،و ورقة رابحة
للتأليب علينا و على الظاهرة الإسلامية ككل في الداخل والخارج
. هو تصريحكم مجلة لبوان الفرنسية بتاريخ أفريل
95 . و لا أريد التعليق على كل ما جاء
في التصريح و لكن سأكتفي بالوقوف على نقطتين فقط :
- الأولى عند سؤالكم عن الجماعة المسلحة
الجزائرية، و الذي كان الرد غير واضح بل يفهم منه التأييد الضمني لما تقوم به
الجماعة اليوم باسم الإسلام و باسم الجهاد في سبيل الله و يؤيد هذا الفهم صمت الحركة و عدم صدور أي بيان في هذا الشأن و
في التجاوزات الخطيرة لهذه الجماعة، بل كان في أحسن الحالات مثل موقف أبي سفيان يوم
احد من التمثيل بسيدنا حمزة "ما أحببت و ما كرهت وما أمرت وما نهيت"
وفى أسوءها التَأييد المطلق مثل ما يقوم به الشَيخ صالح.. ولا
يدرى الجميع لماذا هذا السكوت عمن نصبوا أنفسهم أئمة، وأعطوا لأنفسهم صلوحية الفتوى
فأحلوا دماء الأبرياء و دماء إخوانهم بعد
ما أفتوا في زندقتهم، و الحال أن هؤلاء
الذين أُهدر دمهم كانوا أكثر منهم علما و معرفة باللَه وحدوده. ألم يذبحوا الشيخ بوسليمانى ، ومن بعده أخيه "لحسن"؟
ألم يسكفوا دماء كثيرا من أئمة ينتمون أو يتعاطفون مع حماس ؟ آلم يحاولوا اغتيال
الشَيخ محفوظ لولا ألطاف اللَه؟ وقد قٌّتل سائقه (و هذا ما يؤكده مصدر موثوق من حماس ).
نعم لقد صدر عن الحركة
بيان استنكار عند استشهاد الأخوين تماما مثل ما صدر عن بقية الأحزاب الصَديقة
لحماس. و لكن هل صدر موقف قبل فوات الأوان و حصول حوادث الاغتيال-أي منذ صدور
الفتوى في هدر دماء اخواننا في حماس وهم
الأقرب إلينا تصورا و تفكيرا.
إذن لماذا تقف الحركة
كل مرَة تؤيد الجبهة بصوابها و أخطاءها و مكيلة في نفس الوقت الإهانات لإخواننا في
حماس (ما صرَح به الشيخ صالح عديد المرَات وسكوت
الحركة عليه) حين أبوا هؤلاء الدخول بإخوانهم والمشروع الإسلام مي في
مغامرات غير مضمونة العواقب.
سيدي الشَيخ :
أنا على يقين تام لو
أنَك اخترت لنفسك أن تكون المؤلًف بين الفرقاء وإبعاد شبح العداء بين الإخوة في الدًين
والوطن منذ البداية لاستطعت ولتيسَر لك الأمر دون غيرك من حركتنا،
وذلك لما تتمتع به من احترام لدى الجميع سواء كانوا
إسلاميين أو علمانيين، فتكون بذلك قد أصلح وأنقذ الله على يديك الجبهة
خاصة، و
الصحوة عامة، و
لتجنبت الجزائر نارا أتت هناك على الأخضر و اليابس، وقودها الإسلاميون، أمّا
مؤججها
وحمَال الحطب فيها،
فهو
اليسار الفرانكفوني. لكن للآسف ، بقدر ما كان موقفك معتدلا من الجميع
أيام كنت هناك سنة 1991 بما في ذلك النظام القائم آنذاك، بقدر ما كان انحيازك للجبهة كبيرا على حساب الآخرين
بعد خروجك من الجزائر دون أدنى تقدير للإنعكسات السلبية على إخوانك من أبناء حركتنا هناك التي قد تحصل، بل قد
حصلت بالفعل من طرف النظام هناك .
إن الدمار الذي حل
بالجزائر اليوم و الجراح البليغة و
العميقة التي تؤلم الإخوان هناك ( أُمهات،
أباء، أبناء )،
الشيء
الذي كان المسلمون و المشروع الإسلامي هناك إلى زمن قريب في غنى عنه. كل
ذلك تتحمل جبهة الإنقاذ فيه
المسؤولية أمام الله و أمام العباد دون إسقاطها أو
نفيها عن الطغمة العسكرية و اليسار الانتهازي الذي أصبح قوة يؤثر بعدما كان شبحا
تافها في الماضي.
فالله قد أتاح للإسلاميين هناك فرصة لم
تكن لغيرهم من
إخوانهم في العالم، آلا و هي التأشيرة
القانونية لحزب سياسي ، وهو الشيء الذي طالما ناضلت حركتنا من أجله منذ تأسيسها. لقد كان بإمكان الجبهة
الإسلامية للإنقاذ بعد الوجود القانوني و نعمة الفوز بالانتخابات المحلية و
البلدية أن تتجه إلى بناء المشروع الإسلامي و تعطي القدوة الحسنة في ذلك دون إقصاء
للغير أو تلهف إلى سدة الحكم، فتعمل
بذلك على إصلاح ما أفسده المفسدون بالحكمة و العقل و الصبر و فقه الواقع و عدم الاستهانة بالخصم و الاستخفاف به و الابتعاد عن المزايدات السياسيّة التي أدت بها إلى
الدخول في مغامرة إضراب 27 ماي 1991 الذي كان نقطة تحول في تاريخ الحركة و البلاد
عموما فعملت على إضعاف السلطة المدنية الحاكمة آنذاك و تهميشها و الحال أنها صاحبة
فضل الحريات و التفتح في ذلك الوقت، فآل الأمر بعد ذلك إلى حكم الجنرالات ، و
الحادقين على الإسلام و أهله، و هكذا حرصت الجبهة على الإنفراد بالكل فضاع منها
الكثير، و تسرعت الأمر فتأخر، و ظنت أن الأمر بسيط و هين
كما ظن قياديو حركتنا من قبلهم
فكان العكس . هذا ما فقهه إخواننا في
الشرق و الذين اتهمتهم في تصريحك المذكور بأنهم أقل تفتحا من إسلامي
المغرب العربي، فأين هم و أين نحن؟ و هاهي اليوم -و الحمد لله -جبهة الانقاذ
و بعد 4 سنوات تعي ما كان غائبا عنها في السابق، ألا وهو العمل داخل الإتلاف و
الجلوس مع كل الوطنين للانطلاق من أرضية مشركة للعمل: (اتفاقية روما سان جيدو) .
أقول هذا
الكلام من منطق العقل لا العاطفة، والقلب
والله ليقطٌٌٌٌٌٌٌُُُُُُعه الأسى و الحسرة و الأسف
كلُما أسمع أنٌ دمٌا من دماء إخواننا
أساله الطغاة، أو أن بريئا قتل و لا يدري لماذا قتل. قال جل
وعلا: " من أجل
ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من
قتل نفسا بغير نفسٍٍِِ أو فساد في الأرض فكأنًما قتل الناس جميعا و من أحياها
فكأنما أحيى الناس جميعا ".
هذه وجهة نظر أردت أن أسوقها و لو أنها ليست هي
الموضوع الأصلي في الرسالة.
أما النقطة الثانية
و هي التي تتعلق بموقفك من حادثة "تمغزة"و تصريحاتك المتناقظة في
البداية و النهاية:
- ففي البداية:
عندما سئلت من طرف مراسل "لموند" الفرنسية بررت العملية ضمنيا
و قلت "أن النظام التونسي هو البادئ و يتحمل مسؤولية في ذلك، فما كانت
العملية لتقع لو لم يرسل هذا الأخير بعناصر من فرق "مقاومة
الإرهاب " إلى الجزائر لقمع الإسلاميين هناك" .... ألا ترى أنك قد تسرعت
في إعطاء موقف الحركة الذي يجعلها في حرج و خاصة في الداخل و أثاره السلبية على
إخواننا هنالك؟ بل كنت سبٌاقا في ذلك قبل حتى أن يتبين الأمر للجميع ويتّضح
القائم بالعملية . أهم حقٌا الجماعة المسلٌحة الجزائرية؟ أم عناصر الفرق الخاصة
للمخابرات الجزائرية؟ أم تصفية
حسابات داخلية؟ أو "عمل مشترك"
مثل ما تبيٌن لك بعد ذلك.
إنٌنا لا ندري إلى
اليوم لماذا هذا التسرٌع و التساهل في التصريحات
و خاصة في المواضيع الحساسة مثل هذه؟ و كأنٌ لا بد من العمل بقاعدة
"لكل سؤال جواب ". ألا يكون أجدى
و أصوب و أنت المسؤول الأول عن حركة سياسية :أن تستنكر العملية بشدٌة
أوٌلا، ثم تلتزم الصمت على الباقي حتى
يتبين لك الأمر و بعد ذلك يكون رأيك - الذي
هو رأي الحركة - بكل روِية ؟
فهذه ليست المرة الأولى
التي يجرك فيها الإعلام إلى الإدلاء بتصريحات
قبل التثبت في المصدر و الموضوع .
ففي صائفة 92 و أثناء محاكمة الأخ"الحبيب
لسود " افترى مراسل إذاعة لندن "التونسي نبيل
البرادعي "أن الحبيب لسود أعترف أنه
من حركة النهضة و هو يعمل بأمر من قيادتها كما أنه معه شريط سمعي يؤكد ذلك. فكان
ردك سريعا و في نفس اليوم للإذاعة المذكورة بالتكذيب و البراءة من لسود بل رحت تبرهن على أنك رجل حوار بالدليل أنك قابلت "السيد الرئيس" يوم كذا و
كذا... وهو كلام لا يليق و الحركة في قفص
الاتهام آنذاك . و كما أظن أنك لم تستمع للشريط المذكور، فلو كنت استمعت إليه لكانت إجابتك بأكثر راحة و موضوعية. ثم يأتي المراسل الأصلي
للإذاعة في الغد ليقول ما خلاصته "أن
لسود لم يعترف بعلاقته بالحركة و ليس له
أي ارتباط بقيادتها و هو يحتمل مسؤولية كاملة في ذلك وحده، هذا ما صرح به
أمام المحكمة". يقول تعالى"يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا
أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما
فعلتم نادمين.
سئل الإمام مالك رضي
الله عنه عن 49 مسألة فأجاب في 33 منها "لا أدري ". هذا الإمام
مالك يمتنع عن الإجابة في مسائل يعلمها. فقط، له فيها بعض الريب.
إلا أن المؤسف في هذه
التصريحات هو التناقض. فبعد مدٌة و جيزة
من حادثة "تمغزة " تفاجىء الجميع كالعادة بتصريح مجلة "لبوان " Le Point الفرنسية لتؤكد هذه المرٌة ضلوع
إسلاميين تونسيين من جبهة الإنقاذ FIT في العملية "وهي ما كانت لتقع لولا
مشاركة هؤلاء،" ثم تواصل و تكشف البطاقة عدد 2 لهذه الجماعة و تقول ما
خلاصته: "إنٌها تأسست سنة 1986 و هي
تتهمنا بأنٌنا ضد العنف".
وإلى حد الآن،
لا يعرف الكثير من أبناء الحركة مدى الفلسفة التي دفعت بالشيخ، وهو المسؤول الأول في حركة إسلامية إلى هذا
التصريح و في هذا الوقت بالذات:
- أهو الأمل في بداية عهد جديد مع نظام "بن
علي"... تكون "الثقة فيه كبيرة
" بعد الله تعالى ...؟
- أم محاولة الضغط على
النظام و دفعه إلى الحوار معنا. وهنا يمكن
أن نلتقي معه على أرضية إدانة التطرٌف و المتطرٌفين؟
- أم كلام موجه للغرب دون غيره للتأكيد على سلمية الحركة؟
سيدي الشيخ:
أريد أن أسألك بعَض الأسئلة لعلنا نجد لها عندك
جواباً. لقد
أردتَ أن تتبرأ من هؤلاء وأعمالهم و تُظهرهم بالجسم الغريب عن الحركة و طبيعتها و مسارها.
- هل تظن أن هذا كافٍ لإقناع الغرب و النظام و حتى
بعض من الرأي العام وذلك
بعد كلَ الذي حصل منذ87 إلى اليوم...؟
ـ ما رأيك فيما يدعو إليه الشيخ صالح كركر و يدعمه
و يؤمن به؟ أليس
صالح من المؤسسين للحركة و عضويته فيها ما
زالت قائمة إلى حد الساعة؟
- شريط مسموع سجل عام
91 و فيه تقول "سدٌوا عليهم المنافذ أنهم جبناء" ..." نحن مستبشرون
بكثرة الضحايا نحن مستبشرون بكثرة الدماء". أهذا كلام
يوافق طبيعة الحركة أم يخالفها؟
ـ الاعتقالات المرتبطة
بالشيخ صالح سنة 93- 94 في تونس؟ في أي
خانة تُصنٌفها؟
سيّدي الشيخ:
لعلك
لم تتطلع عمّ جاء في تقرير وزارة الداخلية الفرنسية العام الماضي بعد إبعاد للاخ
صالح من باريس والذي ما كان ليكون ما ذُكر فيه لولا
أخطاء الحركة والتي لم تتعظ بها في كل مرٌة
و من هذه الأخطاء:
ازدواجية
الخطاب:
فرغم التأكيد في كل مرة على طبيعة الحركة السلمية الديمقراطية فأنها لم تستنكر
و لم تتخذ قرارات حاسمة في الذين يخالفون خط الحركة سواء في التصريحات أو في
الأعمال بدأ من الذين تسبٌبوا في تفجيرات 87 و التي كادت أن تقضي على الحركة آنذاك
و قد دفع ثمنها بعض إخواننا ( محرز رحمه الله و البقية) إلى الذين دفعوا بالمجموعة
الأمنية إلى التحرك سنة 87 إلى المتسببين في أزمة 91، إلى تنطع الشيخ صالح كل مرة،
كل هذا جعل الأعداء يحملون الحركة مسؤولية هفوات الآخرين سواء كانوا من أبناء ها
أو خارجها و تكون فرصة للتشكيك في نوايا الحركة و مبررا لضربها و إقصاء ها.
سيدي الشيخ :
إن تبرَؤك من هؤلاء (أي الجبهة التونسية
للإنقاذ) أو مجرد ذكرها و الكتابة عنها في الصحف يجعل منها كياناٌ و زعمات
، في حين أنهم مجرد أشباحٍ سذج لا يعيشون عصرهم، و لا يُريدون فهم واقع الأمة
اليوم. و إلا كيف يدعو هؤلاء إلى الجهاد و تحرير تونس
و هم المتربعون وراء البحار في أوروبا؟.
سيدي الشيخ:
قبل أن تستنكر الحركة ما يقوم به غيرها من أخطاء
أو تهوَر كان أولى و أجدى أن تستنكر و تحاسب الحساب العسير الذين ترجع لهم
المسؤولية في كل ما جرى منذ 90 إلى اليوم و الذين دفعوا بالحركة إلى نفقٍ مظلم و
أزمة رهيبة أصبحت بموجبها شبحاَ مخيفاَ بعد ما كانت كياناَ صلباَ يفتخر به الأبناء و يتودد إليه الأصدقاء و يقرأ
له ألأعداء ألف حساب، و صار أبناء الحركة اليوم في ثلاث مواقع لا رابع لها:
- إما في غياهب السٌجون و زنزانات الدَاخلية.
- أو في السِجن الواسع
والحصار المادي و المعنوي . (والذي لا
يقلُُ شدَة عن الأول)
- أو مشرَدين
في كافة بلدان العالم تقريبًًًًًًا، لا
للدعوة و البلاغ المبين، بقدر ما هو بحث عن الأمان و ضمان لقمة العيش.
سيدي الشَيخ:
إنَ الحركة قد جنت على نفسها و على أبنائها (وهو
رأس المال) و أتت على نضالها طيلة عقدين من الزمن، بل حتى نضالات الذين سبقوا، كما تسببت في ضرر المشروع الإسلامي في السَنوات
الأخيرة.
لقد جنت
على نفسها عندما استعجلت الأمر وعملت
لجيلها أكثر ما عملت للأجيال القادمة، فأرادت أن تزرع
و تحصد وتأكل الثًمار في زمن واحد، ظنًا منها أن ما أفسده المفسدون عبر
السِنين و الذي تطبَع به الشَعب التُُونسي- والذي لا أبالغ في القول حين أقول أنَ البورقيبية قد أثَرت حتَى في أبناء الحركة
الإسلامية في بعض جوانب الحياة - يمكن إصلاحه في عقدين أو
ثلاث من الزَمن. ومن ثمَ، إستبسطت
الأمر، و استخفت بالخصم، و خاضت بأبنائها و المشروع الإسلامي مغامرة غير
مضمونة العواقب، و لا واضحة التفاصيل، و بقوى غير متكافلة، مستغلة في ذ لك طاعة و ثقة القاعدة فيها والحال
أننَا لم نتخلَص من آثار عدوان سنة 87 الأليم. فسقطت الحركة بسرعة لم يكن يتخيلها
يوماً أحد من أبناءها و لا حتى الخصوم و المتربصون بنا أنفسهم، فخلت لهم الساحة من
بعدنا ، و خفتت الأصوات المعارضة، فإما آثرت الانزواء و الصمت ،أو جاءت إلى النظام
صاغرة ذليلة، و خفت كذلك النضال في
الجامعة و النقابات رغم تدهور الحالة الاجتماعية و مرارة العيش. و أصبح الشعار
اليوم للجميع كما يقول المثل التونسي" زلاط يسكٌت
العياط".
- أما الضرر الذي لحق
بالمشروع الإسلامي: هو عندما أوغلت الحركة في
الخطاب السياسي على حساب الدعوي، وحرصت
على تسييس كل شيء و خاصة بعض المواقع الحسٌاسة
مثل المساجد و المعاهد و بعض المنظمات،
فكُنسنا منها سواء بقوانين رسمية ( مثل قانون المساجد ) أو بالتوصيات
الداخلية و المناشير. فعاد الأمر أسوء ما كان عليه في أحلك فترات حكم بورقيبة.
وللمواطن العادي أن
يتساءل اليوم : ما هي المكاسب التي تحقٌقت مع الظهور السياسي لحركة النهضة؟
سؤال لو طرحته الحركة على نفسها لكان استهدافنا للبورقيبيٌة القبيحة أكثر من استهدافنا لبورقيبة شخصيا الذي سقط و لم
يسقط مشروعه. لقد ساهمت الحركة في إسقاط "بورقيبة" سنة 87 بل عجٌلت
بإسقاطه دون أن يكون لها نصيب من الإرث سوى الجراح البليغة، و قد كان
بإمكانها أن تسعى إلى المحافظة على نظام العجوز المريض حتى تتمكن أكثر من مؤسسات
المجتمع بالمشاركة و تقترب أكثرٍ من الشعب
بالعمل المدني. و الابتعاد عن مواجهة السلطة والتأليب عليها مثل ما فعل إخواننا في
السودان مع نظام "النميري" رغم
سخط السخاطين آنذاك من المزايدين .
لقد سيطرت عقيلة
العمل الطلابي على الحركة و قراراتها و أصبحت -هذه العقلية- هي قائد الحركة في
عملها السياسي و صارت كثير من المواقف لا
تفهم إلا في إطار "الأكثر ثورية
هو الأكثر تصعيد"
خصوصا بعد سنة 88. فبالمزايدات و الخوف من النعت بالعملاء أو الرجعيين ضاعت
عنٌا كثير من الفرص؛ من أهمها الدخول في
تحالف مع الحزب الحاكم في انتخابات 89 ، و التي لو فعلتها الحركة آنذاك لربحت هدنة
بخمسة سنوات و لاستطاعت بذلك لملمة و تضميد الجراح السابقة و لقدمت فيها الكثير
للمشروع الإسلامي و لقطعت الطريق على اليسار الانتهازي الذي فهم اللعبة قبل أن
نفهمها.
ثم جاءت حرب الخليج،
لتظهر الحركة فيها على لسان رئيسها أكثر تقدمية من القوميين و النظام ، و وقفت
تؤيد طاغية تاريخه ملطخ بدماء المسلمين، خسرنا بموجب هذا الموقف الأصدقاء و
العلاقات.
سيدي الشيخ:
سنة 93 و بمناسبة شهر
رمضان المعظٌم سجلت شريطاً متوجها به إلى أبناء الحركة تهنئهم فيه حلول
الشهر الكريم و تذكرهم فيه الله و تحثهم على زيادة الخير، و رفعا للمعنويات. و هذا
عمل مشكور و هو حق المسلم على المسلم لتجديد الإيمان الذي يبلو كما يبلو الثوب.
إلا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فلقد ذكرت فيه فقرة خطيرة لا أدري أهي بقصد
أم بغير قصد؟ و هي كما يلي حرفيا و بصوتك مع العلم أن الشريط المذكور مازال
محفوظا:
"فالحركة إذن، هي قوة في الداخل في قلوب الخلق وهي في الجامعة
وهي في النقابات وهي في الأرياف وهي في
الإدارات وهي في خيرة من رجال الجيش و رجال الشرطة و كل مؤسسة من مؤسسات البلاد
للحركة فيها نصيب. فلا تظنوا أن الحركة يعني خلاص، أنه ناس في السجن و ناس في المهجر
و ناس ماتت معناها خلاص، معادش عندنا حركة، و مازال فقط رأس الحية البرة كيما قال
الطاغي توه نقضيو على بعض ناس و ينتهي الأمر- كبرت
كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا-" انتهى.
- أسألك بالله يا شيخ:
أهذا كلام يقال و يُسجل على شريط؟ و أنت أعلم أبناء الحركة بهذه المؤسسات المذكورة و كيف كُنست بعد 87 و
أصبحت قاعا صفصفا لا من الإسلاميين فحسب بل حتى من الذين يقومون بالحد الأدنى
من الشعائر أو ممن يُشتم منه أن في قلبه ذرة من التعاطف معنا. كما أنك تعلم أن
النظام اليوم يعرف و يعلم عن الحركة و من الحركة ما لا يعرفه أبناؤها عنها.
- أتقول هذا الكلام
قناعة و يقينا؟ أم تمنيا و رفعا لمعنويات أبناء الحركة حتى يعيشوا على الأمل سنوات
أخرى كما كان الحال سنة 91.؟
- ألا تعتبر مثل هذه
التصريحات تجاوزا لإخوانك.؟ كلام لو قاله غيرك لقامت عليه الدنيا و لم تقعد و
لأخذت في شأنه القرارات الفورية كما كان الحال مع بعض الأخوة و لا أريد أن أذكر
الأسماء.
وهنا يتساءل الجميع
أين هم الذين يحيطون بك؟ والذين من
واجبهم أن يذكّروك إذا نسيت، و يُعينونك إذا تذكرت، و يقدموا
النصيحة بطلب و بغير طلب، مع تجرد
تام من العاطفة و المجاملات، ومع التقدير
لوضعية الأخوان في الداخل و الخارج.؟؟؟
سيدي الشيخ:
من منطلق الأمانة، و من
منطلق النصيحة لله، و من منطلق حبل الإيمان الذي يربطنا، و المبادئ التي تجمعنا،
أقول لك: اتق الله... اتق
الله في إخوانك سواء الذين في السجون الضيقة أو الواسعة، أو المشردين في كافة أنحاء العالم تقريبا، والذين يتجرعون
اليوم مرارة هزيمة لم تكن في الحسبان، ولا بهذا الشكل، و مرارة ضياع عقدين من
الزمن، بين أسف و حسرة على ما عليه بلادنا اليوم من مستقبل مجهول، و نفق مظلم في
ظل صولة الطغيان، و هو الشئ الذي لم يقع حتى في عهد عنفوان الطاغية "بورقيبة".
اتق الله في
أقاربنا، و أصدقائنا، و متعاطفينا الذين دفعوا و يدفعون الضريبة غالية كل يوم أكثر
في بعض الأحيان، من أبناء الحركة
الحقيقيين و هم المعنيون بالأمر و المسؤولون عليه أولا و آخرا. اتقوا الله في
هؤلاء جميعا و فكروا في معاناتهم المعنوية في الداخل وأعملوا على الاقتصاد
في لعنتهم لنا، ولا تدفعوا بهم إلى الفتنة أكثر مما هم فيه.
سيدي الشيخ:
إن أبدعت بعد خروجك من السجن في إخماد نار العدى
و طمأنة النظام و المعارضة و تحقيق بعض المكاسب كحفظ القضية الأمنية و خروج
المساجين و تحقيق شئ من الانفراج الذي أعطى للحركة الفرصة لتضميد الجراح و
الانتعاش قليلا، فإن خروجك من البلاد كان
له الأثر السلبي عل الساحة و ألحق الضرر بالحركة، وهي التي تهجّرت يوم قررت أنت الهجرة منذ سنة 89. فكنت أنت
الذي تصنع الحدث ثم تجر الحركة إليه في الدَاخل و ليس العكس. فكثير من المواقف و
التصريحات التي أضرت بالحركة، ما كانت لتكون لو كنت موجودا في الدَاخل، بل لكانت
أكثر اتزانا و معقولية، و مجرَدة من
العاطفة، و لتجنبت الحركة بذلك شراسة أزمة
قد فرضتها على نفسها قبل الأوان، ولما وقعت في فخ اليسار الذي خطط لإجهاض
المشروع قبل ولادته.
سيدي:
إن الملاحظ اليوم في
حياة الكثير من أبناء الحركة في المهجر - و خاصة في أوروبا والذين التحقت
بهم عائلاتهم و استقروا هناك -
يرى بداية التطبّع بالحياة
اليومية للغرب و نقص الحنين إلى الو طن و
التفكير في شأنه و نقص الشعور بأحوال
إخواننا و العائلات في الدَاخل (
أقول نقص و لم أقل انعدم ). بل الأمَرّ من هذا كله فإن الكثير منهم
لا ينوي العودة للوطن حتى ولو سوَيت الوضعية، وهذا ليس
بغريب. فلقد سُوَيت
الوضعية سنة 84 ولم يعد إلاَ القليل، و سُوَيت
سنة 88 ولم يعد إلاَ القليل أيضًًًًًّّّّّا، وهذا
طبيعي ما دام الفرد يعيش في أسرته و بين
أبناءه ، ونمط عيشٍٍٍ ربما لا يتوفر بعد ذ لك في تــــــونس، بل حتى الحركة التي
يريد أن يحافظ على انتماءه إليها هي الآن متواجدة في الخارج.
لقد مر اليوم على تهجير
الحركة حوالي 4 سنوات و إذا ما قيّمنا حصيلة
هذه المدَة نجد أن الحركة قد تأخرت ولم
تتقدَم، وضيَعت ولم تكسب. فرغم المكاتب والمؤسَسات وحرية
الاجتماعات في هذه البلدان، لم تستطع
إلى اليوم فك الحصار على نفسها والخروج من
عنق الزجاجة، و إنعاش
الداخل و تضميد جراحه كما رُفع شعار
ندوة 92. بل الذي حصل
من مآسي في الداخل بسبب الخارج كان أكثر من المنافع ( اعتقالات، محاكمات، مصادرة
أموال....)
أخي الكريم:
إن التَاريخ يعلمنا ما من حركة خرجت من الأرض
الأم إلاَ تكون قد حكمت على نفسها
بالذوبان و الفناء و الدخول في طي
النسيان. و لذ لك،
و من هذا المنطلق،
فإن
إرجاع أمر الحركة إلى أهل الداخل - و لو أنهم لا يقدرون عليها اليوم- هو
أمر حاصل بطبيعة الأشياء فأن لم نُهيىء له نحن
و ندفع إليه، فأنه سيحصل
بانقطاع عنا في الخارج، و ربما لا يكون على الوجه الذي نريد.
ربما يرى البعض في
الفكرة أنها ضرب من الخيال أو دعوة إلى المحال
و لكنها حسب اعتقادي ستكون جرعة مرُ ظاهرها، في حين سيكون باطنها مصلحة
بحول الله تعالى للحركة و المشروع
الإسلامي و ذلك:
- لعدم تطبيع الساحة السياسية عموما بوضعٍ تكون
فيه الحركة غائبة.
- لإعطاء المبادرة لإخواننا في الداخل من
القيادات سواء كانوا في السجون أو خارجها
لتحمل أمر الحركة و التفكير في إعادتها إلى الساحة كيف و متى يتيسر لهم ذلك. فإن
يوجد يوما حلُ للوضع الراهن و إيقاف النزيف فإنه لن يكون إلا من الداخل و بأهل
الداخل و لنا في تجربة الجزائر المثل: فرغم الحرب و القطيعة مع النظام، ما فتىء مسؤولو الجبهة في الخارج يردون الأمر إلى الداخل
و يعلنون للجميع أن قرار الحركة النهائي هو بين أيدي الداخل لا الخارج، و لو أن
هذه القيادات اليوم في السجن أو مشردة. و
من ثم نرى كيف أن النظام هناك في كل مرة يدعو إلى الحوار إلاٌ و يتحاور مع من هم
في الداخل.
- لإحراج النظام و خلط
حسابات الخصوم و تسفيه أحلام الذين ما فتئوا يروجون أن الحركة انقرضت و انتهت
بإنتهاءها في الداخل.
إن سياسة الهروب إلى
الأمام التي تنتهجها الحركة اليوم في
المهجر و مواصلة العمل بنفس الأساليب القديمة بل الحرص على المواقع دون تغير الواقع، كل هذا يجعل من الحركة شتاتا يتلاشى يوما بعد يوم، تخور عزائمه من شعوره بالإحباط، ما لم تنقذ
الحركة نفسها و تجعل حدا لهذا التدهور التنظيمي الذي أصبح يلتهم مكاسب الماضي.
كما لابد من فتح ملف
تقييم حقيقي و جاد، القصد منه التحقيق و المحاسبة ثم الاتعاظ بأخطاء الماضي، و ليس
لامتصاص الغضب و "عفا الله عما سلف".
أخي الكريم:
هذه بعض الأخطاء و
العيوب أهديها إليك بالمفهوم الإسلامي اعتقادا مني بأن السفينة إذا غرقت
فأنها تغرق بالجميع . فمن الواجب التعاون و التناصح في الله و إبداء الرأي بكل
موضوعية راجين في ذلك تقوى الله و رحمته.
فنحن الآن في مرحلة
يتحتم علينا فيها كسب النتائج بأقل التضحيات و التكاليف و الأخطاء،.
فإن قبلت الهدية بصدر
رحب و نظرت إليها بعين الاعتبار فقد اهتديت و انتصرت على نفسك، و أما إن لم توليها
اهتماما و اعتبرتها تجنيا أو تجاوزا ، فإني أشهد الله أني قد بلغت إلى أخ نحترمه و
نحبه كثيرا في الله و لا أحد يُنكر فضله
بعد الله على الصحوة الإسلامية في تونس مع إخوان آخرين منهم من قضى نحبه و منهم من
ينتظر و ما بدلوا تبديلا، و لا أحد كذلك يمكنه أن يشك في تقواك و إخلاصك للعمل
الإسلامي و حسن نيتك و حبك للإسلام و أهله و للوطن الحبيب و حرصك على الإصلاح، و
لكن" كل أبن آدم خطاء و خير
الخطاءين التوابون."
فإننا و الله لنحرص كل
الحرص على أن ننقذ الأخ راشد الغنوشي من أخطائه، و إننا والله لنحب أن نراه دائما
المفكر و المرشد للصحوة الإسلامية.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه
أُنيب.
أخي الفاضل: تقبل مني
أحر التحيات القلبية و أسأل الله لي و لكم المغفرة و التوبة و الرحمة و الثبات و
التوفيق و الهدى إلى الصراط المستقيم.
أخوكم
في الله محمد العماري
حرر بباريس في 08 أوت 1995
No comments:
Post a Comment