Search This Blog

Monday, February 01, 2010

Saloua Charfi


الخبر مقدّس والنّقد
سلوى الشرفي *
لقّنونا، عندما كنّا صغارا، بأن الخبر مقدّس والرأي حرّ، و بأن الفنّ عسير و النقد يسير، وأنّ وجود الحياد مثل وجود الغول و العنقاء والخلّ الودود. لذلك، و لكي نكون أمناء مع قرّآنا، من الأفضل عدم ادّعاء الحياد، بل الحرص على التوازن حسب قاعدة الرّأي و الرأي الآخر.و بعد مغادرتنا مدارج الجامعة، اكتشفنا الكذبة الأولى، فلا الخبر مقدّس و لا الرّأي
حرّ، بل إنّهما في الواقع على العكس تماما. فالخبر حرّ، و الرّأي مقيّد بسلاسل الإيديولوجيات أو الإستراتيجيات السياسيّة.أمّا الكذبة الثانية فتتعلّق بصعوبة كلّ من الفنّ والنقد، و الكذبة الثالثة تتمثّل في أنّ التوازن مثل الحياد مفقود.الخبر حرّ أحيانا إلى درجة الكذب.ليلة شن الحرب الأولى على العراق سنة 1991، أخبرت جلّ القنوات الغربيّة، بالكلمة و الصّورة، عن مأساة الطائر المسكين المهدّد بالانقراض في الخليج، بسبب تلوّث البحر هناك، بعد أن قصف الجيش العراقي مواقع النفط الكويتيّة. و استنتج المتفرّج بأن صدّام حسين مجرم بيئة يستحقّ أن تدكّ بلده دكّا على رؤوس أهلها.الخبر في طريقة عرضه لا تشوبه شائبة نظريّة أو أخلاقيّة، فقد كان راضخا لقواعد الإفادة والجدّة و الآنية والدّقة والإيجاز، إضافة إلى الحجّة المساندة له، والمتمثّلة في صورة الطائر المذكور التي جابت العالم بأسره، و كذلك حجّة السلطة الدّامغة المتمثّلة في مصدر الخبر، و هي أكبر و أعرق و أصدق وكالات الأنباء الغربيّة.غير أنّه اتّضح فيما بعد بأن الصورة مركّبة، و أن لا وجود أصلا لمثل هذا الطائر في منطقة الخليج.أمّا خدعة حرّية الرّأي، فهي لا تستحق برهنة ولا تعليقا لإثباتها.وأمّا مقولة الرأي و الرأي الآخر، فأفضل ما يثبت فسادها نكته، يعرفها الإعلاميون، تقول بأنّه يكفي أن تعطي الكلمة بالتساوي لمدّة خمس دقائق مثلا إلى طفل غزّاوي محروق، وخمس دقائق إلى نتنياهو لتكون أمينا مع القارئ. وبالنسبة لمقولة صعوبة الفنّ و سهولة النقد، فهي لا تقلّ هشاشة عن المقولات السابقة. فالنّقد في حدّ ذاته فنّ، بمعنى الصنعة المتقنة أو ما يسمّى اليوم بالتقنية. و ليس من اليسير على النّاقد الإقناع برأيه، لأن الرأي في النقد ليس حرّا، و إنما هو مضبوط بمدارس و قواعد و منهجيّات يؤسّس عليها الناقد مسار برهنته، و بدونها تنتفي مصداقيّته أو على الأقل لا يصحّ تسمية ما يعبّر عنه رأيا بل مزاجا، يمكن أن يكون معكّرا بسبب خصومة مع فنّان، أو منشرحا بعد سهرة لطيفة مع فنان آخر. في الحالتين إذن، حالة الرأي الحرّ في المطلق و النقد اليسير، يتعلّق الأمر إمّا بثلب و شتم أو بتمسّح على الأعتاب.المشكل في هذه الممارسات هو طابعها الجماهيري المؤثّر، و تأسيسها في النهاية لوعي زائف يخشّب فكر المتلّقي و يحوّل صاحبه إلى بغل طاحونة، لا يدرك من الأشياء سوى ما تسمح له به رؤيته المضيّقة، و الأمر يمكن أن يكون مريحا مثل حال بغل الطاحونة الذي لا يدوخ رغم دورانه المستمر حول نفس المحور، إنّه اطمئنان الغبي السعيد المتأكد من حصوله على الجنة، أرضيّة كانت أم سماوية، لمجرّد إيمانه بأن ما يقّدمه له الذي يفكّر عنه بالوكالة، هي كلمة السر لفتح باب الجنّة.في الإعلام تسمّى هذه الوظيفة، البشريّة البحتة، تحديد الأجندة. إنّه نوع من التنويم بتواتر القول، أو بخفّة اليدين عن طريق الإخراج، تجعل المتفرّج يرى الديك حمارا.ولعلّ أفضل مثال على ذلك ما تبثه قناتان إخباريتان عربيّتان متنافستان سياسيا، تمثّل كل واحدة منها توجّها سياسيا إقليميا مختلفا. واحدة تتّهم نفسها بفعل الممانعة و الأخرى تدّعي الاعتدال. المهمّ، أنه لا ناقة لنا، نحن المغاربة، في هذا الخلاف و لا بعير. و اختيار التمثيل هنا بالناقة و البعير مقصود مدروس، وليس مجرد استسهال بلاغي.المهمّ كذلك، أنه رغم احترام هذين القناتين لقانون القرب الجغرافي و النفساني، و هو ذاته لكلتيهما، مما يجعل في الغالب ترتيبهما للأحداث جغرافيا متماثلا، غير أن الاختلاف يكمن في لعبة التّعتيم و التّضليل.فإحداهما تركّز فقط على الأخبار السارة المتعلّقة مثلا بإيران، و كأن هذا البلد، الذي تفوق مساحته خمس مرات مساحة فرنسا، ملاك طاهر لا يمكن أن تشوبه شائبة، أما القناة الأخرى فهي تركّز فقط على الأخبار السيئة لنفس البلد، وكأنه يمكن لبلد عريق في الحضارة مثل إيران، أن يكون ببشاعة الشيطان. و بالنهاية كتب على المتفرّج الرّكض وراء القناتين اللتين تبثان الأخبار في نفس التوقيت، لكي يتمكّن من تكوين صورة واضحة نسبيّا عمّا يحدث في إيران، فإذا سهت إحداهما عن شيء تذكّرها الأخرى.لكن مالعمل بالنسبة لمن تمّ تكييف ذوقه و قولبة زاوية نظره على إحداهما دون الأخرى؟
* أستاذة الإعلام بالجامعة التونسيّة Saloua.charfi75@gmail.com
(المصدر: جريدة "الصباح" (يومية – تونس) الصادرة يوم 31 جانفي 2010)

tunisnews.net

No comments: