هادي دانيال - كاتب سوري مقيم في تونس
منذ أوائل تسعينات القرن المُنصرِم أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية
على منافسةِ فرنسا وطردها مِن بعض الدول الأفريقية التي تعدّها باريس مناطق نفوذ تقليدية
لمصالحها ، ليس ثقافيا فقط ، بل اقتصادياً أولاً . ذلك إنْ كانت واشنطن قد أفصَحَتْ
مِراراً عن رغبتها في الهيمنة الإقتصادية الشاملة على القارة ولو باستخدامِ القوة الأمريكية
العسكرية (أفريكوم) طَمَعاً في ثروات هذه القارّة البكْر التي استفردَ التنين الصيني
بالتنقيب والإستثمار فيها مقابل المساعدة الفعلية في تنمية دول القارة اقتصاديا وإجتماعيا
، إلا أنّ حكام دول المنطقة لم يلبّوا رغبةَ واشنطن هذه ( وخاصة بن علي ،مبارك، والقذافي)
رغم أنهم جميعا حاولوا التكيّفَ مع السياسة الخارجية الأمريكية وتأديةَ أنشودة العولمة
وصندوق النقد الدولي كل صباح ، قبل أن يدخلوا مكاتبهم في قصورهم الرئاسية، فكانَ ذلك
أحد أسباب الإنقلاب على هذه الأنظمة ، بافتعال ثورات وحروب تحت مُسَمّى "الربيع
العربي" الذي دشّنَتْه بتونس الإدارةُ الأمريكية وباركته ، في غفلةٍ مِن فرنسا
التي احتضنت الرئيس بن علي حينَ عَقَدَتْ واشنطن حاجبيها غضَباً عليه ، اعتقادا من
الأليزيه أنه بذلك يستعيد إحدى "مستعمراته" السابقة ، إلا أن فرنسا التي
لا تزال تصف تونس بالمستعمَرَة ، كما حصَلَ مؤخّراً حينَ قالت إحدى مذيعات قناة فرنسا
24 إن المعارض اليساري شكري بلعيد اغتيلَ في "المستَعْمَرَةِ تونس" ، فرنسا
هذه العجوز المتبرّجة لها في أفريقيا أكثر من مائة قاعدة عسكرية تحمي مصالحها الثقافية
والإقتصادية والسياسية ، فهي فضلا عن امتلاكها مناجم اليورانيوم في النيجر التي تديرهاالشركة
الفرنسية الحكومية "أريفا" ، فإنها أيضاً تسيطر على مناجم الذهب في مالي
والسنغال وترنو إلى وضْعِ يدِها على حقول النفط والغاز ومناجم المعادن الثمينة التي
تم اكتشافها حديثا في "تيلمسي" الأزوادية ، خاصة وأن الشركات الفرنسية حصلت
على امتياز استخراج النفط والغاز إلى جانب شركات كندية في عدة مناطق مِن شماليّ
"مالي" وبخاصة حقل "تاوديني" الذي تبلغ مساحتُهُ 5,2مليون كيلومتر
مربّع ، والذي تتقاسمه مالي مع موريتانيا والجزائر.
لذلك سارعتْ باريس إلى التدخُّلِ العسكري ضدّ التنظيمات الإرهابية في
مالي في حملة استباقية قبل أن تضع التنظيمات الإرهابية الوهابية المدعومة مِن قطر أيديها
وأرجُلَها على هذه الآبار والمناجم.
لكن باريس يحدوها الإرهابي الصهيوني "برنار هنري ليفي" تدعم
بحماسة هؤلاء الإرهابيّين الوهابيّين أنفسهم سياسياً وإعلامياً وعسكريا (بينما الدوحة
والرياض تتكفلان بدعمهم ماليا)على الأراضي السورية مُحاوِلةً دَعْمَ عُمَلائها مِن
حامِليّ الجنسية السورية ، الذين أقاموا سابقا أويقيمون حالياً في مُدُنِها وضَواحيها
مثلَ ميشيل كيلو وصبحي حديدي وآل طلاس وسِواهم ، كي يكون هؤلاء "القفافيزَ السوريّة"
في القبضة الفولاذية الفرنسية ، التي أسّسَتْ لِدَوْرٍ فرنسيّ ، لايصطَدِم بالدّور
الأمريكي ، بل يرفده كما حصَلَ في أفغانستان والعِراق ، إلا أنّ هذا الدّور المُتَّكئ
إلى حنينٍ إستعماريٍّ عريق يتصاعَدُ أكثر ويأخذ منحىً "فرنسيّاً" مِنَ الدّرجةِ
الأولى حين يكون ضدّ زعماء يمتلكون وثائق تُدِين القيادة الفرنسية بدْءاً مِن وثائق
تمويل الرئيس الراحل صدّام حسين حملات ترشُّح جاك شيراك لرئاسة بلديّة باريس فرئاسة
جمهورية فرنسا، وصولا إلى تمويل الرئيس الراحل معمّر القذافي ترشُّح نيكولا ساركوزي
للإنتخابات الرئاسية الفرنسية.
أمّا كيف وجدَتْ فرنسا نفسها في خندق واحد مع تركيا ضد سورية ، رغم أنّ
فرنسا هي الحائل الأول دون انضمام أنقرة إلى الإتحاد الأوربي ، فهذا أمر مِن ترتيبات
الدوائر الصهيو أمريكية، ذلك أنّ شنّ باريس حَرْباً ضَرُوساً على الإرهابيين الإسلاميين
في مالي،وبالمُقابل دَعْم "مجلس اسطنبول" و"إئتلاف الدوحة" كغطائين
سياسيين شفيفَيْن لمايُسَمّى الجيش الحر وجبهة النصرة وسواهما مِن العصابات الإرهابية
المُسلّحة ، يضعنا أمامَ مُفارَقة تفسيرُها يكمن في أنّ حربها في "مالي"
ضدّ إرهابيي تنظيم القاعدة تهدف إلى إبعاد أيّ خَطَر عن مصالحها في مالي والنيجر ،
بينما يأتي دعمُها لنظرائهم مِن الإرهابيين الوهابيين في "سورية" بدوافع
صهيو أمريكية تسعى إلى تدمير الدولة السورية ومؤسساتها كافة والمؤسسة العسكرية كهَدَفٍ
أساس ، في سياق تنفيذ خطّة برنارد لويس التي ترمي إلى تفتيت الدول الوطنية القائمة
حاليا مِن الباكستان إلى مراكش لصالح مركزيّة "دولة إسرائيل اليهودية الكبرى"التي
ستُحاط – وفقاً للخطّة المشؤومة عينها – بدويلات فاشلة تقوم على أسس دينية ومذهبية
وعرقية وربما عشائرية قبَلية ، مما يؤمّن حاضنة إقليمية تُشَرْعِن ليهودية الكيان الصهيوني
.
إذَنْ تَدَخُّل فرنسا العسكري في مالي يهدف إلى حماية المصالح الفرنسية
الإقتصادية ماوراء البحار ، بينما لا يُمكِنُ فَهْمُ تدَخُّلها في سورية من خلال دَعْمِ
العصابات المسلّحة وأقنعتها السياسية إلا من أجل حماية الكيان الصهيوني وأطماعه التوسعيّة
على حساب القضية الفلسطينية التي تتمّ تصفيتُها في هذا السياق.
بهذه المقاربة يمكننا تفسير اندفاع فرنسا وتصَدُّرَها عمليات حربية في
ليبيا ومالي ، وربما لاحقاً في الجزائركمُكافأة مسمومة تعوّض خروجَها من الحرب على
أفغانستان والعراق بخفيّ حنين إقتصاديا.
إنّ فرنسا التي اختارت أن تكون سياستها الخارجية صدى السياسة الخارجية
الأمريكية ، رضيتْ بدور كلب الصَّيْد في الحروب الصهيوأمريكية عبر القارات ، وفي هذا
السياق خفّتْ نسبياً نبْرتُها العدوانية الحادة تجاه سورية ، ولكنّها عملياً لا تترك
مناسبةً لِعَرقلةِ الحوار السوري – السوري إلا وانتَهَزَتْها بلؤمٍ رخيصٍ لا يليق بدولةٍ
عضو في مجلس الأمن ، ومِن هذه المناسبات إنعقاد مؤتمر المُعارضة السورية في جنيف الذي
انعقدَ تحت شعارات نبْذ العنف والطائفية ورفض التدخّل الخارجي والذهاب إلى حوار وطني
تكون الحكومة السورية طرَفاً فيه ، فقابلته باريس بأن نظّمَتْ واحتَضَنَتْ مؤتمراً
لإئتلاف الدوحة في اليوم الذي انعقدَ فيه مؤتمر جنيف ، بقصْدِ التشويش على مؤتمر جنيف
مِن جهة ، ولكي تُناوِر على مقررات مؤتمرالمعارضة الوطنية في جنيف بمؤتمر فضائحي للمعارضة
العميلة لواشنطن وتل أبيب وباريس ولندن وأنقرة والدوحة والرياض ، ومِن ثَمَّ يُملي
الأليزيه على إمام إئتلاف الدوحة أن يُصرِّح مُعرِباً عن استعداده للحوار المشروط مع
القيادة السورية ولكن بشروطٍ تؤكّد أنّ "زعيم إئتلاف الدوحة " أخفّ مِن جناح
بَعوضَة" وكان مِن الأجدى لو أنّ مَن يُسَوّقونه أن يُعيدوا تأهيله كناشط سياسي
ناهيكَ عن تَنْصيبه – مِنَ النَّصْبِ والإحتيال – زعيماً للمُعارضة التي صُنِعَتْ في
مخابر السياسة الخارجية الأمريكية على عَجَل مِن تَخليطِ عناصِر كالخيانة والإرتزاق
والصفاقة وضيق الأفق والتمحُّل الوطني والتطَفُّل الفكري والمراهقة السياسية ، وربما
يلخّص هذا كله تصريحه في حوار أجرتْه معه صحيفة "يديعون أحرنوت" الإسرائيلية
: "إن النظام الجديد في سورية لن يعادي إسرائيل أو يهاجمها".
إنّ فرنسا (السلف نيكولا ساركوزي والخَلَف فرانسوا هولاند) ، تُعَبِّرُ
مَرّةً أخرى عن تدهورِها الأخلاقي الذي أسَّسَتْ له بالحربِ على الفيتنام وبالحرب على
الجزائر ، وكذلك في تقديم الشركات الفرنسية التي بَنَتْ ملجأ العامرية في بغداد المخطَّط
الهندسي لهذا الملجأ مِن أجلِ استِهْداَفِهِ بالصواريخ القادرة على تدميره بمَن لاذَ
بهِ مِن أطفالٍِ ونساء.
وفرنسا الآن ، ومُقابل استفرادها في الحرب على مالي تطمع في أن لاتقتسم
غنائمَها مع أحد ، وبموافقة أمريكية ، تسعى إلى التخلُّصِ مِن الروابط الساركوزية بقطَر،
وفي هذا السياق كشَفَتْ صحيفة فرنسية تعنى بكرة القدم عن تَوَرُّط نيكولاساركوزيه وميشيل
بلاتيني عضو اللجنة التنفيذية للفيفا وزين الدين زيدان لاعب كرة القدم الشهيرخلال اجتماعهم
في الأليزيه إلى الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر في صفقة مفادها أن يصوّت بلاتيني
لصالح استضافة الدوحة فعاليات بطولة كأس العالم لكرة القدم سنة 2022 مقابل استثمارات
قطرية من بينها أن اشترت قطر نادي باريس سان جرمان.
هذا غيضٌ مِن فَيْض فساد الأليزيه ، أمّا تبعيّته للبيت الأبيض الأمريكي
فكان آخِرُ تجلّياتها ، أنّ باريس التي تتشدّق بشعارات الثورة الفرنسية باتتْ واحدةً
مِن عواصم الظلام التابعة لدوائر القرار الصهيو أمريكي مثلها مثل الدوحة وأنقرة وسواهما،
بحيث ترفض تنفيذ قرار القضاء الفرنسي بالإفراج عن المناضل الرفيق جورج ابراهيم عبد
الله ، وذلك استجابةً لِضَغْطٍ صهيو أمريكي مُعْلَن.
ألا يدلّ ذلك على مدى انحطاط فرنسا الأخلاقي وترنُّح سيادتِها الوطنيّة
تحت وطأة التدخُّل الأمريكي والصهيوني في دائرة اتّخاذ القرار الفرنسي المتعلِّق خاصة
بالسياسة الخارجية؟.
وعلى أيّ حال ، لا يخالجنا شكٌّ في أنّ الولايات المتحدة الأمريكية التي
أرهَقَتْها الحروب الخارجيّة ، تدْفَعُ بفرنسا إلى أن تخوضَ الحروبَ الصهيو أمريكية
بالوكالة ، مُراهِنةً على الحنين الفرنسي الإستعماري الذي سيواجه تَمَدُّدَ الصين ويلقى
الضربات الأولى القاسية ، بينما تتقدّم واشنطن الجميع في مواسم الحصاد ، إلا إذا كان
هذا الحصاد مزيجاً مِن الرّماد والهزائم ، فحينئذٍ ستقع تداعيات هذه الحروب على عاتقِ
باريس وحدها، والتي ربما ستواجه ردود الفعل على مواقفها المُتناقِضة في عقر دارها.
No comments:
Post a Comment