جريدة "الصحافة"، الأحد 25 سبتمبر 2011 / ثقافة (ص 9) / لقاءات «الصحافة»
المفكر وأستاذ التاريخ نبيل خلدون قريسة:
الثورة التونسية حدث مفصلي في التاريخ المعاصر
في إطار الحراك الاجتماعي والسياسي الذي ما انفكت تعيشه تونس منذ 14 جانفي والذي كشف بما لا يدع مجالا للشك ضرورة الإنصات إلى النخب المثقفة وتفعيل حضورها وتنمية أدوارها الكلاسيكية والجديدة لبلورة صورة الوطن والمواطن الأكثر وعيا وحرية وتوازنا، تواصل جريدة الصحافة محاورة قامات ثقافية وجامعية متميزة بما تختزنه من رؤى وتمحورات كفيلة بإعطاء الدفع المنشود لحاضر البلاد ومستقبلها. في هذا اللقاء يطرح المفكر نبيل خلدون قريسة أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية وصاحب الإصدارات في مجالات التاريخ وعلم الأنتروبولوجيا مقاربته للوضع التونسي ومواقفه من عديد القضايا الهامة المطروحة على محك الجدل خلال هذه الفترة وذلك على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي.
- كيف تصفون المشهد التونسي في سياق ما يسمى بالربيع العربي؟
في اعتقادي إنّ تونس قد عاشت منذ ديسمبر الماضي حالة ثورية غير مسبوقة في التاريخ الحديث والمعاصر على الأقل بدأت تتبلور من خلالها عملية تغيير جذري يمكن أن يتحول إلى ثورة حقيقية عندما يبلغ هدفه الأسمى ألا وهو إعادة تكوين العقليات وإعادة بناء الأسس السوسيوثقافية للمواطنة الحقيقية.
وهذا الشأن يمثل معنى الثورة كما أرى في تونس وبقية الدول العربية بل وفي بقية العالم لأني اعتبر أنّ الثورة التونسية ثورة عالمية. إلاّ أنّ التونسي الذي فجّرها ليس على وعي بدوره التاريخي الخطير ولا بأبعاد هذا الحدث المفصلي في التاريخ المعاصر، وقد يكون تعوّد على سياسات أبعدته عن تمثل حقيقة موقعه من الواقع العربي خصوصا والعالمي بصفة عامة وحقيقة موقعه الاستراتيجي من هذه الخريطة المشحونة بتعقيدات أزمات الهوية الثقافية والعلاقات الاقتصادية والجيواستراتيجية، إلاّ أنّه اليوم مدعوّ إلى لعب دور البطولة رغم أنفه حتى لو كان لا يشعر بذلك أو يتصوره، فهنا والآن يبني نموذجا تونسيا بأبعاد عالمية أو كونية..
وإذا تصورنا أنّ هذا الدور الحاسم للإنسان التونسي يمكن أن ينجح في بلورة صورة جديدة أو نمط جديد للإنسان في زمن العولمة على أساس المبدأ الذي قامت عليه الثورة التونسية وهو مبدأ الكرامة، فإنّ معادلات كثيرة يمكن أن تتغير في المستقبل المنظور على مستوى الخريطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعولمة.
- هل أن هذا المشهد يمكن أن يؤدي إلى بروز تيارات متطرفة مثلا تستغل الأوضاع الأمنية الصعبة وضبابية العلاقات ما بين التشكيلات الحزبية الحالية؟
عندما يذهب التونسيون يوم 23 أكتوبر إلى أول انتخابات حقيقية في تاريخ تونس كما هو منتظر أو كما نأمله على الأقل، يكون بذلك الشعب التونسي قد خطا أول خطوة فعلية نحو تحقيق أهداف الثورة، وذلك بأن يكون قد ألزم القوى السياسية الحالية سواء منها الظاهر على الساحة أو غير الظاهر المهيكل أو غير المهيكل على التزام أخلاقي أمام الشعب.
فالعملية السياسية التي انطلقت بشكل رمزي يوم 14 جانفي لن يكون فيها أي تراجع. وإنّه على الجميع أن يفهم أنّ المنظومة السياسية التي كانت قائمة قبل ذلك التاريخ لن تعود مهما حاولت بعض الأطراف الإبقاء عليها أو محاولة إحيائها من جديد. أقول "منظومة" ولا أقول "نظام" لأنّ النظام السياسي الجمهوري المدني باق ولا نتصور له بديلا على الأقل من الناحية المبدئية، اللّهم إلاّ إذا كان البعض يريد أن يدعو إلى نظام ملكي أو خلافة أو نظام عسكري الخ..
مع وعينا أيضا بأنّ المجلس التأسيسي من الناحية الدستورية له الصلاحيات الكاملة لتغيير النظام. وهذا من مخاطر اختيار هذا التمشي. لكن على المستوى السياسي فإنّني لا أتصور شخصيا أن يقبل الشعب التونسي بمثل هذه الفرضية.
وأذكّر بأنّ الدساتير ليست لها السلطة الأعلى في المجتمعات، بل هي فقط كذلك بالنسبة إلى القوانين والمؤسسات القائمة. لكن ما يكون دوما المرجع الأعلى في أيّ مجتمع إنّما هي الإيديولوجيا أي فلسفة المجتمع أو عقيدته.
وقد تناسى المهرولون نحو انتخابات المجلس التأسيسي ضرورة فتح حوار وطني حقيقي حول أمّهات القضايا الفكرية المتعلقة بالخلفيات الإيديولوجية والتي على أساسها سيكتب الدستور الجديد وتصاغ القوانين المؤطرة للمؤسسات القادمة.
أما "المنظومة" التي سقطت، والتي نتمنى أن يكون ذلك دون رجعة، وإن كان سقوطها اليوم مبدئيا فقط، وهو زلزال ستكون له تبعات وتردادات في المستقبل إلى أن تنجح الثورة، فالمقصود بها منظومة الفساد المستشري في الإدارة بالخصوص بكل تفريعاتها وانعكاساتها على مستوى عقلية المواطن نفسه، وهذا يتطلب قرارات شجاعة في مستوى الإرادة السياسية وفي مستوى تبني مشروع عقلاني منهجي للتغيير الجذري في المجتمع والثقافة التونسيين حتى تُقتلع آلية الفساد والإفساد من خلال اقتلاع جذور الاستبداد وعودة الأخلاق للحياة السياسية والفعل المدني.
- هل كانت القرارات التي وقع اتخاذها خلال الفترة الانتقالية مناسبة لتطلعات «الثورة-الانتفاضة» التونسية؟
كنت أرجو في الحقيقة أن يكون الوعي بالثورة أعمق لدى مختلف الفاعلين في المشهد السياسي والثقافي التونسي.
صحيح أنّ الشعب التونسي غير متعود على الثورة التي كانت مفاجئة وجديدة علينا، لذلك فإنّ مجمل الطبقة السياسية بما فيها المعارضة لم تستوعب بعد طبيعة هذه الثورة ولم تفهم أنّها ثورة الكرامة التي تهدف إلى إعادة الاعتبار إلى المواطن التونسي، وأنّ هذه الكرامة مفهوم شامل، فلا يُعقل أن يحصل ما حصل. فما حدث هو تواتر عمليات الانتحار الفردي وحتى الجماعي وظاهرة «الحرقان» تمثل شكلا من أشكال الانتحار الجماعي أيضا، وهذا أمر يخجلنا جميعا ويدل على أنّنا لم نفهم هذا المعنى العميق لثورة الكرامة، إذ أنّ مشكلة البطالة لا تهمّ هؤلاء العاطلين عن العمل وحدهم وإنّما تمثّل قضية وطنية تمس جوهر النموذج التنموي المتبع منذ عقود وطبيعة العلاقات بين مكونات المجتمع التونسي من ناحية، ومن ناحية ثانية بين هذا المجتمع وبقية مجتمعات الدنيا.
فعلى المستوى الأول، عمّت ظاهرة الإقصاء والتهميش مناطق واسعة من بلادنا وكذلك فئات اجتماعية مختلفة وتفاقمت ظاهرة الاحتقار على أساس معايير زائفة لم تأخذ بعين الاعتبار أنّنا مجتمع نام لم نرتق بعد إلى مستوى المجتمع المواطني والمتقدم تنمويا، بحيث أنّ مرآتنا لا تعكس الصورة الدقيقة لواقع الشغل وطبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية عندنا. وعلى أساس هذه الأوهام، بنينا تراتبيّات لا شرعية لها. لذلك أرى أنّه من أوكد الأولويات أن نعيد لقيمة العمل مكانتها وأن نكرم العامل في جميع المواقع وأن نجلّ جميع أنواع الأعمال مهما كانت صغيرة أو قليلة الدخل خاصة منها الأعمال اليدوية والحرف والصناعات التقليدية التي توافق البنية الحقيقية لمجتمعنا وثقافتنا التي غطيناها بأوهام التقدم وقشور الحداثة السطحية.
فعندما نعيد إلى هذه القيمة، قيمة العمل، مكانتها ونحارب عقلية الاحتقار وسلوكات التهميش، نعطي لشبابنا الأمل الجديد في الشغل الكريم بل نفتح أمامهم آفاقا واسعة لاندماجهم بصورة مكثفة في مختلف المهن التي عزفوا عنها ونفروا من أدائها بفعل ما ذكرناه من الأحكام الاجتماعية الزائفة.
أمّا في مستوى علاقاتنا بالمجتمعات الأخرى، فإنّ ظاهرة التبعية الاقتصادية بالخصوص قد خلقت لدينا سياسات وسلوكات الاتكال على الآخر الأجنبي والتعويل على إبداعاته وإنتاجاته عوض الثقة في النفس والتعويل عليها في الإبداع والإنتاج على أساس البحث العلمي.
لذلك أهملنا البحث العلمي وهمّشنا الجامعات وازدرينا المثقف وعمّقنا الهوّة بين المجتمع المستعبَد وبين هويته الثقافية المتجذّرة تاريخيا والمنفتحة في آن واحد على القيم الكونية.
إنّ هذه التبعية الهيكلية قد ولدّت بطالة من صنفها، أي أنّ إحصائيات البطالة في تونس تعكس واقع هذه التبعية ولا تعكس طبيعة المجتمع وإمكانيات التشغيل فيه. والمطلوب في نظري أن نتحرر من هذه التبعية التي فرضناها على أنفسنا واستسلمنا لها استسلامنا للحلول السهلة، والشروع بدل ذلك في بناء مشروع حضاري وطني مستقل وجريء واتخاذ القرارات الشجاعة لإعادة هيكلة اقتصادنا على أساس بناء ذاتي يعوّل على طاقاتنا المبدعة ويتأسس على هيكلة جامعية جديدة قوامها البحث العلمي في جميع المجالات بما في ذلك العلوم الإنسانية المقموعة منذ عقود لكونها المدعّمة لاستقلاليتنا العلمية والتنموية.
- ما رأيكم فيما يسمى بالقائمات السوداء في قطاعات مختلفة كالقضاء والمحاماة والإعلام؟ هل هو شكل من أشكال العدالة الانتقالية أم هو يفتح الباب واسعا أمام قانون الغاب ومنطق التشويه وعقلية التنكيل ؟
العدالة الانتقالية مصطلح قانوني يُراد به تحقيق مسار سياسي على أساس المصارحة ثم المصالحة أي المحاسبة قبل التسامح، لذلك لا مفر من هذه المحاسبة في كل ثورة أو مسار ثوري تمر به المجتمعات التي عانت من الاستبداد.
وبالتالي فإن وجود قائمات تشهيرية بأشخاص ومجموعات ساهمت في هذا الاستبداد أو دعمته بصورة صريحة وبأشكال فظّة أمر طبيعي ومنتظر. إلاّ أنّه في نفس الوقت، علينا أن نحذر من الخلط بين ممارسة الاستبداد ودعمه وبين الخضوع إليه والتفاعل مع إمكانيات كسره من الداخل، وهذه الظاهرة نجدها في كل المجتمعات عبر التاريخ، خاصة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية التي عرفت على امتداد قرون أشكالا وألوانا مختلفة من الاستبداد والعسف والظلم.
وقد كان هناك في تاريخنا دور مشهود لعلماء ومفكرين حاولوا من داخل منظومة الاستبداد، المتجذرة في تربتنا الاجتماعية والثقافية، أن يغيّروا المسارات ويصحّحوا المفاهيم ويعدّلوا الاتجاهات السياسية والعقائدية والاجتماعية.
وفي تونس تحديدا، كانت هناك منظومة استبداد أخطبوطية متغلغلة في جميع شرائح المجتمع وفئاته ومؤسساته، ولا أرى أحدا كان بمنأى عن الخضوع لآلياتها الطاحنة والقاهرة، وإذا ما أردنا أن نُعدّ قائمة في كل من تعامل بأيّ شكل من الأشكال وتحت أيّ مسمى وبأيّ هدف مع هذه المنظومة، دون اعتبار لما قد عاناه منها أو كان ضحيّة فيه أو بما يمكن أن يكون قد حاول مقاومته أو تغييره من موقعه في إدارة أو شركة أو جمعيّة، فإنّنا بالتأكيد سنضع في هذه القائمة أسماء كلّ الطاقات الحيّة في البلاد، ولا أتحدّث هنا عن الموالين وحدهم و«الفاهم يفهم».
أرجو أن نغلّب في المرحلة القريبة القادمة العقل على العاطفة، والحكمة على التهوّر، والرصانة على مظاهر البطولة الزائفة والمراهقة السياسية المتعنّتة، وأن نعود إلى قيمنا الأخلاقية الأصيلة المنبثقة من ديننا الحنيف ومن هويتنا الثقافية العربية فيكون لنا متسع من العقل والقلب لقبول توبة التائبين ورفض كل أشكال الثأر والتنكيل من المخطئين، هذا بعد المحاسبة طبعا ومعاقبة الذين أجرموا وفق ما يقتضيه القانون وحقّ دماء الشهداء.
No comments:
Post a Comment