عبد الحليم قنديل
حكم القرين
في كتابي (الأيام الأخيرة) ـ صدرعام 2008 ـ رسمت صورة للمشهد السياسي في
مصر عقب خلع مبارك، وتوقعت فوز جماعة الإخوان بالأكثرية، وبنفس النسب التي
تحققت في أول انتخابات جرت بعد ثورة 25 يناير 2011، لكني توقعت أن يكون
الحكم محنة لا نعمة للإخوان، ورجحت تراجعا منتظما في شعبية الإخوان،
ولأسباب بدت منطقية جدا .
لم أكن وقتها أقرأ الرمل ولا أضرب الودع، بل بدت التوقعات مبنية على تحليل اجتماعي لجماعة الإخوان، وخاصة عند قيادتها بالذات، ودوائر التحكم في عملها، وهي ذات طابع يميني خالص لا تخطئه العين، فقيادة الإخوان تطرح الجماعة كحزب أمة، بينما هي ـ في الحقيقة ـ حزب طبقة، ومليارديراتها أقرب لنمط مليارديرات جماعة مبارك، وما من فارق جوهري بين ملياردير إخواني كالمهندس خيرت الشاطر ـ مثلا ـ وملياردير مباركي كالمهندس أحمد عز، فلهما ذات المصالح ، وربما نفس السلوك الاجتماعي، وذقن الشاطر مجرد قناع ديني، ولو حلق الشاطر لحيته لوجدنا تحتها وجه أحمد عز، والقصة أكبر من مشابهة أشخاص، إنه الشبه في العمق والجوهر، الشبه في السياسات الاقتصادية بالذات، فقد كانت جماعة مبارك عنوانا على اقتصاد سوق من نوع خاص جدا، كانت عنوانا على اقتصاد ريع لا اقتصاد إنتاج، وتبنت نوعا من الخصخصة عرفه المصريون باسم 'المصمصة'، وتضمن تجريفا كليا للقواعد الإنتاجية الكبرى، وتدميرا تاما للصناعة المصرية، وبيع ماتبقى منها للأجانب، والتفرغ لتأجير البلد كسكن استثماري، والتركيز على عوائد السياحة وعمل المصريين في الخارج والملاحة في قناة السويس، وجعل كلمة المستثمرين ـ أي المشترين ـ هي العليا في التشريع والتوجيه اليومي، وزيادة معدلات النهب العام إلى حدود جنونية، والنتيجة :
أن تكونت في مصر حالة ملغومة اجتماعيا، ففي مصر أغنى طبقة في المنطقة، وفيها أفقر شعب، والطبقة الأغنى في مصر أكثر ثراء من طبقة أمراء وأغنياء الخليج، وهي الطبقة ذاتها التي ينتمى إليها خيرت الشاطر وحسن مالك وغيرهم من مليارديرات جماعة الإخوان، ولا تكاد تلحظ لهؤلاء نشاطا إنتاجيا من أصله، بل مجرد توكيلات تجارية لشركات أجنبية، أو أنشطة مقاولات وممارسات طفيلية، وقد بدأوا بتكوين جمعية رجـــال أعمال على طريقة أقرانهم من جماعة مبارك، وتواجــــدوا فيـــــها جنبا إلى جنب مع رجال أعمال من جماعة مبارك، ويعيدون طــرح ذات القصص التي كانت تطرحها جماعة مبارك، ومن نوع اختيار مناطــــق استثمارية، والتوسع في تقديم إغراءات جاذبة للأجانب وشركائهم المحليين، ومضاعفة الإعفاءات الضريبية والجمركية، والحديث عن اتفـــاقات جاهزة مع مستثمرين، وترويج اقتصاد 'الضحك على الذقون' بأرقام افتراضية، وهو ما لن تكون نتيجته مختلفة نوعيا عما كان، وقد كان الملياردير الإخواني حسن مالك صريحا ومباشرا ، وقال ـ ما معناه ـ أن اقتصاد مبارك يحتاج فقط إلى بعض الإصلاح.
وقد كنت، ولا أزال، مع احترام نتائج الانتخابات العامة، وفتح الطريق لذهاب جماعة الإخوان إلى سدة الحكم إن إختارهم الناس، وقدرت أن قيادة الإخوان أقرب إلى معنى التعايش مع جماعة مبارك، وأن خلافهما الذي يثور أحيانا ليس عراكا على مبادئ، بل خلاف في التفاصيل، وفــــي طرق تقسيم الكعكة، وهو ما أثبتت صدقه الأيام، وسوف يثبت صدقه أكثر مع تــــوريط الإخوان في الحكم، فقيادة الإخوان جماعة براجماتية جـــــدا، والقوى المحركة فيها هم مليارديراتها لاشيوخها، بل ربما لاتكاد تلحظ لهم شيوخا، فباستثناء حالة الشيخ يوسف القرضاوي، وهو فقــــيه مسن ترك تنظيم الجماعة من زمن، لاتكاد تجد للجماعة شيخا ولا مفتيا يعتد به، وما تبقى من مشايخهم رجال ضعاف في التكوين الديني، وكثير منهم أقرب في التكوين إلى خدم أو أئمة المساجد القروية، وما يغلب على التكوين القيادي في الإخوان صنف آخر من البشر، نعم هناك المهنيون من أطباء ومهندسين ومعلمين ومحامين وأساتذة جامعات، وهم كثرة عددية ملحوظة، لكن القوة الضاربة في يد المليارديرات، وفي يد خيرت الشاطر بالذات، فمن يملك يحكم، ومن يدفع يتحكم في جماعة تحولت إلى شركة كبرى للحشد السياسي، شركة بإنفاق ملياري ضخم، وهو ما يفسر الإختيار الاقتصادي للجماعة حين تحكم بلدا كمصر، فليس في وسع مليارديرات الإخوان أن يخونوا مصالحهم، ولا أن تغيب عنهم طبيعة 'العروة الوثقى' التي تربطهم بمليارديرات جماعة مبارك.
وما تبقى من خطابهم الأخلاقي الديني لا يكاد يستر العورات، يغيرون أقوالهم كل يوم، وينسون وعود الليل المدهونة بزبدة تسيح في حر النهار، ولا يؤمن لهم جانب في أي اتفاق سياسي، وتحركهم المصالح الثابتة لا المبادئ التي تتقلب بطبائع الأحوال الجارية، صحيح أنهم يختلفون في المبنى عن جماعة مبارك المخلوع، لكن الاتفاق في المعنى قائم، فهم يكررون ذات النسق من السياسات، يكررون خط الاتفاق وقبول وصاية الأمريكان، ويكررون خط اقتصاد 'المصمصة' وانتظار الريع، ويكررون خطة إعطاء الأولوية للمستثمرين والمشترين، ويكررون خط الإفقار العام لأغلبية المصريين المنهكين أصلا، ويبدون كجماعة شابة تحل في الخدمة محل أختها العجوز، كانت جماعة مبارك قد تحولت إلى كيان معلق بلا قواعد إجتماعية تسند، بينما تبدو جماعة الإخوان مسنودة بقواعد إجتماعية كبرى، تكونت من حولها بفضل الخطاب الديني والممارسة الخيرية، وحين تحكم الجماعة، سوف يحل الخطاب البراجماتي محل الخطاب الديني، وتحل الممارسات الاحتكارية محل الأنشطة الخيرية، وهو ما يفسر الإنخفاض المطرد في شعبية الإخوان بعد خمسة شهور من عمل البرلمان المنحل، وهو تحول سوف تزداد وتيرته بمرور الوقت، حتى وإن استعانوا بفوائض الخطاب الديني الخام لإخوتهم السلفيين ، فقد يفيدهم ذلك لبعــــض الوقت، وفي معــــركة إنتخابية هنا أو هناك، لكن الفائدة تبدو عابرة جدا، ومع المزيد من انغماس قيادة الإخوان في الحكم، وترك العـــنان لشهوة الاحتكار، واتضاح الطابع البراجماتي الصرف لقيادة الإخوان، وضمن أحوال بلد يمر في أخطر مراحله ومآزقه، وتتزايد معدلات الوعى العام فـــيه بصورة طفرية، مع كل هذه الظروف يبدو تجنب المآل من المحال، فسوف تنحسر شعبية الإخوان، وتتخلخل قواعدهم الإجتماعية، ويزداد الميل للخروج من صفوف الإخوان، خاصة مع احتمالات تكون تيار إسلامي جديد أكثر وسطية، ومع احتمالات نهوض حركة وطنية إجتماعية ديمقراطية إلى اليسار والوسط الإجتماعي، توازن ما يتبقى من النفوذ اليميني لجماعة الإخوان، وتكسر أنفها فى مباريات انتخابية مقبلة .
مشـــكلة قيادة الإخوان أنها توحي ببديل عن جماعة مبارك، لكن الإيحاء لا يبدو في محله، فهي أقرب إلى معنى القرين لا البديل.
' كاتب مصري
No comments:
Post a Comment