رسالة مفتوحة إلي السيد عمر الخيام*
"منفيون تونسيون متى يعودون؟"
السيد عمر
إنّ ما لا ترى فيه حرجا « منفيون تونسيون متى يعودون »** يحرجني بل يزعجني كثيرا لو جرت الأحداث كما تصوّرتها و صوّرتها والكلمة*** التي نشرتها بتاريخ 6 نوفمبر 2008 بعد رجوعي إلي تونس فيها سرد أمين للاتصالات التي أفضت إلى عودتي و عائلتي إلي أرض الوطن. فلا مقابل من أي نوع و لا التزام من أي شكل و لا احد طلب مني شيئا.
لو كتب أحد غيرك ما كتبته لتجاهلته ولأني أراك دائما كما اكتشفتك لأول مرة أنيقا في تلويحاتك و متألقا في تلميحاتك عندما تخطئ و عندما تصيب فسأوضح لك بعض النقاط.
إن امتناعي عن الكلام الغير المباح (و أيضا عن العمل الغير مباح) و هو حقيقة، الذي رايته مقابلا لعودتي(1) هو في واقع الأمر اختيار حر و مسئول، ذهبت فيه من حوالي 8 سنوات أو أكثر و هو ما يشهد به غيابي عن كل التظاهرات السياسية للمعارضين في الخارج وعزوفي عن الاستجابة لدعوات بعض وسائل الإعلام، و إن حدث أن شاركت و خضت في الشأن التونسي فاستثناء و لي تفسير لكل حالة.
و يرجع اختياري هذا لجملة من الأسباب من أهمها:
أنّي وجدت نفسي، في وقت ما في خندق واحد، مع عديد الأطراف، جمعيات وأفراد اختاروا الصمت في بداية التسعينات، و منهم محامون كبار رفضوا مجرد أداء واجبهم المهني في الدفاع عن المتهمين. ثم استيقظت ضمائرهم عندما تيسّرت الأمور، لكن دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء النقد الذاتي و المراجعة السياسية و المحاسبة الأخلاقية.
كما وجدت نفسي مع الذين ورطوا البلاد وأنصارهم و أنفسهم في مغامرة عجزوا عن الخروج منها بل هم أصرّوا على إنكارها بكل وقاحة، في احتقار كامل لضحاياهم و استخفاف بواجب الحقيقة، و سعوا، وهو الأخطر، لتحويل صراع بدائي على السّلطة إلى فـتـنة دينيّة. (2)
و وجدت نفسي عموما مع منظمات و تنظيمات حزبية و أشخاص ينتمون إلى مدارس عدمية و إلى الشعث الاديولوجي الاستبدادي الذي أرهق جزئا من العالم لعقود طويلة، ولا أحتكم في هذا إلى اديولوجياتهم و لكن لممارستهم السياسية داخل أجهزتهم و مع بعضهم البعض.
أما السبب الثاني فهو إعادتي ترتيب الأولويات السياسية. فقبل ثماني سنوات كانت كل الأوطان العربية مهددة في وجودها (3) و كان لزاما على كل وطني أن يختار بين حقه في مناهضة نظام بلده مع خطر تعريضه للابتزاز الأجنبي وبين واجبه في المحافظة على كيان الدولة والسيادة الوطنية، خاصة وأنّ اغلب تيارات المعارضة العربية، و منها التونسية، تنافست في تكريس "قابليتها للاستعمار" التي أطنب مالك بالنبي في تحليلها قبل أكثر من نصف قرن.
و لا احسب أنّك نسيت عريضة بعض التونسيين إلى الرئيس بوش و توافد آخرين منهم على مراكز القرار الأوروبي، و قبل ذلك دعوة قيادي نهضويّ (4)فرنسا للتّدخّل في تونس.
أما السبب الثالث فهو ما انتهيت إليه من قناعة عميقة بأن الإصلاح الحقيقي يتم من داخل البلاد و ليس من خارجها وأنّ دور المعارضة، بواقعها الحالي العاجز حتّى على إقناع جمهور المواطنين بضرورة وجودها ( فما بالك بتحولها إلى بديل جدّي)، هو في تشجيع كلّ بادرة ايجابية و كل خطوة سليمة وكل نية حسنة و كل شخص يعمل في هدا الاتجاه.
و من المفارقات الغريبة أنّه و في حين كان النّظام يتغيّر، بكثير من البطء والتردّد، ظلّ المعارضون و خصوصا في الخارج أسرى منطق الاحتجاج و الاستنكار و التنديد.... والتكفير !
ثمّة وقت للاحتجاج و وقت للسياسة.
تكنولوجيا المعلومات غـيّـرت عالم الاحتجاج و الاستنكار و التنديد بالكامل. و يمكن حاليّا لمن يقرصه برغوث في ظلمة بيته في قاع الصحراء، أن يبلغ العالم بمصابه الجلل في ثوان معدودات.
نشطاء الانترنت الجدد يقومون بالنشاط الذي دأب عليه المعارضون لفترة طويلة، و كان من المفروض على هؤلاء أن يرتقوا بنشاطهم إلى المستوى السياسي، لكنّهم ظلوا في أغلبيتهم السّاحقة يتحركون حسب "الحركة البراونيّة" في الفيزياء وهي الحركة الفوضويّة التي تنتاب الأجسام المجهريّة المعلّقة في سائل ما عندما يسخّن.
السّائل ساخن الآن و سيظلّ كذلك إلى ما بعد الانتخابات بقليل.
و على ذكر هذه الأخيرة، من, من زعماء المعارضة اللاهثين وراء التّرشّح للرّئاسة ( إن اجتمعت أسبابه لأحدهم، فلن يكسبه أكثر من بضعة عشرات الآلاف من الأصوات الطائشة ولقب مرشّح سابق يتوّج به نضاله) يستطيع أن يتجاوز نرجسيّته وحزبيّته ويقرأ الواقع السياسي و الاجتماعي كما هو، بمفرداته و معادلاته و موازينه، لا كما يتوهّمه أو يتمنّاه ويتمناه الكثيرون، و يسعي لصيغة توافقيّة تحقّق مكسبا سياسيا للمجتمع، كسنّ عفو رئاسيّ عام ( أما التشريعي فلا معنى له و من يدعو له يستبله الناس، كما أشار إلى ذلك السيد محمد العماري في ذات الورقة ) يطوي صفحة محكومي النهضة من عسكريين و مدنيين و محكومي قضايا الإرهاب و قضايا الطلاّب و الحوض المنجمي... ويؤسّس لمرحلة جديدة في هذه الولاية القادمة.
السيد عمر،
لا أحتاج لتذكير مثلك بأن قطار عودة اللاجئين إلى وطنهم قد انطلق منذ حوالي عشر سنوات أي قبل مغادرتك تونس إلى كندا وفي فترة كانت السّجون التونسية تعج بالقيادات السياسيّة و العسكرية من ذوي الانتماءات النهضوية أو المتعاطفين معها و بينما كانت مطالب اللجوء تتقاطر على البلاد الأوروبية.
و قد قادت هذا القطار السيدة سوسن الصدفي العضو المؤسس لحركة الاتجاه الإسلامي و زوجة السيد الحبيب المكني القيادي البارز فيها. و برجوع السيدة الصدفي عادت كثير من العائلات و الأطفال، و لا أذكر أن أثارت هذه العودة قضيّة أو حتّى مجرد جدل أو نقاش على الرغم من أن كل العائدات مررن بشباك الأمن و خضعن للتحقيق.
ربما يكمن سر ذلك الصمت في وجود فتوى داخلية أحلت بالأمس ما تحرم اليوم كالكثير من الفتاوى التي بقيت مكتومة.
وعلى ذكر رحلة العودة و رائدتها لا بد من التّذكير ببداية رحلة الهجرة ورائدها السيد راشد الغنوشي. فقد خرج من تونس يوم 11 ماي1989 و أذكر أني لاقيته بمحض الصّدفة لدقائق قبل ساعات من سفره. كان محفوفا باثنين من أقرب رفاقه وليس بشرطيين كما هي العادة في حالات "التهجير". و قرأت بعد ذلك أنّه كتب رسالة مؤثرة إلى رئيس الجمهورية يلتمس منه تمكينه من جواز سفر للاستجابة لدعوات جمعيات في أوروبا. وشاع بعد ذلك أنه خرج من تونس ليعود إليها عودة الخميني إلى إيران.
صحيح أن أفراد عائلته و كثيرا من رفاقه من مدنيين و عسكريين و عائلاتهم و المئات من أتباعه و أنصاره و غيرهم الذين خرجوا من بعده لم يمرّوا من بوابات الحدود و إنّما هربوا. و هو حقهم. و لقد هرّبت شخصيّا زوجتي و أولادي و بناتي الخمس ولعلّهم مثّلوا يومها أكبر المجموعات الهاربة عبر الحدود.
هؤلاء جميعا و آخرون من قبلهم و من بعدهم هربوا و لم يهجّروا.
فهناك فرق بين أن يهاجر المرء بلده لسبب من الأسباب فيخرج منه اضطرارا، خلسة أو علنا، و بين أن يهجّر حيث أن التّهجير عمليّة ممنهجة، مخطّطة، منظّمة، جماعيّة ونهائيّة تتمّ في نطاق سياسة دولة و بمقتضى نص قانوني أو قرار إداري على الأقل و تسخّر كل إمكانيات الدولة الماديّة و البشريّة و القانونيّة لتنفيذها.
و عامة ما يستهدف التّهجير قومية أو عرقا أو أتباع مذهب أو دين كما حدث للمورسكيين سنة 1609. و الأمثلة كثيرة قديما و حديثا.
و الدولة التي تهجّر صنفا أو فئة من مواطنيها لا تتعقّبهم عبر دبلوماسيتها و علاقتها السياسية و الأمنية لغاية استرجاعهم.
و أذكر بخصوص اللاجئين التونسيين في فرنسا أن وزير الداخلية الفرنسي « شارل باسكوا» قد عاد من زيارته لتونس في أكتوبر 1993 بلائحة من أكثر من أربعين لاجئ وطالب لجوء، ترغب السلطة التونسية في استردادهم. و سبقت ذلك مساعي لاسترداد لاجئين في بلجيكا و بريطانيا و ألمانيا و النّمسا... و فارّين في الجزائر و السودان... و لا تزال لائحة التونسيين المطلوبين من البوليس الدولي منشورة.
و كم كان يحلو لأجهزة البوليس التي من المفروض أن تكون قد سخّرت لتنفيذ عمليّة التّهجير أن تقبض على "المهجّرين" لتلحقهم بقوافل المساجين.
إنّ التّهجير جريمة ضد الإنسانيّة تأتي في المرتبة الثانية بعد الإبادة الجماعيّة في القانون الدولي ولو حدث أن هجـّر تونسي واحد لسمع به العالم في حينه ولوثّق في الذّاكرة الجماعيّة. و إنّي لا أذكر أن ورد مصطلح التّهجير مرة واحدة في عشرات ملفات طلب اللّجوء التي ساعدت شخصيا أصحابها على تحريرها طيلة التسعينات، و لا كذلك في واحد من عشرات التقارير التي أصدرتها الجمعيات الحقوقية التونسية في المهجر أو المنظمات الحقوقية الدولية و لا أيضا وبالخصوص في أدبيات حركة النهضة و بياناتها و مناشيرها و بلاغاتها، و كلّ ذلك محفوظ للذاكرة التونسية.
السيد عمر
تذكر ما كتبته يوما في أحد مقالاتك بالفرنسية. لست أول من كتب ذلك لكنّك كتبت " أنّ الاستبداد يولّد التّطرّف وأن العكس صحيح أيضا " كلاهما مرفوض طبعا سياسيا وأخلاقيا ولكن من واجب القارئ المنصف للحالة التونسيّة مند التّسعينات، أن يقرّ، تفسيرا لا تبريرا، بأن التّطرّف قد سبق حُمّى اعتقالات و محاكمات 1991-1992 (5)، غير أن هناك من يصرّ على الظّهور بمظهر الضّحيّة لمحاولة طمس الحقيقة والتّملّص من مسؤولية ما حدث و لن يجدي ذلك نفعا ولن يعفي أصحابه من محاسبة التّاريخ ولو بعد حين (6) .
السيد عمر،
حل قضية اللاجئين كحل قضية المساجين.
بعد قرابة العقدين لا يزال من الصعب التعرف بدقة على عدد المعتقلين خلال التسعينات على الرغم من وجود كثير من المنظمات الحقوقية التي تنشط على الساحة التونسية منذ عديد السنوات.
غير أن كيفية إطلاق سراحهم أفرادا و مجموعات معروفة للجميع فقد سرح أغلبهم بعد قضاء محكوميتهم و أحيانا مع بعض الزيادة لبعضهم و التخفيضات للكثير منهم لحسن السلوك أما الباقون من أصحاب الأحكام الثقيلة فقد سرحوا شرطيا و أحيانا مع المراقبة الإدارية بعد سلسلة من إجراءات العفو الرئاسي بدأت بتخفيض الأحكام و انتهت بإطلاق سراح المساجين
و من العبث الادعاء بأن إطلاق سراحهم قد جاء نتيجة ضغوط أو تدخلات أو وساطات أجنبية من دوائر رسمية أو منظمات حقوقية أو بالخصوص"منظمات المجتمع المدني التونسي ".
هناك حالات قليلة معروفة لأشخاص وقع تسريحهم بتدخل من بعض الأوساط الأجنبية لكن الآلاف سرحوا كما وقع ذكره آنفا. أما المجتمع المدني التونسي و الزعامات السياسية فقد تجاهلت أمر السجناء تجاهلا كاملا و فيهم من لم يدخل على خط هذه القضية إلا مع إطلاق سراح آخر مجموعة ليلاحظ «..... أنه لم يبق إلا أشهر لفلان أو فلتان» ... و يطالب " بعفو تشريعي عام "!
و أورد هنا مثالا لموقف أحد زعماء المعارضة " الحقيقية " من قضية المساجين عندما عبرت له عن استغرابي من كونه لم يشر مرة واحدة إلى مساجين النهضة في تصريحاته الصحفية وهو الذي خرج لتوه من السجن، فرد علي بعد أن غص حلقه و بلع ريقه "لم يحن الوقت بعد" !. موقفه ذلك لم يمنعه من عقد تحالف مع رئيس النهضة في الأسبوع التالي... و لمدة أسبوع أيضا.
و لعل الأهم من مواقف هذا و ذاك هو موقف أصحاب القضية أنفسهم فقد كان بالإمكان وضع حد لمعانات السجناء و ذويهم و حلحلة الوضع السياسي في تونس منذ سنوات عديدة لو قبلت قيادة حركة النهضة (عندما أقول قيادة أعني راشد الغنوشي شخصيا و لكن لتجنب تكرار اسمه) المسك باليد التي مدها لها النظام في مناسبتين على الأقل. و على الرغم من دقة و صدقيه المعلومات التي كنت أمتلكها تشككت في الأمر لمَا كنتُ اعتقده برسوخ، من أن زعيما سياسيا مسئولا لا يمكن أن يرفض عرض النظام إطلاق سراح رفاقه ووضع حد لمعاناتهم مهما كان المقابل.
بيد أني اكتشفت بعد مدة قليلة و تحديدا في ماي 2005 أن الحقيقة أغرب من الخيال و ذلك عندما
وقعت عريضة بمبادرة من السادة الأزهر عبعاب، محمد العماري، رضا التونسي و عبد السلام الأسود، تطلب من رئيس الجمهورية إطلاق سراح المساجين لأسباب إنسانية فإذا بالسيد راشد الغنوشي يهتف لي بعد انقطاع 4 سنوات و يطلب مني بإلحاح و لقرابة الساعة سحب توقيعي. كنت أذرف الدموع
مدرارا و بأعلى صوتي على أشخاص لم أكن أعرف منهم وقتها إلا واحدا، بينما زعيمهم يحاول إقناعي بأنه سمح لمن ذاق منهم ذرعا بالسجن أن يطلب العفو و ينجو بنفسه.
يومها طويت نهائيا و بلا ندم صفحة صداقة، ابتدأت في صحن جامع باريس، ذات يوم من أيام خريف سنة 1968 و تأملت طويلا مقولة كلاوزفيتس"الحرب هي الوجه الآخر للسياسة " و التي حولها
صاحبنا إلى "السياسة هي الوجه الآخر للحرب".
السيد عمر
في الأسبوع الماضي شيّعت أحد الأقارب إلى مثواه الأخير و بعد مراسم الدفن طفت بين القبور مع صديق طفولة يعرف أكثر ساكنيها و في لحظة استوقفني الرجل و قال لي " يا فلان لا أحد من سكان هذه القبور حقق كل أمانيه " !
أحمد الله أن لم تبلغ بي الوقاحة حدّ ملاحقة سراب بناء " دولتي" و لا وهم تغيير علمها و تحويل عاصمتها كما أني لم أجر وراء زعامة أو إمامة أو قيادة أو مشيحة أو حتّى دون ذلك، غاية ما في الأمر أني حاولت أن أعيش حياتي طبقا لقناعاتي و أملاءات الضمير.
لم أوفّـق دائما لكنّي مرتاح مع ذلك لما أنا فيه: أستصلح أرضا أهملت طويلا و أرقّع دارا نهبت بالكامل و باتت خربة و أحاول استرجاع بعض الأملاك التي أغار عليها بعض الجيران و أعيش على أرضي و في وطني أقاسم عشرة ملايين تونسي حلوهم و مرهم… و أقرأ من حين إلى آخر.
وآخر ما قرأته كتاب جلبار نقاش7) ) الذي يروي تجربته النّضاليّة و أغرب ما قرأته في الكتاب إصرار صاحبه على اعتبار التّجربة ديمقراطيّة و زملائه ديمقراطيّين، هكذا بكلّ بساطة و بعد حوالي أربعة عقود. و من حسن حظّ الحقيقة التّاريخيّة و النّزاهة الفكريّة أنّ المرحوم أحمد بن عثمان أحد أبرز رفاقه في « جماعة أفاق » قد حسم الأمر و سبقه بإقراره « أنّهم كانوا يناضلون من أجل نظام أكثر شمولّية من الّنظام الذين كانوا يقاومونه ».
مع خالص التحية
أحمد المناعي
06/09/2009
-------------------------------------------------------------------------------------------------
*عمرالخيام/صحفي مونريال / كندا
لقد هاجرت إلى كندا بدون دوافع سياسيّة، إذ لم أبدأ الكتابة ضدّ النّظام المافيوقراطيّ التّونسيّ إلاّ بعد ظهور موقع " تونيزين " في يوليو من العام ألفين وواحد، ولكن لي أصدقاء إسلاميّين فرّوا من تونس بعد موجة القمع الرّهيب التي طالتهم في بداية التّسعينات من القرن الماضي، وقد حاول النّظام استمالة البعض منهم بتمكينهم من حقّ العودة مقابل طلب المغفرة من جلاّديهم، و شخصيّا لا أرى حرجا في أن يعود إلى أرض وطنه معارض بارز كشف عورة النّظام عندما كان هذا الأخير في عنفوان بطشه و قسوته، مثل " الدّكتور أحمد المنّاعي" في مقابل امتناعه عن الكلام غير المباح، فالمهمّ أنّه قد مرّر شعلة التّمرّد إلى الأجيال التي لحقته و لا يحمّل الله نفسا إلاّ وسعها.
)**تونس نيوز 2-6--2009 الحقيقة الدولية الأردن / 1 / 6 / 2009 - وطن أمريكا / 1 / 6 / 2009 - الحقائق / 2 / 6 / 2009 - آخر خبر أمريكا 2 / 6 / 2009(
(1) قيادي نهضوي خانته الشجاعة فكتب بتوقيع أبو نظام أنّ صمتي هو من فعل حركته التي قرّرت تحويلي إلى شبح بعد ما لم أكن شيئا مذكورا وهي الحركة التي » أوجدتني عندما لم أكن موجودا» حسب زعمه ! «
(2) الادعاء السّخيف المستحكم لدى كثير من النّهضويّين بأنّ راشد الغنّوشي قد أعاد الإسلام إلى تونس بعودته إليها سنة 1969، وادعاء الأخير بأنّ الدّولة التّونسيّة ( والدّولة هي البلاد والشّعب والنّظام السّياسيّ ) تحارب الإسلام وخاصّة بعد الاستقلال وتحريف ورقة تجفيف ينابيع التّطرّف إلى " تجفيف ينابيع التّديّن " لغايات دعائيّة رخيصة و وجود فتوى سرّية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي تقضي بشرك كلّ المنتمين إلى الحزب الاشتراكي الدّستوري، و الحشد الكوني و استنفار من هب و دب حول قضية منشور108 بينما السيد راشد كان يحث نساء الضباط على تجنب تغطية الرأس كي لا ينكشف أمر أزواجهن حسب ما صرح به أحد هؤلاء الضباط… إضافة لما ينشر يوميّا على شبكة النّات من أدبيّات التّكفير التي تستهدف كلّ من خالفهم الرّأي..
(3)لا شكّ أنّك تذكر سؤالك لي عمّا عسى أن يكون موقفي لو تحوّلت بنزرت إلى قاعدة أمريكيّة.
(4)إن فرنسا التي استعمرتنا بالأمس خليق بها اليوم أن تساهم بقوة في نسج ذلك الوفاق القادر وحده على توطيد أركان الاستقرار الحقيقي حفاظا على مصداقية "الإخاء و الحرية و المساواة" و على مكانتها الأوروبية و الدولية و مصالحها في الساحل الجنوبي للتوسط و في دنيا العروبة و الإسلام عامة. الهادي بريك -مجلة الجرأة عدد 28 لسنة7 199 .
(5)خطّة حركة النّهضة لفرض الحرّيات كشفت عن مخطّط لإحداث فراغ دستوريّ في البلاد سنة 1991.
(6)في شهر جويلية 1994 طلبت منّي قيادة النّهضة تقييما لمسيرتها فكتبت ورقة في 22 صفحة ضمّنتها بالخصوص هذه النّصيحة: " النّهضة الآن إمّا في السّجون الضيّقة أو في السّجن الكبير أو في الشّتات، لا يجمع بين الحلقات الثّلاثة شيء إلاّ الأمل في رحمة الله، ولا يجمع بين أعضاء وأفراد الحلقة الواحدة إلاّ الإحباط ومرارة الهزيمة والتّقاذف بمسؤوليّة ما حدث، والانشغال بالمشاكل المعيشيّة، وكلّها عوامل سلبيّة لا يمكن البناء عليها للمستقبل. ولكن اعتقادي أنّ النّهضة قد وصلت للـقـعـر وأنّ الغريق لا يطفح للسّطح إلاّ إذا وصل الـقـعـر، فإنّه بالإمكان إعادة البناء وتجاوز كلّ السلبيّات هذه بالتّضحيّة ببعض أهل النّهضة وبالخصوص ببعض قياديّيها:أن يأخذ بعضهم على أنفسهم كلّ مسؤوليّة الماضي ويتبع ذلك بالتّنحّي عن المسؤوليّة في القيادة للمراحل المقبلة من شأنه أن يعيد للجميع أو للأغلبيّة كثيرا من الـثّـقـة !
(7) Gilbert Naccache : Qu’as- tu fait de ta jeunesse ? Itinéraire d’un opposant au régime de Bourguiba
***بخصوص عودتي إلى تونس
عدت إلى تونس و أهلي و أحبابي يوم 9 أكتوبر 2008 و قطعت بذلك مع منفى اختياري ابتدأ يوم 18 ماي 1991 و دام أكثر من سبعة عشر سنة، و بعودتي فتحت الباب لرجوع زوجتي و أبنائي و بناتي و أحفادي إلى وطن و أهل و أحبّاء، حرموا منهم طيلة ستّة عشرة سنة.و ما كانت العودة لتتّم و في الظّروف الجيّدة التي امتازت بها، في ظلّ اعتراض بعض الأطراف النّافذة عليها، لولا قرار رئيس الجمهورية بتيسيرها وذلك بإعطائه الإذن للسّلطات القنصلية بتمكيني و زوجتي و كامل أفراد عائلتي من جوازات سفر و طمأنتي على سلامتي في تونس. و قد تولّى سعادة سفير تونس في باريس إبلاغي ذلك القرار يوم دعاني لمقابلته في السّفارة التّونسيّة، و منذ ذلك الوقت بدأت إجراءات العودة التي ستكون نهائية بالنسبة لي و لزوجتي على الأقل، خلال الأشهر المقبلة.و لقد شكرت سعادة السّفير و رجوته إبلاغ شكري الجزيل لسيادة الرئيس على تمكيني من حقي المشروع في أن أعيش في بلدي و بين أهلي، آمنا مطمئنّا، و أجدد له شكري علنا.و من المفارقات الغريبة التي أحدثتها عودتي إلى وطني و تخلّصي من "عهد الذّمّة" الذي عشته أنّ أشخاصا يعيشون ما عشته ينازعونني هذا الحقّ و قد بلغت الوقاحة ببعضهم حدّ السؤال عن المقابل الذي دفعته أو وعدت بدفعه من أجل استرداد حقّي الطّبيعي، بينما هم يعلمون حقّ العلم أنّ ما منحته لهم بلا منّ و لا حساب، جماعة و أفرادا، خلال سنوات عديدة، كان مجانيّا و معفى من الضرائب، لأني أردته خالصا لله و للوطن. و كذلك سيكون ما أقدمه لاحقا، و لو كرهوه، لاعتقادي العميق بأنّ من بلغ مثلي من العمر عتيّا، لا يملك أكثر من إطلاع مواطنيه على تجربته الفكرية و الرّوحية و السّياسيّة، و هو ما سأفعله بأكبر قدر ممكن من الموضوعية و الأمانة لأني لم أتربّى على فقه الحيل و إنما على قول الحق و لو كان مرا، و قوله و لو كان على نفسي، عملا بوصية الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلّم.إن أكبر ما كنت أخشاه قبل العودة و خلال الإقامة في تونس، أن يأتيني شخص يقول لي بأنني تسببت له في سجن أو تعذيب و لذت بالفرار. أحمد الله أن لم يحدث شيء من ذلك و إنما فقط إزعاجات و تنغيص حياة بعض الأقارب لبضعة سنوات و هو ما اعتذرت لهم عليه و إن كانوا قد نسوه.و بمناسبة تسريح آخر القيادات السّياسيّة و العسكرية لحركة النّهضة، أشكر سيادة رئيس الجمهورية على قراره الحكيم في وضع حدّ لعذابات السجناء و معاناة عائلاتهم، و هو بذلك يكون قد حلّ عقدة من لسان كلّ راغب في تحمّل مسؤوليته و الإدلاء بشهادته حول أحداث العقدين الأخيرين لكي يتسنّى قراءة هذه الصفحة من تاريخ تونس و طيها نهائيا لاحقا. و أخيرا، شكري و عرفاني لكلّ الأصدقاء من كلّ جنس و دين، الذين تعاطفوا و ساندوا و تضامنوا مع نضالات التونسيين من أجل الحرية و الديمقراطية و أعدهم أني لن أنساهم. كما أجدّد شكري للسلطات الفرنسية على ما حبتني به، أنا و أفراد عائلتي، من حسن استقبال و رّعاية خلال هذه السنوات الطويلة.أحمد المناعيباريس 6 نوفمبر 2008
http://www.tunisnews.net/13Novembre08a.htm/
إنّ ما لا ترى فيه حرجا « منفيون تونسيون متى يعودون »** يحرجني بل يزعجني كثيرا لو جرت الأحداث كما تصوّرتها و صوّرتها والكلمة*** التي نشرتها بتاريخ 6 نوفمبر 2008 بعد رجوعي إلي تونس فيها سرد أمين للاتصالات التي أفضت إلى عودتي و عائلتي إلي أرض الوطن. فلا مقابل من أي نوع و لا التزام من أي شكل و لا احد طلب مني شيئا.
لو كتب أحد غيرك ما كتبته لتجاهلته ولأني أراك دائما كما اكتشفتك لأول مرة أنيقا في تلويحاتك و متألقا في تلميحاتك عندما تخطئ و عندما تصيب فسأوضح لك بعض النقاط.
إن امتناعي عن الكلام الغير المباح (و أيضا عن العمل الغير مباح) و هو حقيقة، الذي رايته مقابلا لعودتي(1) هو في واقع الأمر اختيار حر و مسئول، ذهبت فيه من حوالي 8 سنوات أو أكثر و هو ما يشهد به غيابي عن كل التظاهرات السياسية للمعارضين في الخارج وعزوفي عن الاستجابة لدعوات بعض وسائل الإعلام، و إن حدث أن شاركت و خضت في الشأن التونسي فاستثناء و لي تفسير لكل حالة.
و يرجع اختياري هذا لجملة من الأسباب من أهمها:
أنّي وجدت نفسي، في وقت ما في خندق واحد، مع عديد الأطراف، جمعيات وأفراد اختاروا الصمت في بداية التسعينات، و منهم محامون كبار رفضوا مجرد أداء واجبهم المهني في الدفاع عن المتهمين. ثم استيقظت ضمائرهم عندما تيسّرت الأمور، لكن دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء النقد الذاتي و المراجعة السياسية و المحاسبة الأخلاقية.
كما وجدت نفسي مع الذين ورطوا البلاد وأنصارهم و أنفسهم في مغامرة عجزوا عن الخروج منها بل هم أصرّوا على إنكارها بكل وقاحة، في احتقار كامل لضحاياهم و استخفاف بواجب الحقيقة، و سعوا، وهو الأخطر، لتحويل صراع بدائي على السّلطة إلى فـتـنة دينيّة. (2)
و وجدت نفسي عموما مع منظمات و تنظيمات حزبية و أشخاص ينتمون إلى مدارس عدمية و إلى الشعث الاديولوجي الاستبدادي الذي أرهق جزئا من العالم لعقود طويلة، ولا أحتكم في هذا إلى اديولوجياتهم و لكن لممارستهم السياسية داخل أجهزتهم و مع بعضهم البعض.
أما السبب الثاني فهو إعادتي ترتيب الأولويات السياسية. فقبل ثماني سنوات كانت كل الأوطان العربية مهددة في وجودها (3) و كان لزاما على كل وطني أن يختار بين حقه في مناهضة نظام بلده مع خطر تعريضه للابتزاز الأجنبي وبين واجبه في المحافظة على كيان الدولة والسيادة الوطنية، خاصة وأنّ اغلب تيارات المعارضة العربية، و منها التونسية، تنافست في تكريس "قابليتها للاستعمار" التي أطنب مالك بالنبي في تحليلها قبل أكثر من نصف قرن.
و لا احسب أنّك نسيت عريضة بعض التونسيين إلى الرئيس بوش و توافد آخرين منهم على مراكز القرار الأوروبي، و قبل ذلك دعوة قيادي نهضويّ (4)فرنسا للتّدخّل في تونس.
أما السبب الثالث فهو ما انتهيت إليه من قناعة عميقة بأن الإصلاح الحقيقي يتم من داخل البلاد و ليس من خارجها وأنّ دور المعارضة، بواقعها الحالي العاجز حتّى على إقناع جمهور المواطنين بضرورة وجودها ( فما بالك بتحولها إلى بديل جدّي)، هو في تشجيع كلّ بادرة ايجابية و كل خطوة سليمة وكل نية حسنة و كل شخص يعمل في هدا الاتجاه.
و من المفارقات الغريبة أنّه و في حين كان النّظام يتغيّر، بكثير من البطء والتردّد، ظلّ المعارضون و خصوصا في الخارج أسرى منطق الاحتجاج و الاستنكار و التنديد.... والتكفير !
ثمّة وقت للاحتجاج و وقت للسياسة.
تكنولوجيا المعلومات غـيّـرت عالم الاحتجاج و الاستنكار و التنديد بالكامل. و يمكن حاليّا لمن يقرصه برغوث في ظلمة بيته في قاع الصحراء، أن يبلغ العالم بمصابه الجلل في ثوان معدودات.
نشطاء الانترنت الجدد يقومون بالنشاط الذي دأب عليه المعارضون لفترة طويلة، و كان من المفروض على هؤلاء أن يرتقوا بنشاطهم إلى المستوى السياسي، لكنّهم ظلوا في أغلبيتهم السّاحقة يتحركون حسب "الحركة البراونيّة" في الفيزياء وهي الحركة الفوضويّة التي تنتاب الأجسام المجهريّة المعلّقة في سائل ما عندما يسخّن.
السّائل ساخن الآن و سيظلّ كذلك إلى ما بعد الانتخابات بقليل.
و على ذكر هذه الأخيرة، من, من زعماء المعارضة اللاهثين وراء التّرشّح للرّئاسة ( إن اجتمعت أسبابه لأحدهم، فلن يكسبه أكثر من بضعة عشرات الآلاف من الأصوات الطائشة ولقب مرشّح سابق يتوّج به نضاله) يستطيع أن يتجاوز نرجسيّته وحزبيّته ويقرأ الواقع السياسي و الاجتماعي كما هو، بمفرداته و معادلاته و موازينه، لا كما يتوهّمه أو يتمنّاه ويتمناه الكثيرون، و يسعي لصيغة توافقيّة تحقّق مكسبا سياسيا للمجتمع، كسنّ عفو رئاسيّ عام ( أما التشريعي فلا معنى له و من يدعو له يستبله الناس، كما أشار إلى ذلك السيد محمد العماري في ذات الورقة ) يطوي صفحة محكومي النهضة من عسكريين و مدنيين و محكومي قضايا الإرهاب و قضايا الطلاّب و الحوض المنجمي... ويؤسّس لمرحلة جديدة في هذه الولاية القادمة.
السيد عمر،
لا أحتاج لتذكير مثلك بأن قطار عودة اللاجئين إلى وطنهم قد انطلق منذ حوالي عشر سنوات أي قبل مغادرتك تونس إلى كندا وفي فترة كانت السّجون التونسية تعج بالقيادات السياسيّة و العسكرية من ذوي الانتماءات النهضوية أو المتعاطفين معها و بينما كانت مطالب اللجوء تتقاطر على البلاد الأوروبية.
و قد قادت هذا القطار السيدة سوسن الصدفي العضو المؤسس لحركة الاتجاه الإسلامي و زوجة السيد الحبيب المكني القيادي البارز فيها. و برجوع السيدة الصدفي عادت كثير من العائلات و الأطفال، و لا أذكر أن أثارت هذه العودة قضيّة أو حتّى مجرد جدل أو نقاش على الرغم من أن كل العائدات مررن بشباك الأمن و خضعن للتحقيق.
ربما يكمن سر ذلك الصمت في وجود فتوى داخلية أحلت بالأمس ما تحرم اليوم كالكثير من الفتاوى التي بقيت مكتومة.
وعلى ذكر رحلة العودة و رائدتها لا بد من التّذكير ببداية رحلة الهجرة ورائدها السيد راشد الغنوشي. فقد خرج من تونس يوم 11 ماي1989 و أذكر أني لاقيته بمحض الصّدفة لدقائق قبل ساعات من سفره. كان محفوفا باثنين من أقرب رفاقه وليس بشرطيين كما هي العادة في حالات "التهجير". و قرأت بعد ذلك أنّه كتب رسالة مؤثرة إلى رئيس الجمهورية يلتمس منه تمكينه من جواز سفر للاستجابة لدعوات جمعيات في أوروبا. وشاع بعد ذلك أنه خرج من تونس ليعود إليها عودة الخميني إلى إيران.
صحيح أن أفراد عائلته و كثيرا من رفاقه من مدنيين و عسكريين و عائلاتهم و المئات من أتباعه و أنصاره و غيرهم الذين خرجوا من بعده لم يمرّوا من بوابات الحدود و إنّما هربوا. و هو حقهم. و لقد هرّبت شخصيّا زوجتي و أولادي و بناتي الخمس ولعلّهم مثّلوا يومها أكبر المجموعات الهاربة عبر الحدود.
هؤلاء جميعا و آخرون من قبلهم و من بعدهم هربوا و لم يهجّروا.
فهناك فرق بين أن يهاجر المرء بلده لسبب من الأسباب فيخرج منه اضطرارا، خلسة أو علنا، و بين أن يهجّر حيث أن التّهجير عمليّة ممنهجة، مخطّطة، منظّمة، جماعيّة ونهائيّة تتمّ في نطاق سياسة دولة و بمقتضى نص قانوني أو قرار إداري على الأقل و تسخّر كل إمكانيات الدولة الماديّة و البشريّة و القانونيّة لتنفيذها.
و عامة ما يستهدف التّهجير قومية أو عرقا أو أتباع مذهب أو دين كما حدث للمورسكيين سنة 1609. و الأمثلة كثيرة قديما و حديثا.
و الدولة التي تهجّر صنفا أو فئة من مواطنيها لا تتعقّبهم عبر دبلوماسيتها و علاقتها السياسية و الأمنية لغاية استرجاعهم.
و أذكر بخصوص اللاجئين التونسيين في فرنسا أن وزير الداخلية الفرنسي « شارل باسكوا» قد عاد من زيارته لتونس في أكتوبر 1993 بلائحة من أكثر من أربعين لاجئ وطالب لجوء، ترغب السلطة التونسية في استردادهم. و سبقت ذلك مساعي لاسترداد لاجئين في بلجيكا و بريطانيا و ألمانيا و النّمسا... و فارّين في الجزائر و السودان... و لا تزال لائحة التونسيين المطلوبين من البوليس الدولي منشورة.
و كم كان يحلو لأجهزة البوليس التي من المفروض أن تكون قد سخّرت لتنفيذ عمليّة التّهجير أن تقبض على "المهجّرين" لتلحقهم بقوافل المساجين.
إنّ التّهجير جريمة ضد الإنسانيّة تأتي في المرتبة الثانية بعد الإبادة الجماعيّة في القانون الدولي ولو حدث أن هجـّر تونسي واحد لسمع به العالم في حينه ولوثّق في الذّاكرة الجماعيّة. و إنّي لا أذكر أن ورد مصطلح التّهجير مرة واحدة في عشرات ملفات طلب اللّجوء التي ساعدت شخصيا أصحابها على تحريرها طيلة التسعينات، و لا كذلك في واحد من عشرات التقارير التي أصدرتها الجمعيات الحقوقية التونسية في المهجر أو المنظمات الحقوقية الدولية و لا أيضا وبالخصوص في أدبيات حركة النهضة و بياناتها و مناشيرها و بلاغاتها، و كلّ ذلك محفوظ للذاكرة التونسية.
السيد عمر
تذكر ما كتبته يوما في أحد مقالاتك بالفرنسية. لست أول من كتب ذلك لكنّك كتبت " أنّ الاستبداد يولّد التّطرّف وأن العكس صحيح أيضا " كلاهما مرفوض طبعا سياسيا وأخلاقيا ولكن من واجب القارئ المنصف للحالة التونسيّة مند التّسعينات، أن يقرّ، تفسيرا لا تبريرا، بأن التّطرّف قد سبق حُمّى اعتقالات و محاكمات 1991-1992 (5)، غير أن هناك من يصرّ على الظّهور بمظهر الضّحيّة لمحاولة طمس الحقيقة والتّملّص من مسؤولية ما حدث و لن يجدي ذلك نفعا ولن يعفي أصحابه من محاسبة التّاريخ ولو بعد حين (6) .
السيد عمر،
حل قضية اللاجئين كحل قضية المساجين.
بعد قرابة العقدين لا يزال من الصعب التعرف بدقة على عدد المعتقلين خلال التسعينات على الرغم من وجود كثير من المنظمات الحقوقية التي تنشط على الساحة التونسية منذ عديد السنوات.
غير أن كيفية إطلاق سراحهم أفرادا و مجموعات معروفة للجميع فقد سرح أغلبهم بعد قضاء محكوميتهم و أحيانا مع بعض الزيادة لبعضهم و التخفيضات للكثير منهم لحسن السلوك أما الباقون من أصحاب الأحكام الثقيلة فقد سرحوا شرطيا و أحيانا مع المراقبة الإدارية بعد سلسلة من إجراءات العفو الرئاسي بدأت بتخفيض الأحكام و انتهت بإطلاق سراح المساجين
و من العبث الادعاء بأن إطلاق سراحهم قد جاء نتيجة ضغوط أو تدخلات أو وساطات أجنبية من دوائر رسمية أو منظمات حقوقية أو بالخصوص"منظمات المجتمع المدني التونسي ".
هناك حالات قليلة معروفة لأشخاص وقع تسريحهم بتدخل من بعض الأوساط الأجنبية لكن الآلاف سرحوا كما وقع ذكره آنفا. أما المجتمع المدني التونسي و الزعامات السياسية فقد تجاهلت أمر السجناء تجاهلا كاملا و فيهم من لم يدخل على خط هذه القضية إلا مع إطلاق سراح آخر مجموعة ليلاحظ «..... أنه لم يبق إلا أشهر لفلان أو فلتان» ... و يطالب " بعفو تشريعي عام "!
و أورد هنا مثالا لموقف أحد زعماء المعارضة " الحقيقية " من قضية المساجين عندما عبرت له عن استغرابي من كونه لم يشر مرة واحدة إلى مساجين النهضة في تصريحاته الصحفية وهو الذي خرج لتوه من السجن، فرد علي بعد أن غص حلقه و بلع ريقه "لم يحن الوقت بعد" !. موقفه ذلك لم يمنعه من عقد تحالف مع رئيس النهضة في الأسبوع التالي... و لمدة أسبوع أيضا.
و لعل الأهم من مواقف هذا و ذاك هو موقف أصحاب القضية أنفسهم فقد كان بالإمكان وضع حد لمعانات السجناء و ذويهم و حلحلة الوضع السياسي في تونس منذ سنوات عديدة لو قبلت قيادة حركة النهضة (عندما أقول قيادة أعني راشد الغنوشي شخصيا و لكن لتجنب تكرار اسمه) المسك باليد التي مدها لها النظام في مناسبتين على الأقل. و على الرغم من دقة و صدقيه المعلومات التي كنت أمتلكها تشككت في الأمر لمَا كنتُ اعتقده برسوخ، من أن زعيما سياسيا مسئولا لا يمكن أن يرفض عرض النظام إطلاق سراح رفاقه ووضع حد لمعاناتهم مهما كان المقابل.
بيد أني اكتشفت بعد مدة قليلة و تحديدا في ماي 2005 أن الحقيقة أغرب من الخيال و ذلك عندما
وقعت عريضة بمبادرة من السادة الأزهر عبعاب، محمد العماري، رضا التونسي و عبد السلام الأسود، تطلب من رئيس الجمهورية إطلاق سراح المساجين لأسباب إنسانية فإذا بالسيد راشد الغنوشي يهتف لي بعد انقطاع 4 سنوات و يطلب مني بإلحاح و لقرابة الساعة سحب توقيعي. كنت أذرف الدموع
مدرارا و بأعلى صوتي على أشخاص لم أكن أعرف منهم وقتها إلا واحدا، بينما زعيمهم يحاول إقناعي بأنه سمح لمن ذاق منهم ذرعا بالسجن أن يطلب العفو و ينجو بنفسه.
يومها طويت نهائيا و بلا ندم صفحة صداقة، ابتدأت في صحن جامع باريس، ذات يوم من أيام خريف سنة 1968 و تأملت طويلا مقولة كلاوزفيتس"الحرب هي الوجه الآخر للسياسة " و التي حولها
صاحبنا إلى "السياسة هي الوجه الآخر للحرب".
السيد عمر
في الأسبوع الماضي شيّعت أحد الأقارب إلى مثواه الأخير و بعد مراسم الدفن طفت بين القبور مع صديق طفولة يعرف أكثر ساكنيها و في لحظة استوقفني الرجل و قال لي " يا فلان لا أحد من سكان هذه القبور حقق كل أمانيه " !
أحمد الله أن لم تبلغ بي الوقاحة حدّ ملاحقة سراب بناء " دولتي" و لا وهم تغيير علمها و تحويل عاصمتها كما أني لم أجر وراء زعامة أو إمامة أو قيادة أو مشيحة أو حتّى دون ذلك، غاية ما في الأمر أني حاولت أن أعيش حياتي طبقا لقناعاتي و أملاءات الضمير.
لم أوفّـق دائما لكنّي مرتاح مع ذلك لما أنا فيه: أستصلح أرضا أهملت طويلا و أرقّع دارا نهبت بالكامل و باتت خربة و أحاول استرجاع بعض الأملاك التي أغار عليها بعض الجيران و أعيش على أرضي و في وطني أقاسم عشرة ملايين تونسي حلوهم و مرهم… و أقرأ من حين إلى آخر.
وآخر ما قرأته كتاب جلبار نقاش7) ) الذي يروي تجربته النّضاليّة و أغرب ما قرأته في الكتاب إصرار صاحبه على اعتبار التّجربة ديمقراطيّة و زملائه ديمقراطيّين، هكذا بكلّ بساطة و بعد حوالي أربعة عقود. و من حسن حظّ الحقيقة التّاريخيّة و النّزاهة الفكريّة أنّ المرحوم أحمد بن عثمان أحد أبرز رفاقه في « جماعة أفاق » قد حسم الأمر و سبقه بإقراره « أنّهم كانوا يناضلون من أجل نظام أكثر شمولّية من الّنظام الذين كانوا يقاومونه ».
مع خالص التحية
أحمد المناعي
06/09/2009
-------------------------------------------------------------------------------------------------
*عمرالخيام/صحفي مونريال / كندا
لقد هاجرت إلى كندا بدون دوافع سياسيّة، إذ لم أبدأ الكتابة ضدّ النّظام المافيوقراطيّ التّونسيّ إلاّ بعد ظهور موقع " تونيزين " في يوليو من العام ألفين وواحد، ولكن لي أصدقاء إسلاميّين فرّوا من تونس بعد موجة القمع الرّهيب التي طالتهم في بداية التّسعينات من القرن الماضي، وقد حاول النّظام استمالة البعض منهم بتمكينهم من حقّ العودة مقابل طلب المغفرة من جلاّديهم، و شخصيّا لا أرى حرجا في أن يعود إلى أرض وطنه معارض بارز كشف عورة النّظام عندما كان هذا الأخير في عنفوان بطشه و قسوته، مثل " الدّكتور أحمد المنّاعي" في مقابل امتناعه عن الكلام غير المباح، فالمهمّ أنّه قد مرّر شعلة التّمرّد إلى الأجيال التي لحقته و لا يحمّل الله نفسا إلاّ وسعها.
)**تونس نيوز 2-6--2009 الحقيقة الدولية الأردن / 1 / 6 / 2009 - وطن أمريكا / 1 / 6 / 2009 - الحقائق / 2 / 6 / 2009 - آخر خبر أمريكا 2 / 6 / 2009(
(1) قيادي نهضوي خانته الشجاعة فكتب بتوقيع أبو نظام أنّ صمتي هو من فعل حركته التي قرّرت تحويلي إلى شبح بعد ما لم أكن شيئا مذكورا وهي الحركة التي » أوجدتني عندما لم أكن موجودا» حسب زعمه ! «
(2) الادعاء السّخيف المستحكم لدى كثير من النّهضويّين بأنّ راشد الغنّوشي قد أعاد الإسلام إلى تونس بعودته إليها سنة 1969، وادعاء الأخير بأنّ الدّولة التّونسيّة ( والدّولة هي البلاد والشّعب والنّظام السّياسيّ ) تحارب الإسلام وخاصّة بعد الاستقلال وتحريف ورقة تجفيف ينابيع التّطرّف إلى " تجفيف ينابيع التّديّن " لغايات دعائيّة رخيصة و وجود فتوى سرّية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي تقضي بشرك كلّ المنتمين إلى الحزب الاشتراكي الدّستوري، و الحشد الكوني و استنفار من هب و دب حول قضية منشور108 بينما السيد راشد كان يحث نساء الضباط على تجنب تغطية الرأس كي لا ينكشف أمر أزواجهن حسب ما صرح به أحد هؤلاء الضباط… إضافة لما ينشر يوميّا على شبكة النّات من أدبيّات التّكفير التي تستهدف كلّ من خالفهم الرّأي..
(3)لا شكّ أنّك تذكر سؤالك لي عمّا عسى أن يكون موقفي لو تحوّلت بنزرت إلى قاعدة أمريكيّة.
(4)إن فرنسا التي استعمرتنا بالأمس خليق بها اليوم أن تساهم بقوة في نسج ذلك الوفاق القادر وحده على توطيد أركان الاستقرار الحقيقي حفاظا على مصداقية "الإخاء و الحرية و المساواة" و على مكانتها الأوروبية و الدولية و مصالحها في الساحل الجنوبي للتوسط و في دنيا العروبة و الإسلام عامة. الهادي بريك -مجلة الجرأة عدد 28 لسنة7 199 .
(5)خطّة حركة النّهضة لفرض الحرّيات كشفت عن مخطّط لإحداث فراغ دستوريّ في البلاد سنة 1991.
(6)في شهر جويلية 1994 طلبت منّي قيادة النّهضة تقييما لمسيرتها فكتبت ورقة في 22 صفحة ضمّنتها بالخصوص هذه النّصيحة: " النّهضة الآن إمّا في السّجون الضيّقة أو في السّجن الكبير أو في الشّتات، لا يجمع بين الحلقات الثّلاثة شيء إلاّ الأمل في رحمة الله، ولا يجمع بين أعضاء وأفراد الحلقة الواحدة إلاّ الإحباط ومرارة الهزيمة والتّقاذف بمسؤوليّة ما حدث، والانشغال بالمشاكل المعيشيّة، وكلّها عوامل سلبيّة لا يمكن البناء عليها للمستقبل. ولكن اعتقادي أنّ النّهضة قد وصلت للـقـعـر وأنّ الغريق لا يطفح للسّطح إلاّ إذا وصل الـقـعـر، فإنّه بالإمكان إعادة البناء وتجاوز كلّ السلبيّات هذه بالتّضحيّة ببعض أهل النّهضة وبالخصوص ببعض قياديّيها:أن يأخذ بعضهم على أنفسهم كلّ مسؤوليّة الماضي ويتبع ذلك بالتّنحّي عن المسؤوليّة في القيادة للمراحل المقبلة من شأنه أن يعيد للجميع أو للأغلبيّة كثيرا من الـثّـقـة !
(7) Gilbert Naccache : Qu’as- tu fait de ta jeunesse ? Itinéraire d’un opposant au régime de Bourguiba
***بخصوص عودتي إلى تونس
عدت إلى تونس و أهلي و أحبابي يوم 9 أكتوبر 2008 و قطعت بذلك مع منفى اختياري ابتدأ يوم 18 ماي 1991 و دام أكثر من سبعة عشر سنة، و بعودتي فتحت الباب لرجوع زوجتي و أبنائي و بناتي و أحفادي إلى وطن و أهل و أحبّاء، حرموا منهم طيلة ستّة عشرة سنة.و ما كانت العودة لتتّم و في الظّروف الجيّدة التي امتازت بها، في ظلّ اعتراض بعض الأطراف النّافذة عليها، لولا قرار رئيس الجمهورية بتيسيرها وذلك بإعطائه الإذن للسّلطات القنصلية بتمكيني و زوجتي و كامل أفراد عائلتي من جوازات سفر و طمأنتي على سلامتي في تونس. و قد تولّى سعادة سفير تونس في باريس إبلاغي ذلك القرار يوم دعاني لمقابلته في السّفارة التّونسيّة، و منذ ذلك الوقت بدأت إجراءات العودة التي ستكون نهائية بالنسبة لي و لزوجتي على الأقل، خلال الأشهر المقبلة.و لقد شكرت سعادة السّفير و رجوته إبلاغ شكري الجزيل لسيادة الرئيس على تمكيني من حقي المشروع في أن أعيش في بلدي و بين أهلي، آمنا مطمئنّا، و أجدد له شكري علنا.و من المفارقات الغريبة التي أحدثتها عودتي إلى وطني و تخلّصي من "عهد الذّمّة" الذي عشته أنّ أشخاصا يعيشون ما عشته ينازعونني هذا الحقّ و قد بلغت الوقاحة ببعضهم حدّ السؤال عن المقابل الذي دفعته أو وعدت بدفعه من أجل استرداد حقّي الطّبيعي، بينما هم يعلمون حقّ العلم أنّ ما منحته لهم بلا منّ و لا حساب، جماعة و أفرادا، خلال سنوات عديدة، كان مجانيّا و معفى من الضرائب، لأني أردته خالصا لله و للوطن. و كذلك سيكون ما أقدمه لاحقا، و لو كرهوه، لاعتقادي العميق بأنّ من بلغ مثلي من العمر عتيّا، لا يملك أكثر من إطلاع مواطنيه على تجربته الفكرية و الرّوحية و السّياسيّة، و هو ما سأفعله بأكبر قدر ممكن من الموضوعية و الأمانة لأني لم أتربّى على فقه الحيل و إنما على قول الحق و لو كان مرا، و قوله و لو كان على نفسي، عملا بوصية الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلّم.إن أكبر ما كنت أخشاه قبل العودة و خلال الإقامة في تونس، أن يأتيني شخص يقول لي بأنني تسببت له في سجن أو تعذيب و لذت بالفرار. أحمد الله أن لم يحدث شيء من ذلك و إنما فقط إزعاجات و تنغيص حياة بعض الأقارب لبضعة سنوات و هو ما اعتذرت لهم عليه و إن كانوا قد نسوه.و بمناسبة تسريح آخر القيادات السّياسيّة و العسكرية لحركة النّهضة، أشكر سيادة رئيس الجمهورية على قراره الحكيم في وضع حدّ لعذابات السجناء و معاناة عائلاتهم، و هو بذلك يكون قد حلّ عقدة من لسان كلّ راغب في تحمّل مسؤوليته و الإدلاء بشهادته حول أحداث العقدين الأخيرين لكي يتسنّى قراءة هذه الصفحة من تاريخ تونس و طيها نهائيا لاحقا. و أخيرا، شكري و عرفاني لكلّ الأصدقاء من كلّ جنس و دين، الذين تعاطفوا و ساندوا و تضامنوا مع نضالات التونسيين من أجل الحرية و الديمقراطية و أعدهم أني لن أنساهم. كما أجدّد شكري للسلطات الفرنسية على ما حبتني به، أنا و أفراد عائلتي، من حسن استقبال و رّعاية خلال هذه السنوات الطويلة.أحمد المناعيباريس 6 نوفمبر 2008
http://www.tunisnews.net/13Novembre08a.htm/
No comments:
Post a Comment