في مقابلة مع صحيفة "لاريبوبليكا" الإيطالية نشرتها الصحافة العربية أواخر أيار، قال الرئيس بشار الأسد "إنّ منطقتنا تشهد ولادة تحالف تفرضه المصالح المشتركة وتتوافق ضمنه السياسات والمبادئ ، لافتاً إلى أنّ فضاءً وحيداً بدأ يتبلور يجمع بين خمسة بحار، هي: البحر المتوسط وبحر قزوين والبحر الأسود والخليج العربي والبحر الأحمر، أي مركز العالم". لم يكن هذا هو تصريح الرئيس الأسد الوحيد حول نفس الموضوع حيث كان قد أشار لأول مرة للاقليم الجديد (البحار الأربعة) اثناء زيارة له العام الماضي الى تركيا حيث أكد أمام ملتقى رجال الأعمال "أننا عندما نربط هذه البحار الأربعة نصبح العقدة الاجبارية لكل هذا العالم في الاستثمار و في النقل و في غيره". كما عاد لتناول الموضوع خلال زيارته أرمينيا، زيارة قيل عن مساهمة سورية حقيقية خلالها في الانفراج التركي ـ الأرمني الأخير.
و بالفعل، تتزامن تراجع هيبة و هيمنة القطب الآحادي ألأمريكي على هذا الجزء من العالم مع بروز قوى اقليمية صاعدة، و بالتحديد قوة ناشئة لأقليم جديد يبدو في طور التشكل اليوم كرؤية تقوم على قاعدة 4 × 4 ، حيث تربط أربع بلدان متجاورة، أربع بحار تحوي مخزونا" استثنائيا" من الطاقة و التبادل التجاري و فرص النمو. ومع أنها لم ترتق حتى الآن الى مستوى المشروع الملموس (تحدث الرئيس الأسد حتى الآن عن تحالف)، لا يسع المراقب سوى متابعة ارهاصات نسج علاقات خاصة تجمع كل من أنقرة ، دمشق، بغداد، و طهران عبر خطوات تعاون بين دول تشكل ساحة التلاقي بين الطموحات السياسة والاقتصادية، و المتكئة على رصيد كبير في التراث الإنساني والبيئة الحضارية المدمجة.
الخصائص المادية العامة
يقع محور هذا الاقليم على الخط الواصل بين مضيقين حيويين و فضاءه (و ربما أمكننا أن نطلق عليه تسمية "بلاد ما بين المضيقين").ففي بوابته الجنوبية الشرقية يقع مضيق هرمز أكثر المضائق أهمية استراتيجية على الاطلاق حيث يشكل الوصلة الحيوية لآبار نفط الخليج و بحر عمان مع المحيط الهندي، و تمر عبره يوميا" حوالي خمس و سبعون سفينة شحن و ستة عشر مليون برميل نفطي. أما عند البوابة الشمالية الغربية، فيشكل مضيق الدردنيل الصلة بين المتوسط و البحر الأسود، حيث تعبره مئة و خمسون سفينة يوميا" تنقل في ما تنقل ثلاثة ملايين برميل نفطي.
يضم الاقليم مجموعة سكانية يناهز عددها المئتي مليون نسمة ذات سمات فتية، على بقعة جغرافية تناهز مساحتها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع غنية بالموارد الطبيعية. و على خلفية متوسط النمو السكاني الذي يبلغ 1،5% سنويا" (مقارنة مع 0،4% لأوروبا) ، يبلغ الناتج المحلي الاجمالي 1160 مليار دولار مع متوسط نمو يقارب 6،5% سنويا، يتأهل الاقليم لمعدلات عالية من النمو، سوف تتسارع حتما" عند انجاز الربط و التكامل الاقليميين.
هذا و يتميز الاقليم بكونه فسيفساء اثنو ـ لغوية، تضم العائلة العربية الى العائلة الفارسية و العائلة التركية، مع كل التنويعات الثقافية و المذهبية المرتبطة بها.
وزن الجغرافيا السياسية
يشكل هذا المربع المكون من دول تجمع الى تأكيد هويتها السياسية و القومية ، دينامية ملحوظة، مفتاح أوراسيا . أوراسيا منشأ الطامحين الى مصاف القوة العظمى على مر التاريخ، و التي يقول عنها برجينسكي أن من يسيطر عليها لا يؤثر فقط على اثنتان من أكثر القارات انتاجية من الناحية الاقتصادية، بل يؤثر بشكل حاسم على الهيمنة الأمريكية و المشروعية التاريخية المنبثقة منها. من هنا تمت صياغة "مبدأ كارتر" الذي ما زال قيد الاستخدام بعد ثلاثين عاما" على وضعه ، حيث تعتبر الولايات المتحدة أي محاولة للتحكم بالخليج العربي هجوما" مباشرا"على المصالح الأمريكية تقتضي مواجهته بل الوسائل. تحت هذا المبدأ تندرج حربي أمريكا في الخليج، و تحت نفس المبدأ تدرس خيارات حربها الثالثة هناك. ان محور" قوس الأزمات" (المصطلح الغالي على قلب بريجينسكي) اليوم وأكثرعناصره خطورة، ليس سوى المنطقة الجغرافية التي تضم هذه الدول الأربعة، أي تركيا،سوريا، العراق، وايران، والتي تنشط على ايقاعات تفاعل العوامل الاقتصادية ـ الاجتماعية الخاصة بها، بالعوامل القومية ـ السياسية. لقد أصبحت هذه المنطقة من العالم في قلب ذاك المحور من خلال عمل الولايات المتحدة ذاتها على نقل مركز الثقل الاستراتيجي تدريجيا"بعد نهاية الحرب الباردة من أوروبا الى آسيا، و هي كانت قد تحررت من عبء الردع ، و تبنت عقيدة هجومية مباشرة بدأتها على "محور الشر" في حرب الخليج الأولى عام 1991، من أجل احتواء تمدد محتمل للصين، مواجهة ايران، استثمار أسواق الهند الصاعدة، و في الوقت عينه احكام السيطرة على خطوط نقل الطاقة. انه مركب من الاعتبارات العسكرية والاقتصادية الاستراتيجية و في مقدم كل ذلك مدخل الولايات المتحدة الى أوراسيا عبر خاصرتها الرخوة في الجنوب، التي وضعت دول الاقليم في وضعية دفاعية منذ أكثر من ثلاثة عقود.
ان التوتر الاستراتيجي على هذا الفالق الجيوسياسي و الذي تسببت به "اسرائيل" منذ منتصف القرن الماضي بداية، ثم الولايات المتحدة لاحقا"، شكل مبررأ" كافيا" لهذه الأخيرة ( كما لحلف الناتو ) للتموضع و الانتشار العسكري عليه. ليس صدفة اذا" أن تتلازم "منطقة المسؤولية " المركزية تبعا" لخريطة القيادة الوسطى الأمريكية اليوم ، مع نطاق حلف بغداد نفسه ، أو حلف السنتو (المركزي) اللذان مضيا. هذا يسمى ثوابت في منطوق الجغرافيا السياسية . ثوابت كمثل مواجهة الاندفاع الروسي التقليدي المتجه نزولا" من الشمال نحوالجنوب عبر القوقاز، لكنه و هنا الجديد، يتزامن مع حراك ايراني (جنوب ـ شمال و شرق ـ غرب) و آخر تركي (جنوب ـ غرب و شمال ـ شرق).
يقتضي هنا ملاحظة ثلاث عوامل متفاعلة: أولا"، لقد أدى الغزو والوجود الأمريكي الى نشوء تحالفات جديدة في ما بين دول الاقليم، تحالفات الضرورة ، تحالفات المصلحة، و تحالفات الخيار . ثانيا"، ساهم الغزو في صعود التعبيرات القومية مجددا"، و هو ما نراه في أيران، سوريا، و تركيا. ثالثا"، بلور هذا الغزو لدى اللاعبين الاقليميين الوعي لفكرة وجودهم على الفالق الجيوسياسي ما حفز التفاعل مع ديناميات القوى المختلفة و اندفاعاتها المتعارضة. باختصار، لقد ساهمت هذه الأسباب مجتمعة في تأسيس دينامية جديدة عنوانها المقاومة و استثمار مفاعيلها باتجاه الانتقال من وضع الدفاع السلبي الى وضع المبادرة. انه تطور في الاتجاه الصحيح لمن يملك الرؤية و الارادة، من هنا تأتي تصريحات زعماء الاقليم في الفترة الأخيرة لتؤكد هذا المنحى.
واليوم، وقبيل مباشرة استراتيجية الخروج الأميركي من "المستنقع" ، لم تعد بيئة الأقليم مستقرة أبدا" للامريكان، و هي لم تكن مستقرة أساسا" خلال عملية الغزو المياشرعينها قبل عقود من الزمن. وفي محيط غير مستقر يفترض الوضع الجيوستراتيجي للمنطقة مقاربة جديدة للنظام الاقليمي كما لتعبيرات القوة و المجال اللتين تعودان له، و هذا ما يحصل.
صعود الجيوستراتيجيا
تتميز المقاربة الجيوستراتيجية عن الجيوسياسية بأن الأولى تأخذ بعين الاعتبار العوامل القومية الطاغية من نوع أهمية الموارد الدولتية المتاحة، طموحات الدول المعنية و أهدافها، استثمارالجغرافيا السياسية في اللحظة التاريخية، كما لتأثير امتلاك لتكنولوجيا على المجالات الاقتصادية و العسكرية، ثم تعيد الاستراتيجية الكلية تشكيل فضاءات التبادل و تنظم علاقات القوة في الاقليم حيث تتركز ديناميات الحركة و النفوذ حول قطاع ما (الطاقة مثالا")، لتخلق منها تعبيرات القوة العابرة للحدود الوطنية.
لذلك مازال كثير من المحللين ينحو للنظر الى الحراك حول الاقليم الجديد من زاوية تمحوره حول السياسات النفطية الاقليمية، حيث يتنافس اللاعبون ليس للسيطرة على مناطق جغرافية بعينها بل على خطوظ الأنابيب و ممرات الناقلات و العقود النفطية، كجوائز لهذه اللعبة الكبرى. و تبرز بالفعل أهمية الاقليم "كجسر للطاقة" يربط موارد الخليج مع آسيا الوسطى مع قزوين، اضافة الى ان افتتاح خطوط نقل النفط و الغاز يجعل من هذه البلاد من دون شك مهمة للطاقة العابرة ما يعزز موقعها على الرقعة الدولية.
لكن "سياسات الطاقة" لا تكفي وحدها لفهم الديناميات الاقليمية التقليدية منها و المستجدة ، لانه و في أساس هذا الحراك ، تملك هذه الدول (ان استثنيناالعراق اليوم) نفوذا" و مصالح قومية في محيطها المباشر: ايران في آسيا الوسطى، سوريا في بلاد الشام، و تركيا في البلقان و قزوين، تعمل على تأكيده و تعزيزه حضورا" فاعلا" و سياسات. ان عملية "الاشعاع" هذه خارج الحدود الدولتية لمكونات الاقليم ستمنحه دينامية و عمقا" كانت لفترة قريبة حكرا" على الدول الكبرى.
في جميع الحوال، من المفيد هنا رصد مسارالاندماج الاقليمي من أجل التحقق من امتلاك هذا الاقليم خصاائص المجموعة المندمجة في الزمن الراهن، و ذلك من خلال زوايا" أربع: اولا،" التعاون العام الثنائي و الرباعي، و قد بدأنا نشاهد تطبيقاته من خلال معاهدات استراتيجية، بروتوكولات تعاون و تيسير، اضافة للمباشرة بمشاريع تختص بالربط و بالبنية التحتية الاقليمية تميزت سوريا بالريادة فيها حتى الآن، حيث بدأ تطوير الربط الحديدي مع تركيا عبر ثلاث خطوط شمالية، ووضعت الدراسات لخط طرطوس ـ ايران مرورا" بالعراق، دون اغفال أنه بدأ استدراج العروض من أجل المباشرة بالطريقين السريعين الذين يصلا حدود الاردن بحدود تركيا من جهة، و الثاني الذي يصل حدود العراق بطرطوس . ثانيا"، التعاون العسكري و قد بدأ بالاتفاقيات العسكرية بين سوريا و ايران، و بين سوريا و تركيا وعلى صعيد المناورات المشتركة . ثالثا"، التعاون الاقتصادي مثل التخفيف من الحواجز و الرسوم الجمركية، المباشرة . أخيرا"،"التنسيق على صعيد السياسات الخارجية، و يبرز هنا التفاهم التركي الايراني في الملف النووي مثالا، عدا عن مواقف منسقة في نشاط منظمة المؤتمر الاسلامي، لكن و في صميم ذلك الدفاع الحاد عن فلسطين كلها بأهلها و أقصاها في جميع المناسبات.
التحديات
صحيح أن عوامل الجغرافيا و الديموغرافيا والاقتصاد تبدو في صالح تشكل الاقليم و لكنه قد يفقد ميزاته سريعا" ان لم ينكب بداية على مواجهة مجموعة من التحديات القاسية و في أساسها حسم معركة العراق لصالح الاقليم. ثانيا ، التفاهم في ما بين جمبع مكونات الاقليم على مصالح موحدة بالنظرلتوترات العلاقات البينية الناتجة عن تعارض حالي للمصالح (ايرن/العراق أو ايران تركيا حول العراق نموذجا"). ثالثا"، من المفيد للاقليم الجديد ان يتمكن من تعريف طبيعة اندماجه (تموضعه) في النظام العالمي، اي الوظيفة التي سيتبناها بهدف واحد امام المجتمع الدولي .رابعا"، ان للنهضة هنا طبيعة مفاهيمية خاصة، و بمعنى أدق هي مركب من العوامل الذاتية التاريخية-الاجتماعية و الموضوعية التنموية . المطلوب اذا" التدقيق بمسار التطور الداخلي عينه ووضعه في الاطار الاقليمي الأوسع. خامسا"، ايجاد آليات نتسيق برامج الاندماج الاقليمي من بنى تحتية و تعاون اقتصادي فاعل في وقت قصير. سابعأ"، التقدم على هذا الطريق بالتوازي مع تطوير بيئة مكوناته المعرفية و التكنولوجية على المديين القصير و المتوسط .
خلاصة
اذا كان غزو العراق قد شكل خاتمة العولمة كما عرفها العالم منذ تسعينات القرن الماضي، فقد شكلت المقاومة لهذا الغزو فاتحة تاريخ جديد للمنطقة. ان تشكل و صعود اقليم جديد بعد تطورات حقيقية تشهدها المنطقة سوف يرسي نمطا" مختلفا" في التعامل معها ضمن تصور جديد زمانا" و مكانا"، خارج المقاييس الدولية في التعامل معها حتى الآن.
كلمة أخيرة عن لبنان. قد لن يبقى لبنان عينه كما كان في العقود الماضية ان لجهة الدور أو الوظيفة البنيوية و سيكون عرضة لديناميات اما جاذبة و اما طاردة في أقصى الحالات و هذا منطق الفيزياء الذي لا تنفع معه كل "الشطارات" اللبنانية .على قوى المجتمع هنا مهمة قراءة المتغيرات بعين الدراسة و التحليل لصياغة استراتيجيات تفاعلية لمصلحة البلد و أهله. و على الطبقة السياسية أن تسعى ما أمكن لتفعيل المجلس الأعلى اللبناني- السوري كآلية وحيدة متاحة حتى الآن لمواكبة هذه المتغيرات الاقليمية.
بشار القوتلي
بيروت أوائل حزيران/يونيو 2010
http://www.alhoukoul.com/article/3638/
و بالفعل، تتزامن تراجع هيبة و هيمنة القطب الآحادي ألأمريكي على هذا الجزء من العالم مع بروز قوى اقليمية صاعدة، و بالتحديد قوة ناشئة لأقليم جديد يبدو في طور التشكل اليوم كرؤية تقوم على قاعدة 4 × 4 ، حيث تربط أربع بلدان متجاورة، أربع بحار تحوي مخزونا" استثنائيا" من الطاقة و التبادل التجاري و فرص النمو. ومع أنها لم ترتق حتى الآن الى مستوى المشروع الملموس (تحدث الرئيس الأسد حتى الآن عن تحالف)، لا يسع المراقب سوى متابعة ارهاصات نسج علاقات خاصة تجمع كل من أنقرة ، دمشق، بغداد، و طهران عبر خطوات تعاون بين دول تشكل ساحة التلاقي بين الطموحات السياسة والاقتصادية، و المتكئة على رصيد كبير في التراث الإنساني والبيئة الحضارية المدمجة.
الخصائص المادية العامة
يقع محور هذا الاقليم على الخط الواصل بين مضيقين حيويين و فضاءه (و ربما أمكننا أن نطلق عليه تسمية "بلاد ما بين المضيقين").ففي بوابته الجنوبية الشرقية يقع مضيق هرمز أكثر المضائق أهمية استراتيجية على الاطلاق حيث يشكل الوصلة الحيوية لآبار نفط الخليج و بحر عمان مع المحيط الهندي، و تمر عبره يوميا" حوالي خمس و سبعون سفينة شحن و ستة عشر مليون برميل نفطي. أما عند البوابة الشمالية الغربية، فيشكل مضيق الدردنيل الصلة بين المتوسط و البحر الأسود، حيث تعبره مئة و خمسون سفينة يوميا" تنقل في ما تنقل ثلاثة ملايين برميل نفطي.
يضم الاقليم مجموعة سكانية يناهز عددها المئتي مليون نسمة ذات سمات فتية، على بقعة جغرافية تناهز مساحتها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع غنية بالموارد الطبيعية. و على خلفية متوسط النمو السكاني الذي يبلغ 1،5% سنويا" (مقارنة مع 0،4% لأوروبا) ، يبلغ الناتج المحلي الاجمالي 1160 مليار دولار مع متوسط نمو يقارب 6،5% سنويا، يتأهل الاقليم لمعدلات عالية من النمو، سوف تتسارع حتما" عند انجاز الربط و التكامل الاقليميين.
هذا و يتميز الاقليم بكونه فسيفساء اثنو ـ لغوية، تضم العائلة العربية الى العائلة الفارسية و العائلة التركية، مع كل التنويعات الثقافية و المذهبية المرتبطة بها.
وزن الجغرافيا السياسية
يشكل هذا المربع المكون من دول تجمع الى تأكيد هويتها السياسية و القومية ، دينامية ملحوظة، مفتاح أوراسيا . أوراسيا منشأ الطامحين الى مصاف القوة العظمى على مر التاريخ، و التي يقول عنها برجينسكي أن من يسيطر عليها لا يؤثر فقط على اثنتان من أكثر القارات انتاجية من الناحية الاقتصادية، بل يؤثر بشكل حاسم على الهيمنة الأمريكية و المشروعية التاريخية المنبثقة منها. من هنا تمت صياغة "مبدأ كارتر" الذي ما زال قيد الاستخدام بعد ثلاثين عاما" على وضعه ، حيث تعتبر الولايات المتحدة أي محاولة للتحكم بالخليج العربي هجوما" مباشرا"على المصالح الأمريكية تقتضي مواجهته بل الوسائل. تحت هذا المبدأ تندرج حربي أمريكا في الخليج، و تحت نفس المبدأ تدرس خيارات حربها الثالثة هناك. ان محور" قوس الأزمات" (المصطلح الغالي على قلب بريجينسكي) اليوم وأكثرعناصره خطورة، ليس سوى المنطقة الجغرافية التي تضم هذه الدول الأربعة، أي تركيا،سوريا، العراق، وايران، والتي تنشط على ايقاعات تفاعل العوامل الاقتصادية ـ الاجتماعية الخاصة بها، بالعوامل القومية ـ السياسية. لقد أصبحت هذه المنطقة من العالم في قلب ذاك المحور من خلال عمل الولايات المتحدة ذاتها على نقل مركز الثقل الاستراتيجي تدريجيا"بعد نهاية الحرب الباردة من أوروبا الى آسيا، و هي كانت قد تحررت من عبء الردع ، و تبنت عقيدة هجومية مباشرة بدأتها على "محور الشر" في حرب الخليج الأولى عام 1991، من أجل احتواء تمدد محتمل للصين، مواجهة ايران، استثمار أسواق الهند الصاعدة، و في الوقت عينه احكام السيطرة على خطوط نقل الطاقة. انه مركب من الاعتبارات العسكرية والاقتصادية الاستراتيجية و في مقدم كل ذلك مدخل الولايات المتحدة الى أوراسيا عبر خاصرتها الرخوة في الجنوب، التي وضعت دول الاقليم في وضعية دفاعية منذ أكثر من ثلاثة عقود.
ان التوتر الاستراتيجي على هذا الفالق الجيوسياسي و الذي تسببت به "اسرائيل" منذ منتصف القرن الماضي بداية، ثم الولايات المتحدة لاحقا"، شكل مبررأ" كافيا" لهذه الأخيرة ( كما لحلف الناتو ) للتموضع و الانتشار العسكري عليه. ليس صدفة اذا" أن تتلازم "منطقة المسؤولية " المركزية تبعا" لخريطة القيادة الوسطى الأمريكية اليوم ، مع نطاق حلف بغداد نفسه ، أو حلف السنتو (المركزي) اللذان مضيا. هذا يسمى ثوابت في منطوق الجغرافيا السياسية . ثوابت كمثل مواجهة الاندفاع الروسي التقليدي المتجه نزولا" من الشمال نحوالجنوب عبر القوقاز، لكنه و هنا الجديد، يتزامن مع حراك ايراني (جنوب ـ شمال و شرق ـ غرب) و آخر تركي (جنوب ـ غرب و شمال ـ شرق).
يقتضي هنا ملاحظة ثلاث عوامل متفاعلة: أولا"، لقد أدى الغزو والوجود الأمريكي الى نشوء تحالفات جديدة في ما بين دول الاقليم، تحالفات الضرورة ، تحالفات المصلحة، و تحالفات الخيار . ثانيا"، ساهم الغزو في صعود التعبيرات القومية مجددا"، و هو ما نراه في أيران، سوريا، و تركيا. ثالثا"، بلور هذا الغزو لدى اللاعبين الاقليميين الوعي لفكرة وجودهم على الفالق الجيوسياسي ما حفز التفاعل مع ديناميات القوى المختلفة و اندفاعاتها المتعارضة. باختصار، لقد ساهمت هذه الأسباب مجتمعة في تأسيس دينامية جديدة عنوانها المقاومة و استثمار مفاعيلها باتجاه الانتقال من وضع الدفاع السلبي الى وضع المبادرة. انه تطور في الاتجاه الصحيح لمن يملك الرؤية و الارادة، من هنا تأتي تصريحات زعماء الاقليم في الفترة الأخيرة لتؤكد هذا المنحى.
واليوم، وقبيل مباشرة استراتيجية الخروج الأميركي من "المستنقع" ، لم تعد بيئة الأقليم مستقرة أبدا" للامريكان، و هي لم تكن مستقرة أساسا" خلال عملية الغزو المياشرعينها قبل عقود من الزمن. وفي محيط غير مستقر يفترض الوضع الجيوستراتيجي للمنطقة مقاربة جديدة للنظام الاقليمي كما لتعبيرات القوة و المجال اللتين تعودان له، و هذا ما يحصل.
صعود الجيوستراتيجيا
تتميز المقاربة الجيوستراتيجية عن الجيوسياسية بأن الأولى تأخذ بعين الاعتبار العوامل القومية الطاغية من نوع أهمية الموارد الدولتية المتاحة، طموحات الدول المعنية و أهدافها، استثمارالجغرافيا السياسية في اللحظة التاريخية، كما لتأثير امتلاك لتكنولوجيا على المجالات الاقتصادية و العسكرية، ثم تعيد الاستراتيجية الكلية تشكيل فضاءات التبادل و تنظم علاقات القوة في الاقليم حيث تتركز ديناميات الحركة و النفوذ حول قطاع ما (الطاقة مثالا")، لتخلق منها تعبيرات القوة العابرة للحدود الوطنية.
لذلك مازال كثير من المحللين ينحو للنظر الى الحراك حول الاقليم الجديد من زاوية تمحوره حول السياسات النفطية الاقليمية، حيث يتنافس اللاعبون ليس للسيطرة على مناطق جغرافية بعينها بل على خطوظ الأنابيب و ممرات الناقلات و العقود النفطية، كجوائز لهذه اللعبة الكبرى. و تبرز بالفعل أهمية الاقليم "كجسر للطاقة" يربط موارد الخليج مع آسيا الوسطى مع قزوين، اضافة الى ان افتتاح خطوط نقل النفط و الغاز يجعل من هذه البلاد من دون شك مهمة للطاقة العابرة ما يعزز موقعها على الرقعة الدولية.
لكن "سياسات الطاقة" لا تكفي وحدها لفهم الديناميات الاقليمية التقليدية منها و المستجدة ، لانه و في أساس هذا الحراك ، تملك هذه الدول (ان استثنيناالعراق اليوم) نفوذا" و مصالح قومية في محيطها المباشر: ايران في آسيا الوسطى، سوريا في بلاد الشام، و تركيا في البلقان و قزوين، تعمل على تأكيده و تعزيزه حضورا" فاعلا" و سياسات. ان عملية "الاشعاع" هذه خارج الحدود الدولتية لمكونات الاقليم ستمنحه دينامية و عمقا" كانت لفترة قريبة حكرا" على الدول الكبرى.
في جميع الحوال، من المفيد هنا رصد مسارالاندماج الاقليمي من أجل التحقق من امتلاك هذا الاقليم خصاائص المجموعة المندمجة في الزمن الراهن، و ذلك من خلال زوايا" أربع: اولا،" التعاون العام الثنائي و الرباعي، و قد بدأنا نشاهد تطبيقاته من خلال معاهدات استراتيجية، بروتوكولات تعاون و تيسير، اضافة للمباشرة بمشاريع تختص بالربط و بالبنية التحتية الاقليمية تميزت سوريا بالريادة فيها حتى الآن، حيث بدأ تطوير الربط الحديدي مع تركيا عبر ثلاث خطوط شمالية، ووضعت الدراسات لخط طرطوس ـ ايران مرورا" بالعراق، دون اغفال أنه بدأ استدراج العروض من أجل المباشرة بالطريقين السريعين الذين يصلا حدود الاردن بحدود تركيا من جهة، و الثاني الذي يصل حدود العراق بطرطوس . ثانيا"، التعاون العسكري و قد بدأ بالاتفاقيات العسكرية بين سوريا و ايران، و بين سوريا و تركيا وعلى صعيد المناورات المشتركة . ثالثا"، التعاون الاقتصادي مثل التخفيف من الحواجز و الرسوم الجمركية، المباشرة . أخيرا"،"التنسيق على صعيد السياسات الخارجية، و يبرز هنا التفاهم التركي الايراني في الملف النووي مثالا، عدا عن مواقف منسقة في نشاط منظمة المؤتمر الاسلامي، لكن و في صميم ذلك الدفاع الحاد عن فلسطين كلها بأهلها و أقصاها في جميع المناسبات.
التحديات
صحيح أن عوامل الجغرافيا و الديموغرافيا والاقتصاد تبدو في صالح تشكل الاقليم و لكنه قد يفقد ميزاته سريعا" ان لم ينكب بداية على مواجهة مجموعة من التحديات القاسية و في أساسها حسم معركة العراق لصالح الاقليم. ثانيا ، التفاهم في ما بين جمبع مكونات الاقليم على مصالح موحدة بالنظرلتوترات العلاقات البينية الناتجة عن تعارض حالي للمصالح (ايرن/العراق أو ايران تركيا حول العراق نموذجا"). ثالثا"، من المفيد للاقليم الجديد ان يتمكن من تعريف طبيعة اندماجه (تموضعه) في النظام العالمي، اي الوظيفة التي سيتبناها بهدف واحد امام المجتمع الدولي .رابعا"، ان للنهضة هنا طبيعة مفاهيمية خاصة، و بمعنى أدق هي مركب من العوامل الذاتية التاريخية-الاجتماعية و الموضوعية التنموية . المطلوب اذا" التدقيق بمسار التطور الداخلي عينه ووضعه في الاطار الاقليمي الأوسع. خامسا"، ايجاد آليات نتسيق برامج الاندماج الاقليمي من بنى تحتية و تعاون اقتصادي فاعل في وقت قصير. سابعأ"، التقدم على هذا الطريق بالتوازي مع تطوير بيئة مكوناته المعرفية و التكنولوجية على المديين القصير و المتوسط .
خلاصة
اذا كان غزو العراق قد شكل خاتمة العولمة كما عرفها العالم منذ تسعينات القرن الماضي، فقد شكلت المقاومة لهذا الغزو فاتحة تاريخ جديد للمنطقة. ان تشكل و صعود اقليم جديد بعد تطورات حقيقية تشهدها المنطقة سوف يرسي نمطا" مختلفا" في التعامل معها ضمن تصور جديد زمانا" و مكانا"، خارج المقاييس الدولية في التعامل معها حتى الآن.
كلمة أخيرة عن لبنان. قد لن يبقى لبنان عينه كما كان في العقود الماضية ان لجهة الدور أو الوظيفة البنيوية و سيكون عرضة لديناميات اما جاذبة و اما طاردة في أقصى الحالات و هذا منطق الفيزياء الذي لا تنفع معه كل "الشطارات" اللبنانية .على قوى المجتمع هنا مهمة قراءة المتغيرات بعين الدراسة و التحليل لصياغة استراتيجيات تفاعلية لمصلحة البلد و أهله. و على الطبقة السياسية أن تسعى ما أمكن لتفعيل المجلس الأعلى اللبناني- السوري كآلية وحيدة متاحة حتى الآن لمواكبة هذه المتغيرات الاقليمية.
بشار القوتلي
بيروت أوائل حزيران/يونيو 2010
http://www.alhoukoul.com/article/3638/
No comments:
Post a Comment