منصف المرزوقي : شخص لا يرى إلا نفسه في المرآة!
صلاح الدين الجورشي
16/07/2010
منذ أن حصلت أزمة الرابطة عندما كان المنصف المرزوقي رئيسا لها وأنا أتحاشى الدخول في جدل حول تلك المرحلة بالذات، والسبب أن الرجل ذاتي حتى العظم، ولا يتحمل أي نقد مهما كان حجمه. فهو من الذين لا يرون إلا أنفسهم في المرآة. أما البقية فهم حواشي أو مجرد نقاط على الأحرف. وهذا الطبع هو الذي جعله يفشل في مسيرته السياسية إلى حد كبير رغم التضحيات المقدرة التي قدمها. لأن من صفات السياسي الفاشل : الانفعال الشديد، وأن يخزن الضغينة لمن يخالفوه، وأن تكون الأنا متضخمة عنده أكثر من اللزوم، وأن يقفز على الواقع، ولا يحسن اختيار التوقيت لإدارة معاركه الشخصية والسياسية. كل واحدة من هذه الصفات يمكن أن تضر بصاحبها، فما بالك إذا اجتمعت في شخص واحد !.
لقد جمعتنا في الثمانينات أجواء صحيفة المستقلة. ورأيت فيه ولا أزال مثقفا طموحا، وكاتبا متميزا في أسلوبه وطريقة معالجته للقضايا. ولا أزال أحترم فيه نظافة اليد، وشجاعته التي كلفته ثمنا باهضا. واستمرت العلاقة بيننا يسودها الاحترام المتبادل، إلى تاريخ اندلاع أزمة الرابطة، وحصول ذلك الانقسام الحاد والمأساوي في صفوف أعضاء الهيئة المديرة. لقد ارتكبنا جميعا أخطاء متفاوتة ليس هنا مجال استعراض تفاصيلها، لكن الجميع تجاوزوا أجواء تلك الأزمة وتداعياتها، إلا السيد المرزوقي، الذي بقي مسكونا بتفاصيلها. ولعل ذلك يعود إلى أن تلك الأزمة هي التي قذفت به في بحار السياسة رغم أنه لا يحسن السباحة فيها، حيث انسحب فجأة من أشغال مؤتمر الرابطة قبل حتى مناقشة التقرير الأدبي، ليختفي ثم يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية، وهو ما فاجأ حتى الذين ساندوه طيلة الأزمة.
رغم أني حاولت شخصيا التوفيق بين الفريقين، كما كنت مدركا بأن السلطة لم تعد مستعدة لتحمل المرزوقي على رأس الرابطة، لكني كنت مقتنعا أيضا بأنه قد فقد القدرة على تحقيق الانسجام الرابطي في حده الأدنى، وهو شرط أساسي لإدارة منظمة حساسة وتعددية مثل الرابطة، تمثل معظم الطيف السياسي، وتشقها تجاذبات واستقطابات شتى، وهو ما لم يدركه بشكل جيد ولم يحسن التعامل معه، مما حوله من رجل الوفاق إلى مصدر من مصادر الاختلاف والتوتر . ولأني لم أسانده في تلك الأزمة بالطريقة التي كان يراها اتخذ مني موقفا سلبيا، وصنفني ضمن من " خانوه ". وقد جاءت المناسبة ليرد الفعل بشكل عنيف وغير مبرر في رده على جزء من مقال لم يتضمن أي إساءة لشخصه.
كنت أنوي غض الطرف كما فعلت مع غيره، لكن التعقيب الذي أطلعني عليه بعض الأصدقاء، وكتبه المرزوقي تحت عنوان " تكذيب قطعي " دفعني دفعا نحو تجاوز هذا التعهد الذي ألزمت نفسي طيلة السنوات التي خلت. لقد عقب على مقال غير موجه ضده، لأنه كان في سياق تصحيح معلومات يروجها شخص آخر ربما هو ذاته الذي وصفه بالصديق وأحال عليه مقالي وألح عليه بالرد حتى يستكمل تصفية حسابه لأهداف مجهولة ومشبوهة عن طريق المرزوقي الذي سرعان ما وقع في فخ الانفعال كعادته. أي أنه قام بالنيابة عن أحد العناصر الرديئة بحركة النهضة ليشترك في اشتباك سياسي من الدرجة الثالثة. تهاني له بهذه الصداقة، ولكل أجل كتاب.
المهم أنه بدل أن يجيب على النص - الذي أطلعه عليه صديقه - بهدوء يليق برئيس سابق للرابطة، أصر منذ البداية أن يسيء الأدب مع من كان من بين الذين ساعدوه ليرتق إلى رئاسة الرابطة. فبعد قبول المرحوم محمد الشرفي منصب الوزارة، انحصر التنافس يومها لخلافته على رأس الرابطة بينه وبين الصديق توفيق بودربالة الذي بأدبه المعهود سألني عن رأيي ونحن بسيارته قبل انعقاد الاجتماع الذي سيبت في مسألة ملئ الشغور عن طريق التصويت، فنصحته بترك المهمة للمرزوقي، وقد كان ذلك رأي العديد من بين أعضاء الهيئة المديرة آنذاك، والذين اختلف أغلبهم معه بعد ذلك. وفي تلك الجلسة أعلن بودربالة عن تنازله لصالح المرزوقي. وبالمناسبة، فإن السلطة في تلك الظروف كانت مهيأة للتعامل مع رابطة يترأسها المرزوقي، وهناك من مهد الطريق وعمل على تحقيق ذلك. وقد تعددت بعد ذلك لقاءات المرزوقي ببعض المسؤولين، وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى اللقاء الفجئي الذي جمعه بوزير الداخلية السابق المرحوم عبد الحميد بالشيخ، والذي وصفته مجلة حقائق بأنه كان ( لقاء غير مبرمج وودي لكنه صريح )، وهو اللقاء الذي كان سعيدا به المرزوقي، والذي كلف خلاله السيد ناصر رمضان البركاوي بأن يكون المخاطب الرسمي للرابطة.
بدأ المرزوقي تعقيبه المشين بقوله " لا اقرأ أبدا للسيد الجورشي ولا أهتمّ بما يكتب ". وطبعا هو حر في ذلك، ولمعلوماته فأنا أبادله نفس الموقف. لقد أصبحت – مثل الكثيرين - غير مهتم بالسيد المرزوقي ولا أقرأ له منذ فترة طويلة لأسباب ليس هذا مجال شرحها، ربما أحدها أني لا أحسن المشي فوق سطح القمر (! ). لكنه لم يكتف بذلك بل أضاف بتعال وعجرفة معروفة عنه عند الغضب قائلا أن صمته " لا يمكن أن ينطبق على مقال الرجل وهو يكذب بصفاقة على إحدى أهم مراحل تاريخ بلادنا وفي موضوع من أكثر المواضيع حساسية ألا وهو الثمن الباهظ الذي دفعه شعبنا للاستبداد ومن أبشع مظاهره التعذيب ". لقد تجاوز المرزوقي بهذه العبارات حده بكثير، وهو ما يفرض علي أن أجيبه على قدر صفاقته.
أولا : غضب صاحبنا لأني أشرت عرضا في مقالي إلى استقبال رئيس الدولة له ( هذه المعلومة في حد ذاتها مستفزة له ). وتوقف عند الجزء الأول من الجملة ( الإجراءات الحازمة التي اتخذها لإيقاف التعذيب ). ورأى في ذلك دليلا على تلبسي بجريمة تبييض ملف السلطة من انتهاكات التعذيب، متعمدا غض الطرف على بقية الجملة التي أكدت أن " الأحداث قد توالت في الاتجاه السلبي ". وهي الجملة التي تعني ما رددته الرابطة طويلا وأجمعت عليه منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية حول " عمق الفجوة القائمة بين الخطاب والممارسة ". إذ بالرغم أن ممارسة التعذيب قد خفت قليلا في تلك الأيام، وعملت السلطة على درء ما يمكن درؤه واحتواء مآسي عائلات الضحايا عن طريق الاتصال بها، إلا أن التعذيب استمر دون توقف. هذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها أي ناشط حقوقي يحترم نفسه. لكن ما نسيه المرزوقي أو تناساه أنه اعتبر في اجتماع الهيئة المديرة اللقاء الرئاسي بأنه " كان إيجابيا ". وقد أسس ذلك على تكليف الرئيس بن علي مستشاره الصادق شعبان لمتابعة الملفات مع رئيس الرابطة، بدلا عن وزير الداخلية آنذاك عبد الله القلال. وهو ما جعلنا متفائلين إلى حد ما بإمكانية تشكيل لجنة تنظر في الظروف التي حفت بموت المعتقلين الذين ذكرت أسماؤهم في بلاغ الرابطة. وهو نفس الانطباع الذي نقله إلينا سي حسيب بن عمار رحمه الله. فما هي الجريمة التي ارتكبتها عندما ذكرت ذلك، وهل ما قلته فيه تجن على التاريخ والشعب والأمة وضحايا التعذيب ؟ عيب ؟؟؟.
نأتي الآن إلى النقطة الثانية في الرد " التاريخي " للسيد المرزوقي. قلت في مقالي " وقد تم الرد على مختلف التهم – بما في ذلك العلاقة بملف الإسلاميين - في نص مطول تحت عنوان " دفاعا عن الرابطة " كان لي الشرف بأن قمت بصياغته، وتولى د المرزوقي قراءته في جلسة رهيبة من جلسات المجلس الوطني للرابطة ". علق على ذلك بأن ( ما لم يقله الجورشي أن النص الذي كان له "شرف صياغته" هو تلخيص جملة من الأوراق التي كان الاتفاق يتم عليها في الهيئة المديرة ثم تعطى لأي متطوع لوضعها في جمل سليمة ). عزيزي تتهمني بالكذب وتأتي بمثله.
عندما كتبت المقال الذي رد عليه المرزوقي لم تكن في نيتي التبجح بما فعلت داخل الرابطة أو المزايدة على أحد، أو التقليل من دور أصدقائي بالهيئة المديرة بما في ذلك رئيسها. إنما كنت أرد على من يريد أن يحملني دماء من أزهقت أرواحهم بسبب أخطاء قام بها آخرون، وأن يتهمني ويتهم الرابطة بالتقصير في حق ضحايا التعذيب. وبما أنك مصر على ادعائك، أؤكد لمن يريدون الـاريخ لتلك المرحة بأن نص " دفاعا عن الرابطة " اشترك في إعداده طرفان، القسم السياسي كتبت مشروعه الأولي وأحتفظ بنسخة منه بخط يدي. أما الجزء القانوني فقد أنجزه الصديق توفيق بودربالة، وقد أيدني في ذلك عند كتابة هذا الرد، كما يشهد به أصدقاء آخرون مثل خميس الشماري وفرج فنيش وغيرهم الذين يعلمون بأن دوري في الهيئة المديرة لم يكن مجرد مصحح لغوي في " مؤسسة على ملك السيد المرزوقي " !!.
نأتي أخيرا، لمسك الختام. إنك مصر على تجديد الإهانة لي بعد تلك الجلسة البائسة التي لا تزال تتهمني فيها بعد حوالي 18 عاما بأني حذفت من التقرير الأدبي كل ما يتعلق بالتعذيب. حرام عليك، فرئاسة الرابطة أخلاق أو لا تكون.
لقد كلفتني الهيئة المديرة بإعادة صياغة التقرير الأدبي وتركيب أجزائه المتفرقة. وقد قمت أنت بجمع ما ورد في بيانات الرابطة. وكل ما فعلته في النسخة التي تعبت في إعدادها أني تخليت عن بعض التفاصيل التي رأيتها غير مفيدة، وأبقيت على الجوهر، بما في ذلك أسماء الذين تعرضوا للتعذيب. ولمن يريد التأكد من ذلك، فما عليه إلا أن يعود إلى نص التقرير، فهو في متناول الباحثين.
أخيرا، نصيحتي للسيد المرزوقي، أنه " إذا جاءه فاسق بنبإ فعليه أن تبين "، وإذا خاصمت فلا تفجر، ولا تعتبر نفسك المناضل الأوحد من أجل الديمقراطية ومناهضة التعذيب. فتونس بها نساء ورجال يشاركونك هذا النضال ليس من حقك أن تشكك في نزاهتهم، أو تقلل من جهودهم مهما كان خلافك معهم. ولعلمك، فإن الرابطة لم تمت كما زعمت في ردك، لأنك لازلت تعتقد بأن الرابطة جسم وأنت روحه، وعندما انفصلت عنها تحولت إلى جثة. هذا دليل آخر على سوء تقديرك للمناضلات والمناضلين الذين اختاروا طريقا غير طريقك. صحيح انخفض أداء الرابطة، ولكن ذلك لا يعود إلى غيابك عن قيادتها، ولكن لأن شروط العمل قد تغيرت وساءت أوضاع الحريات بشكل كبير مقارنة بما كانت عليه في مطلع التسعينات.
إن ما أقدم عليه المرزوقي من ثلب في حقي لا يخدم الحقيقة ولا يساعد على تنقية مناخ مأزوم بطبعه، وبالتأكيد لن يحسب في كفة حسناته، ومن شأنه أن يوسع من دائرة معارك طواحين الهواء التي تعددت في الساحة التونسية نتيجة الفراغ وعمق الأزمة التي تمر بها النخبة. ومع ذلك سأبقى أنظر إليه رغم عيوبه كأحد الذين حاولوا أن يجدفوا ضد التيار في مرحلة صعبة من تاريخ بلادنا. أما الذين فرحوا بما كتب المرزوقي فمشكلتهم أنهم أصيبوا بعمى الألوان، بعد أن فقدوا المشروع وضيعوا البوصلة وعجزوا عن الفعل، ولم يبق لهم إلا إشعال الحرائق والعيش على فتاة المعارك التافهة على حساب وطن أسهموا في إنهاك قواه، وأدخلوه في مأزق صعب، وهم يظنون بأنهم كانوا يحسنون .
No comments:
Post a Comment