إسرائيل وحزب الله.. حرب الاستخبارات
نواف الزرو
هناك في الكيان الصهيوني تشكل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية الركيزة الأساسية للدولة والجيش والحروب والانتصارات أو الهزائم، بل إن الإنجازات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية التي "أسطروها" (حولوها إلى أساطير)، وخاصة على صعيد الاغتيالات والعمليات الخاصة، تحققت بالنسبة لهم بفضل فعالية أجهزة الاستخبارات.
فمن وجهة نظر المؤسسة الاستخبارية الإسرائيلية، يساوي جاسوس واحد أكثر من ألف جندي في أرض المعركة، كما قال نابليون بونابرت في زمنه، وربما أصبح يساوي اليوم في أعقاب الهزائم الإسرائيلية عشرة آلاف جندي في الميدان، إذ بدون الجاسوس -أي المعلومة- يبقى الجندي أعمى لا يرى شيئا.
وهذا هو المحرك لبحث جديد لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي حول الميول القائمة في البيئة الإستراتيجية التي يجب على الاستخبارات الإسرائيلية الاستعداد لها في العقد المقبل.
يقول البحث وهو بعنوان "الاستخبارات الإسرائيلية.. إلى أين؟"، إن "المبنى القائم حاليا لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية هش للغاية، ولا يستطيع مواجهة التحديات الجسام القائمة أمام الدولة العبرية".
وقد تجلت هشاشة الاستخبارات الإسرائيلية عمليا وميدانيا هناك في لبنان أثناء حرب صيف 2006 وما قبلها وما بعدها، وكذلك هناك في سوريا حينما ظهر زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله فجأة إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد والإيراني محمود أحمدي نجاد، والأخطر من جهة إسرائيل هو نجاح حزب الله في اختراق المؤسسة العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية.
قنبلة استخبارية من الوزن الثقيل
فحينما ظهر نصر الله مطلع العام الجاري إلى جانب الأسد ونجاد علنا في دمشق، أثار ظهوره عاصفة من التحليلات وصلت حد التخيلات، وعجت بها الصحف الإسرائيلية ولسان حال معظمها يتساءل "كيف وصل المطلوب الأول والأكثر متابعة على الإطلاق من قبل المخابرات الإسرائيلية إلى دمشق؟".
كما أثار ظهوره حفيظة الكثير من الخبراء الإسرائيليين، وسخروا من قدرات الموساد، وكيف أنه لم يعرف عن تمكن نصر الله من مغادرة لبنان والوصول إلى دمشق والعودة منها سالما، وربط بعضهم بين هذا الفشل وبين إخفاقات الاستخبارات الإسرائيلية المتلاحقة في لبنان منذ هزيمة إسرائيل أمام حزب الله في صيف 2006.
وفي مؤتمره الصحفي الأخير الذي قدم فيه القرائن التي تدخل إسرائيل في دائرة الشبهة باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، فجر نصر الله قنبلة أمنية استخبارية إعلامية من العيار الثقيل لم تهز فقط أركان نظرية المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري، وإنما قلبت الحسابات الإسرائيلية الأميركية وغيرها التي كانت تراهن على إدانة الحزب باغتيال الحريري وإصدار قرار ظني بحقه.
وكان من أهم ما فجره نصر الله أيضا كشفه النقاب عن ذلك السر الأمني الكبير المتعلق بنجاح حزب الله في التسلل إلى أجهزة العدو الإلكترونية، والتقاط موجات بث طائرات الاستطلاع الإسرائيلية، وتقديم قرائن معلوماتية متصلة مترابطة عن نشاطات العدو الاستخبارية والاغتيالية في لبنان منذ مطلع التسعينيات، وصولا إلى اغتيال الحريري.
وفتح نصر الله في هذا السياق ملف حرب الاستخبارات المحتدمة بين الطرفين على أوسع نطاق، بل تبين أن هذه الحرب الخفية هي الأساس والمنطلق لأي حرب أخرى، بل وأبعد من ذلك، فإن إسرائيل وحلفاءها يرمون بكل ثقلهم الاستخباري التجسسي ضد حزب الله في لبنان منذ صيف 2006، لغايات التحضير لعدوان واسع النطاق تحسم فيه إسرائيل حربها مرة واحدة وإلى الأبد كما يخططون.
لماذا لم ننتصر على حزب الله؟
فمنذ هزيمة إسرائيل في حرب 2006 أصيب جنرالاتها ومحللوها وكبار باحثيها بالذهول، ولم يستفيقوا من هول الهزيمة الإسرائيلية، فأعلن الجنرال بنيامين بن إليعازر آنذاك أن "الحكومة الإسرائيلية ذهلت من قدرة حزب الله على البقاء".
وكشف الجنرال متان فيلنائي النقاب عن حالة الذهول لديهم بقوله "لم نستوعب مع من نقاتل، وهذا جزء من التهور"، واعترفت المؤسسة العسكرية بما قالت إنه "الصفعة التي تلقيناها من حزب الله أضاعت قوة ردعنا".
وكشف عضو الكنيست الجنرال احتياط ران كوهين أن "المستوى السياسي اتخذ قراراته بشكل متسرع، بدون معرفة من سيذهب إلى القتال، وكيف يمكن تحقيق الإنجازات". ولفت كوهين إلى "أن الإخفاقات تكمن في عدم معرفة الجيش بقدرات حزب الله القتالية".
وفي إطار التفوق الاستخباري المذهل لحزب الله، وفي إطار هذا المناخ الانهزامي، أخذوا يتساءلون أيضا تباعا: كيف حدث ذلك؟ لماذا لم ننتصر في الحرب؟ ما العمل مع حزب الله الذي تحول إلى تهديد رادع لإسرائيل؟
ما العمل مع نصر الله الذي بات يحظى بمصداقية قيادية شخصية لا نظير لها على امتداد الساحة العربية والإسلامية، بل والإسرائيلية إلى حد كبير؟ أين مخبأ الأمين العام للحزب الذي أصبح يشكل نصف الإعلام ونصف المعركة؟ كيف يمكن التخلص من الحزب وأمينه العام؟ وغير ذلك من الأسئلة والتساؤلات الكبيرة التي تقض مضاجع المؤسسة العسكرية الأمنية الاستخبارية والسياسية الإسرائيلية.
العمى الاستخباري
واستتباعا، وفي سياق كتابات بحثية وتقييمية مختلفة حاول كتابهم ومحللوهم الرد على الأسئلة الكبيرة عن الهزيمة، فطلب دمان رئيس قسم التطبيقات في سلاح البحرية الإسرائيلية المقدم روبي سان من 24 ضابطا برتبة مقدم فما فوق تعبئة نماذج، ومنح الجيش الإسرائيلي وحزب الله نقاطا من 1 إلى 10 على أدائهما في الحرب على لبنان صيف 2006.
واتضح من النتائج أن حزب الله يتفوق على الجيش الإسرائيلي في مجالات الاستخبارات والإستراتيجية وعقيدة القتال، في حين تتفوق إسرائيل على الحزب في مجال وسائل القتال والتنظيم (يديعوت أحرونوت 29/9/2009)
ورأى الخبير الإسرائيلي في الشؤون الإستراتيجية رونن برغمان "أن الحرب التي تورطت فيها دولة إسرائيل كشفت قصورين فادحين: أولهما انهيار مفهوم التسلط الجوي، ويقوم على حسم أي معركة جوا مع الاستعانة بقوة برية صغيرة. والثاني فشل استخباراتي ذريع سيُكتب الكثير عنه بنسبة أكبر مما كتب عن الإخفاق في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973".
وكرس برغمان حيزاً واسعاً في يديعوت أحرونوت لتناول ما وصفه بالعمى الاستخباري، وقال "إن الاستخبارات الإسرائيلية فشلت في اختراق حزب الله فشلاً ذريعاً رغم أن مئات من عناصرها عملت في هذا الاتجاه".
وأضاف "أن عدم النجاح في اختراق مركز صنع القرار في حزب الله، انعكس جلياً في النتائج التي تمخضت عنها الحرب".
فعلى خلاف إستراتيجياتهم ومخططاتهم ومفاهيمهم الأمنية المرتكزة إلى حد كبير على تفوقهم الاستخباري والتقني المزعوم وإلى ما يسمى "قدرة الردع" والتفوق العسكري المطلق، وعلى خلاف ثقتهم العالية بالنفس وغطرستهم العسكرية المرتكزة أيضا على تفوقهم الجوي وأجهزة استخباراتهم واعتقادهم بإمكانية الحسم العسكري السريع في أي مواجهة حربية مع أي طرف عربي.. نجح حزب الله وفقا للمعطيات والمعلومات والاعترافات الإسرائيلية وغيرها، في إلحاق هزيمة ثقيلة بالثالوث الاستخباري الإسرائيلي الأسطوري كما يزعمون: الموساد والشاباك والاستخبارات العسكرية.
عنصر القوة والتفوق
إن ما حصل للجيش الإسرائيلي هناك في جنوب لبنان في الواقع يشبه الهزيمة التي مني بها الجيش الأميركي في فيتنام، وتلك التي مني بها "الجيش الأحمر" في أفغانستان. وبرأي المحلل الإسرائيلي في يديعوت أحرونوت رون بن يشاي، فإن "وقف إطلاق النار منع وقوع هزيمة أكبر بكثير في القتال البري".
وللهزيمة الإسرائيلية الحارقة ظروف وعوامل عديدة، ولكن أبرزها كان التفوق الاستخباري لحزب الله الذي تمثل من جهة أولى في نجاحه المطلق في تنظيمه الداخلي وفي انتشاره وقدرته على إخفاء القيادات والمقاتلين والأسلحة الصاروخية، وتمثل ثانيا في قدراته الاستخبارية المتميزة على مستوى رصد وملاحقة وتفكيك أخطر شبكات التجسس اللبنانية العاملة لصالح الموساد الإسرائيلي.
وفي هذه المسألة تحديدا اعترفت مصادر أمنية إسرائيلية "أن جهاز الأمن الخاص لحزب الله استطاع تفكيك أخطر شبكات التجسس التابعة للموساد التي عملت في بيروت والجنوب اللبناني".
وقالت المصادر "إن عملاء الموساد الذين ألقي القبض عليهم في بيروت هم الأخطر في منطقة الشرق الأوسط والأكثر تدريبا على أحدث الأجهزة الإلكترونية، وإن مهمتهم كانت تحديد الأماكن والمخابئ السرية والشقق البديلة التي يستخدمها زعماء الحزب، ووضع علامات إلكترومغناطيسية وفوسفورية على الأماكن التي يجب أن يستهدفها القصف الصهيوني، إضافة إلى زرع أجهزة التصنت في أماكن متعددة في الضاحية الجنوبية".
وتمثل تفوق حزب الله كذلك في المفاجآت الكبيرة التي هزت أركان إسرائيل وجيشها مثل مجزرة دبابة الميركافا المشهورة، وتدمير البارجة الإسرائيلية، وإطلاق الصواريخ نحو أهداف عسكرية دقيقة في شمال فلسطين المحتلة وغير ذلك.
ولعل الصفعة الاستخبارية الشديدة الأولى التي وجهت إلى الجيش الإسرائيلي جاءت في أعقاب عملية الصواريخ التي أطلقت على "كفار جلعادي" وأدت إلى مقتل 12 جنديا.
الثقوب السوداء
في قاموس المصطلحات الاستخبارية هناك ما يسمونه "الثقوب السوداء"، وفي العمل الاستخباري الإسرائيلي ظهرت جملة "ثقوب سوداء" في حرب صيف 2006، كان أبرزها كما يستفاد من التحليلات العسكرية الإسرائيلية:
- أن الاستخبارات الإسرائيلية لم توفر للجيش معلومات كافية عن منظومة الصواريخ المضادة للمدرعات التي في حوزة حزب الله.
- أن الاستخبارات لم توفر أيضا معلومات عن وسائل قتالية متطورة لدى الحزب، مثل الصاروخ الذي قصف البارجة.
- عدم توفير معلومات استخبارية عن المنظومة المتطورة التي بناها حزب الله للقتال داخل القرى، وعدم تزويد القوات البرية بمعلومات كافية عن تحرك مقاتلي الحزب.
- فشل الاستخبارات في تزويد وحدات النخبة العسكرية بمعلومات دقيقة قبل عمليات الإنزال في بعلبك وصور التي فشلت جراء معلومات غير صحيحة زودت بها الاستخبارات وحدات النخبة.
- الفشل في تحقيق اختراق جدي لمركز صنع القرار في حزب الله بالضاحية الجنوبية لبيروت.
- عجز الاستخبارات حتى الآن، عن الرد على السؤال الأهم وهو: أين يقيم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله؟
بعد كل ذلك القصف المكثف المرعب للضاحية الجنوبية والمواقع الأخرى، أخفقت إسرائيل تماما في اصطياد أي قائد من قادة الحزب، وعندها دوت صرخة المحلل العسكري يوسي ملمان في هآرتس: أين يختبئ قادة حزب الله بحق الجحيم؟
استخلاصات
وفي فضاء حرب الاستخبارات المحتدمة، وفي إطار البحث الاستخباري الإسرائيلي المحموم عن مخبأ نصر الله وقيادات الحزب ومخابئ أسلحته الصاروخية وغيرها، أصيبت المؤسسة العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية بحالة من القلق والارتباك والحيرة، ففرزت طواقم البحث والتقييم والاستخلاص، في الوقت الذي لم يتوقف فيه حزب الله بدوره عن التطور والتطوير بما يتناسب مع حجم التحديات والمواجهة مع تلك الدولة التي تبيت لحرب عدوانية جديدة على لبنان والمقاومة.
ولذلك فإن الاستخلاصات لدى الجانب الإسرائيلي تركز إلى حد كبير على الوجه الاستخباري لحزب الله، وهي كما أعدها مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي تجيب عن أسئلة عدة أهمها: كيف تنظر إسرائيل إلى تطور القدرات الاستخبارية لحزب الله؟ وهل ترى تناسقاً بين تعاظمه العسكري الموصوف وتعاظمه الاستخباري حيالها؟ وما هو دور استخبارات الحزب في مواجهة اعتداءات إسرائيل على لبنان؟ وكيف ترى مكانة استخباراته في أي حرب مقبلة؟
ولعل هذه المحاور بذاتها هي التي يركز عليها حزب الله بدوره، بمعنى تطوير القدرات الاستخبارية على صعيد الجبهة اللبنانية الداخلية، والخارجية على صعيد الكيان الصهيوني وجيشه ومؤسساته العسكرية والاستخبارية والتسليحية المختلفة، إضافة إلى عناصر "البطن الرخوة" لديه، أي الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي تقلق المؤسسة السياسية والعسكرية إزاءها قلقا كبيرا متزايدا في ضوء انكشافها المرعب أمام حرب الصواريخ القادمة.
فعمل حزب الله الاستخباري كما يتبين وفقا للشهادات والقرائن التي يعززها بحث مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، عمل متوال وممأسس يشبه أسلوب عمل أجهزة الاستخبارات النظامية الكبيرة، إذ إن جمع المعلومات الاستخبارية الموجّهة، والعمل في أوساط جماهيرية مختلفة، إضافة إلى تطور خبرة مشغلي المصادر البشرية وكيفية تجنيدها، تدل على أن مسارات مأسسة الذراع الاستخبارية لحزب الله في السنوات الأخيرة، لم تتخلف عن مسارات مأسسة الذراع العسكرية.
وهذا كله يشير إلى تحول حزب الله من الناحية الاستخبارية والعملياتية، إلى جهة أكثر تركيزاً وخطورة ونجاعة وردعا.
الجزيرة.نت 26 أوت 2010
No comments:
Post a Comment