خطيئة الصمت وخطاب الثورة
بقلم: نبيل خلدون قريسة(*)
بقلم: نبيل خلدون قريسة(*)
لقد أخطأت، لقد أخطأنا. كان صمتي/صمتنا تواطئا مع المستحيل وخيانة للممكن. كنت أعدّ الأيام قبل الرحيل، كنت أنظر إلى المشهد بازدراء غير واقعي وتشاؤم عدمي.
لقد تلوثت بعدوى الامتهان التونسي لكل ما هو تونسي تماما مثل نظرة النخب العربية للشعوب التي انقطعت عنها. تلك أولى الخطايا. هذا بالرغم من أنّي كنت أتوقع الانفجار وتصوّرته بركانا أو طوفانا لا يبقي ولا يذر، خرابا وموتا. والغريب أنّ الجواب جاء من رحم الحياة: الموت نفسه، بتضحيات الشهداء، كان هو الأمل، هو الحل. فهو الذي حررني/حررنا، تماما كما كان الأمر زمن الكفاح ضد الاستعمار، وأعاد الأمل من الأرض، نفس الأرض المباركة، بعد انتظاره من السماء. هكذا قالت الأساطير قديما وهكذا يقول الفعل البشري اليوم. ليست الأسطورة إلاّ تعبيرا رمزيا عن الواقع البشري. ويكذب من يقول إنّ القدر متعال عن إرادة الإنسان: إذا الشعب يوما...
ها هي كلمة الحرية تنطق باللغة العربية أيضا، أخيرا، وليس في سياقها القديم: انعتاقا من العبودية، ولا في سياقها الطارئ تاريخيا والمتوثب دوما للتكرار: مناقضة الاستعمار، وإنما في سياق حداثي بامتياز: مواطنة. قلت في مرات إنّ الحرية هي الوجه الآخر للهوية (والعكس بالعكس)، وأعيد القول بسياق الدلالة الحاصلة اليوم: كلاهما الوجه الآخر للكرامة. وجوه ثلاثة؟ بل ذلك هو لغز الثنائيات التي يستنبطها العقل من الواقع.
الواقع هو الذي يصنع الدلالة وقد فرض كعادته معنى الحدث: الثورة هنا والآن ثورة الفعل لا ثورة الفكرة. لا مكان للإيديولوجيات بجميع أصنافها لا اليمينية ولا اليسارية، لكنّ ذلك لا يعني موت الإيديولوجيا مطلقا، بل هناك ميلاد جديد لجذر الإيديولوجيات جميعا والعقائد كلها: قيمة الإنسان في ذاته. تتبع الإيديولوجيا هذه الحقيقة ولا تسبقها، بل هي تنبت من جذرها الراسخ غصونا متفرعة يانعة مخصبة في تنوعها وتلوّن ثمارها. ليس الإنسان مجرد أداة، لا معنى لتسويقه في أسواق النخاسة الإيديولوجية الهابطة، فهو حر بطبعه، هو «رئيس» كما يقول ابن خلدون، يعرف معنى الحرية ومعنى الكرامة دون أن يعلّمه ذلك أحد ممن يدّعون القيادة والتوجيه، لم يعد هناك مكان للراعي الذي يسوق قطيعه مثلما كان الملوك المؤلهون والأنبياء المعجزون، لقد انتهى عصر الرعايا والعبيد، بلغ الوعي الإنساني درجة عليا لم يبلغها من قبل، هو تطور طبيعي في مسار تاريخ العقل.
هناك خطيئة صمت أكبر وأبلغ تأثيرا، هذه المرة تجاه ما حصل في العراق وأفغانستان وفلسطين من عنف مذهل وجرائم بشعة ضد الإنسانية ارتكبت باسم شرعيات زائفة وتحت غطاء الشرعية الدولية المنتهكة. هناك مشاركة صامتة في الجريمة صعّدت من مشاعر القهر لدى الشعوب العربية زادتها حدة تكميم الحكومات للأفواه باسم محاربة الإرهاب وشلها لكل حركة تضامن أو رغبة في الدفاع عن الإخوة في الثقافة والدم والدين، بما خلق حالة احتقان شديدة ضاعفت الاحتقان الأصلي تجاه المنظومات السياسية المحلية. لقد نسي المحللون أو تناسوا مشاعر القرابة مثل العروبة والقبلية أو العشائرية وعواطف الدين واللغة وشاعرية الانتماء ونضالية الالتزام، وراحوا يتحدثون عن انعدام الحريات والديمقراطية في مجتمعات منهوكة بالفقر والأمية والانحلال الاجتماعي للبنى التقليدية القبلية والطائفية.
لكنّ هذه البنى التقليدية لا تزال قائمة متخفية متربصة تنتظر فرصة إعادة الظهور والتفعيل في مشهد سياسي واجتماعي غير متوازن، وهي الآن في حالة البروز من جديد حيث لم تلتفت إليها الأنظار من قبل وحيث لم يعد أحد يتوقعها، هي تضمّد جراحها وتستعيد عافيتها وتتحدث عن نفسها: عائلة البوعزيزي تؤكد أنه تلقى الإهانة من امرأة موظفة بالبلدية أمام سخرية واحتقار موظفين رجال وأمام أعين الشارع في سيدي بوزيد بما يعني إلباسه فستان امرأة أي فقدانه لرجولته أمام عشيرته من أبناء الهمامة، هكذا تنكشف البنى القبلية التقليدية والعميقة من تحت قشرة رقيقة متشققة من التمدّن الزائف, فنراها تنفجر بركانا أو تنطلق طوفانا. هنا تبرز إشكالية التحديث في أفصح تعبيراتها وأنصع صورها في البلاد العربية والإسلامية من أفغانستان إلى موريتانيا. لقد فشلت عملية التحديث في خلق معادلة حداثية عادلة ومتوازنة تأخذ بعين الاعتبار حقيقة البنى الاجتماعية وطبيعتها القرابية التاريخية. وفشلت السياسات «التنموية» المتعسفة على هذه البنى الجذرية إما في قتلها أو في استثمارها.
هذا هو زلزال الحداثة الذي يستجيب اليوم للتحدي الكبير الذي مثلته في القرن التاسع عشر صدمة الحداثة في البلاد العربية-الإسلامية مع غزو جيوش نابليون والقوى الاستعمارية الأوروبية.
احترقت غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، وقبلها بغداد وأفغانستان وحتى برجا التجارة العالمية في نيويورك، كلها مشاهد مرعبة لم يكن في وسع شباب العرب والمسلمين احتمالها، استبطنوا بركان الإحباط والاحتقان والقهر حتى احترق جسدا تريمش ثم البوعزيزي واحترقت الجماهير بعدها في تونس والبلاد العربية بنار الثورة الشعبية المحطمة لجميع الأغلال من أغلال اللسان إلى أغلال الحكم المستبد للطغاة وزبانيتهم، ولا نظنها تنتهي عند هذا الحد. فموجة الزلزال لا تزال في بدايتها وترداداتها/ارتداداتها قد تبلغ مدى غير متوقع وقد تعود لتضرب نقاط انطلاقها لأنّ الإشكاليات الأصلية لا تزال إشكاليات والعوامل المولّدة لها لم تجد بعد حلولا ناجزة.
وهنا تكمن الخطيئة الأكبر متمثلة في أنّ النخب التي أقرتها الشعوب العربية والإسلامية واعترفت لها بالقيادة بل وأسندتها إليها بالدعم وأحيانا بالقوة قد فشلت في الإجابة عن الإشكاليات الكبرى وإيجاد الحلول العقلانية للأسس التي تنبني عليها مجتمعات تطمح لدخول العصر فعليّا وأخذ موقع كريم بين الأمم دون فقدان أسس هويتها العربية-الإسلامية. وها نحن نشهد تخبط هذه النخب مرة أخرى في استغلال الهدية الجديدة التي يقدمها لها الشعب ونرى لخبطتها في صياغة مشروع تحديثي قائم على العقلانية وعلى استثمار التراث في آن واحد دون تناقض، وبناء صرح حضاري حقيقي، إذ لا تزال مبادراتها مجرد ردود أفعال، ولا يزال خطابها خشبيا مضادا لخطاب الواقع الجديد.
صمتت وسائل الإعلام التونسية عن تقديم الأطروحات والبدائل بعد أن ركّزت على المشاكل الطارئة الآنية والمشاغل اليومية الكثيفة والمتكررة فاستعادت المشهد الإعلامي لما قبل الثورة، برامج الفرجة الاجتماعية للأخ الأكبر «عندي ما نقلك» و»فرغ قلبك» و»المسامح كريم» و»الحق معاك» وغيرها. نفس اللغة الخشبية تعود، الخطاب المضاد لخطاب الثورة الذي لم نره-لم نسمعه إلا لبضعة أيام على لسان أبناء سيدي بوزيد والقصرين.. أتركوهم يتكلمون، أتركوهم يجرحون مشاعرنا وأنوفنا، إنهم ضميرنا المستتر. اعتبروا بعفويتهم وصدقهم التي ألهمت خطابا مستجيبا تميز بأدائه وزير الداخلية الجديد، ونرجو للبقية أن يتبعوا الخطى فيحرروا اللسان والعقل والضمير.
ليست هذه ثورة طبقية، بل هي ثورة على العقليات الطبقية والفئوية والجهوية، ضد أن تكون/أكون متبجّحا أنك/أنني من أبناء تونس العاصمة أو الساحل أو صفاقس أو بنزرت أو قابس أو القيروان أو الكاف أو قفصة أو الجريد أو القصرين أو سيدي بوزيد الخ.. وننسى أننا أولا وأخيرا من أبناء الوطن تونس الذي لا شيء يفرق بين أبنائه، لا عرق ولا دين ولا مذهب ولا طائفة ولا لغة ولا ثقافة، بل هو أكثر مجتمعات الدنيا تجانسا وألصق الجماعات بيئات ومسافات جغرافية، ففي بضع سويعات تنتقل بين معظم المناطق والمدن والقرى، ولا تتنفس منطقة إلا بما يجاورها فلا ثروات هائلة تتكدس هنا أو هناك بما يغني عن الجوار، لا يمكن لأبناء مناطق الحبوب والزيتون والحوامض والنخيل وغيرها أن ينعموا بهذه الثروات دون مساعدة جيرانهم ولا أبناء منطقة الفسفاط أن يستغلوه بمفردهم كما لو كان نفطا أو ذهبا، وحتى مناطق النفط والغاز والمعادن في الجنوب والشمال لا تستطيع استغلال كنوزها بدون موانئ السواحل ومصانع التحويل الموزعة على مدن الكثافات السكانية والعمالية، ولا يمكن للاستثمار أن يستقر في المناطق ذات المناخ القاسي دون أن يرتبط ببيئات العيش اللطيف مناخا وترفيها وكثافة استهلاك الخ.. الكل يأكل ويستثمر ويجنى الثمار بفضل مجهودات الجميع دون تمييز، رغم وجود تفاوت واضح في درجات التمتع بهذه الثمار. ونحن نعلم أنّ الخلل بين المناطق لا يقل عن الخلل بين الفئات في جميع المناطق دون استثناء، فالفقر والغنى متقاسمان في كل مكان من بلادنا، وقد عانت الطبقة الوسطى البرجوازية عموما في العشرية الأخيرة مثلما عانت الطبقة الكادحة التي تقاسمها في الغالب العيش بنفس المدن والقرى الكبرى. وما ذلك التفاوت بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية بجديد، فهو ليس وليد اليوم ولا من صنع دولة الاستقلال ولا حتى الاستعمار، بل هو موروث تاريخي وطبيعي مرتبط بطبيعة البنى الاجتماعية منذ العصور القديمة حيث كانت الثنائية التقليدية البدو/الحضر راسخة إلى حين تدعّم انكسارها لصالح البدو في الداخل مع غزو الهلاليين. ولم تفلح القوى السياسية والعسكرية المتمركزة في المدن الساحلية في تعديل الكفتين بل زادت من احتقان العلاقة بينهما، ورغم تجربة القيروان العاصمة الوسطى لم تنجح الدولة المتمدنة فيها في هذا الاتجاه نظرا إلى تبنيها نفس السياسات المركزية، وعندما جاءت دولة العثمانيين الأتراك رسخت انعدام التوازن والاستقطاب الأحادي في اتجاه المدن الساحلية ذات الموانئ التصديرية نحو مركز السلطنة والأسواق المشرقية والأوروبية، وهو ما استغله الاستعمار في اتجاه قطبية وحيدة تمثلها المدينة-الأم المستعمرة تصديرا بل استنزافا غير مسبوق. أما سياسات الاستقلال المضطربة بله المتضاربة من اشتراكية زائفة إلى ليبرالية غير معتدلة، إلى تضامنية مظهرية تخفي استباحة إجراميّة للبلاد والعباد، كلها فشلت في تعديل كفتي الميزان المختل أصلا بل زادتها اختلالا هيكليا من الصعب تداركه، وليس هذا من باب التشاؤم فالذكاء التونسي معروف والخبرات والكفاءات متوفرة لكنّ الرؤية لا تزال يكتنفها غموض الأفق الفكري وغياب المقاربة العلمية العميقة التي تأخذ بمناهج البحث العلمي ونتائجه في جميع الاختصاصات.
أعني أنّ المقاربة التنموية لا تزال تنظر إلى الإشكاليات المذكورة أعلى من زاوية أنها مقتصرة على اختصاصات بعينها مثل القانون والاقتصاد بفروعهما المشكّلة لدواليب الإدارة وترتكز على منطق المحاسبية والأرقام الإحصائية الجافة ولا تفهم أنها تعني أيضا، وبنفس الأهمية على الأقل، علوم الإنسان في مقاربتها الإنسانوية العميقة والواقعية: الاجتماع والإناسة والتاريخ والجغرافيا والنفس والتربية والفلسفة والألسنية والعلاماتية وغيرها، وقد دعوت عدة مرات على امتداد خمسة عشر عاما إلى إنشاء مركز للدراسات والبحوث في مجال العلوم الإنسانية من أجل التنمية يكون قاعدة للمعلومات الميدانية الدقيقة ومصدرا للتخطيط الاستراتيجي المحكم في سياسات التنمية المحلية والوطنية. لا يبدو أنّ هذا النداء يهم أحدا أو لعله لا يوافق مصالح البعض، فضلا عن كونه قد يربك المقاربات المتعودة على تقليد الآخرين وعدم الوثوق في إبداع أبناء الوطن بما رسّخ التبعية واحتقار الذات. غير أنّ العلم لا علاقة له بالانتماءات، فهو عقلانية إنسانية كلية، لا يهمه أنّ الخصوصي محدود بقدر ما يهمه أنه جزء من الكوني المشترك بين جميع البشر على اختلاف أوضاعهم، كما لا يهمه إن كان ما ينتجه العقل هنا في إطاره الخصوصي قد يصلح لحل مشاكل أوسع انتشارا بقدر ما يهمه أنه في الأساس تعبير عن استقلالية الفكر والقرار.
إنّ مسألة الثقة جوهرية في تعاملنا مع ذاتنا الجمعية، مع شخصيتنا التاريخية وهويتنا الثقافية، كما في تعاملنا فيما بيننا. وما رداءة إعلامنا المرئي واستفحال الخطاب الضحل في مستويات الصورة والمصطلح والخطاب الرمزي والدلالي على حد السواء، إلا تعبيرا عن خلل بنيوي تترجمه ردود الفعل من الخارج التي لا تكاد تعير لنا أي اهتمام، وإنما نحن الذين أغلقنا أبواب الإطلال على الآخرين بممارساتنا البالية ولغتنا الخشبية واستنادنا إلى السهولة والارتجال واللامبالاة وبانعدام الثقة في أنفسنا، في إبداعاتنا، في فعلنا التاريخي العظيم، بحيث انسقنا إلى فخ احتقار أنفسنا والمزايدة على بعضنا بالأوهام التصنيفية، وما مردّ ذلك إلا جهلنا بتاريخنا الحضاري والثقافي بما جعل الآخرين يجهلوننا. هذا ما تبيّنه نظرة وسائل الإعلام الأجنبية لبلادنا، لشعبنا، لهويتنا الثقافية، لتاريخنا. تاريخ مشوه، تؤكد مشاركات أشباه المؤرخين من أبناء جلدتنا في برامج الفضائيات العربية بالخصوص أنّ الأمر مقصود للإساءة وأبعد ما يكون عن الموضوعية وبراءة النوايا، يقع فيها استعمال التاريخ الزائف المشخصن والموجّه مطية للقضاء على كرامة شعبنا وكفاحه الشريف ونضاله الطويل، تصفية لحسابات ضيقة وتنفيسا عن أحقاد دفينة. والنتيجة أنّ الآخرين لم يعودوا يكترثون بنا ولم يعد التاريخ التونسي العظيم يمثل لهم نبراسا في ظلماتهم التي يعيشون فيها على هامش التاريخ وخارج إطار العصر وقيمه الحداثية. ألم يبصر هؤلاء المتأرّخون التونسيون وغير التونسيين ما تقدمه لهم تونس اليوم من نموذج التحديث العقلاني لأسس المجتمع العربي-الإسلامي من القاعدة إلى أعلى الهرم، أي من بنية المجتمع الحراكي والمهيكل حول قيمة الأسرة الراسخة ومكانة المرأة في التربية والبناء والمساهمة في الحياة العامة في مساواة تامة بينها وبين أخيها الرجل دون أدنى عُقَد، ودور النقابات المحوري بل الاستثنائي في تنظيم العمل وتنسيق النضالات المشروعة لكافة فئات المجتمع، إلى جانب الاندماج الهادئ لمختلف الجماعات العرقية والدينية والمذهبية الأقلية دون عنصرية أو تمييز، مرورا بالبناء الاقتصادي المتفتح على أحدث التقنيات الإنتاجية والتنظيمات المؤسساتية، ووصولا إلى ما أفرزته حراكية التاريخ الطبيعية من ثورة الكرامة في سبيل الحريات المنعتقة والفعل السياسي الواعي على أساس المسؤولية الوطنية والحياة الديمقراطية المواطنية في إطار دولة مدنية لا يحكمها الجيش ولا رجال الدين؟ أليس هذا المسار التطوري وهذه المنجزات على أرض الواقع أمرا استثنائيا في كامل بلاد العرب والمسلمين؟ وهل يتصورون بلدا عربيا أو مسلما يمكنه اللحاق بتونس في هذه النموذجية التحديثية دون الاستفادة من تجربتها الرائدة؟ ورغم ذلك لا تقول تونس بمعجزية مكاسبها ولا تدعو لتقليدها ولا تنوي تصدير ثورتها، بل تبقى القلب النابض والضمير الحي للعروبة والإسلام تكذيبا لزيف الشعارات الرائجة وكذلك لادّعاءات الاستعماريين والصهاينة حول العرب والمسلمين.
ها أنّ تلك الأخطاء التي أسس لها الإعلام الهزيل في تونس واستغلها الإعلام المعادي والحسود باعتماد الحاقدين من أبنائنا، تثمر اليوم تجاهلا منهجيا وازدراء متمنطقا تبريرات سخيفة من نوع البلد الصغير والبلد الكبير.. لذا لا نعجب أنه فجأة ودون مقدمات صمتت جميع وسائل الإعلام العربية عن أحداث تونس المؤسسة لعصر عربي-إسلامي مغاير تماما وانشغلت بأحداث مصر المتزامنة تقريبا مبررة ذلك بأنها الدولة الكبيرة والشعب العظيم وأنّ زلزال مصر سيغيّر مسار العالم العربي والإسلامي بل العالم وسيؤثر في القضية الفلسطينية ويزلزل أمريكا وإسرائيل...وحده الإمام خامنائي مرشد الثورة الإيرانية استعاد ذكرى تونس وأهمية ثورتها المبادرة بالتغيير وهو يتحدث عن ثورة مصر لكنه لم يقدر على ذكر اسم عَلم تونسي واحد في مقابل استعراض أسماء سعد زغلول والأفغاني ومحمد عبده والإمام البنّا من مصر. هكذا هي تونس دوما عبر التاريخ مولدة للطموحات الإنسانية وملهمة المبادئ السامية من دستور قرطاج الذي فضّله أرسطو على دساتير المدن الاغريقية نفسها إلى فقه القيروان الذي أشاع قيم الاعتدال في كامل الغرب الإسلامي وحتى مشاريع الإصلاح الحداثية ودستور «عهد الأمان» الأول في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر ثم مجلة الأحوال الشخصية الأكثر عقلانية في تاريخ الحضارة الإسلامية بأكمله، لكنها في كل مرة لا تكاد كتب التاريخ تذكرها وتركز في المقابل على صغر حجمها وضعف ثقلها الديمغرافي، متناسية أنّ حجم تونس الجغرافي عبر التاريخ كان أكبر بكثير وأنها كوّنت امبراطوريات وممالك واسعة وأنّ ما أبقى منها الاستعمار لغايات امبريالية معروفة إنما يمثل الرأس المفكر والقلب النابض لتلك المشاريع السياسية والحضارية العظمى في القديم، لذا لم يعد مهما ما أبقى لها من أراض تتبعها بقدر ما يهم أنها بقيت تبدع في مستوى حجمها التاريخي العظيم باعتبارها القطب المرجعي والضمير الحي للإقليم الذي تنتمي إليه.
لكن علينا الانتباه إلى أنّ تونس التي تحولت اليوم بروح شبابها ودمائهم إلى أهم ورشة تحديثية في العالم العربي-الإسلامي، تجاوزت في ذلك الحالة التركية وقطعت مع الحالة الإيرانية - رغم ادعاء المرشد الذي أراد استباق الأزمة القادمة التي قد تعصف بالنظام الملالي فاعتبر أنّ ما يحدث في تونس ومصر نتيجة للثورة هناك-، إنما هي(تونس)لم تحقق من الثورة غير مقدماتها وأنّ المخاطر لا تزال تحدق بها وأنها بالخصوص لم تشرع في برنامجها الثوري الحقيقي المتمثل في التأسيس العلمي العقلاني لمسار التحديث على محاوره الثلاثة: العقل والخطاب والممارسات.
(*) أستاذ التاريخ بكلية الآداب بمنوبة
http://www.assabah.com.tn/article-49280.html/
لقد تلوثت بعدوى الامتهان التونسي لكل ما هو تونسي تماما مثل نظرة النخب العربية للشعوب التي انقطعت عنها. تلك أولى الخطايا. هذا بالرغم من أنّي كنت أتوقع الانفجار وتصوّرته بركانا أو طوفانا لا يبقي ولا يذر، خرابا وموتا. والغريب أنّ الجواب جاء من رحم الحياة: الموت نفسه، بتضحيات الشهداء، كان هو الأمل، هو الحل. فهو الذي حررني/حررنا، تماما كما كان الأمر زمن الكفاح ضد الاستعمار، وأعاد الأمل من الأرض، نفس الأرض المباركة، بعد انتظاره من السماء. هكذا قالت الأساطير قديما وهكذا يقول الفعل البشري اليوم. ليست الأسطورة إلاّ تعبيرا رمزيا عن الواقع البشري. ويكذب من يقول إنّ القدر متعال عن إرادة الإنسان: إذا الشعب يوما...
ها هي كلمة الحرية تنطق باللغة العربية أيضا، أخيرا، وليس في سياقها القديم: انعتاقا من العبودية، ولا في سياقها الطارئ تاريخيا والمتوثب دوما للتكرار: مناقضة الاستعمار، وإنما في سياق حداثي بامتياز: مواطنة. قلت في مرات إنّ الحرية هي الوجه الآخر للهوية (والعكس بالعكس)، وأعيد القول بسياق الدلالة الحاصلة اليوم: كلاهما الوجه الآخر للكرامة. وجوه ثلاثة؟ بل ذلك هو لغز الثنائيات التي يستنبطها العقل من الواقع.
الواقع هو الذي يصنع الدلالة وقد فرض كعادته معنى الحدث: الثورة هنا والآن ثورة الفعل لا ثورة الفكرة. لا مكان للإيديولوجيات بجميع أصنافها لا اليمينية ولا اليسارية، لكنّ ذلك لا يعني موت الإيديولوجيا مطلقا، بل هناك ميلاد جديد لجذر الإيديولوجيات جميعا والعقائد كلها: قيمة الإنسان في ذاته. تتبع الإيديولوجيا هذه الحقيقة ولا تسبقها، بل هي تنبت من جذرها الراسخ غصونا متفرعة يانعة مخصبة في تنوعها وتلوّن ثمارها. ليس الإنسان مجرد أداة، لا معنى لتسويقه في أسواق النخاسة الإيديولوجية الهابطة، فهو حر بطبعه، هو «رئيس» كما يقول ابن خلدون، يعرف معنى الحرية ومعنى الكرامة دون أن يعلّمه ذلك أحد ممن يدّعون القيادة والتوجيه، لم يعد هناك مكان للراعي الذي يسوق قطيعه مثلما كان الملوك المؤلهون والأنبياء المعجزون، لقد انتهى عصر الرعايا والعبيد، بلغ الوعي الإنساني درجة عليا لم يبلغها من قبل، هو تطور طبيعي في مسار تاريخ العقل.
هناك خطيئة صمت أكبر وأبلغ تأثيرا، هذه المرة تجاه ما حصل في العراق وأفغانستان وفلسطين من عنف مذهل وجرائم بشعة ضد الإنسانية ارتكبت باسم شرعيات زائفة وتحت غطاء الشرعية الدولية المنتهكة. هناك مشاركة صامتة في الجريمة صعّدت من مشاعر القهر لدى الشعوب العربية زادتها حدة تكميم الحكومات للأفواه باسم محاربة الإرهاب وشلها لكل حركة تضامن أو رغبة في الدفاع عن الإخوة في الثقافة والدم والدين، بما خلق حالة احتقان شديدة ضاعفت الاحتقان الأصلي تجاه المنظومات السياسية المحلية. لقد نسي المحللون أو تناسوا مشاعر القرابة مثل العروبة والقبلية أو العشائرية وعواطف الدين واللغة وشاعرية الانتماء ونضالية الالتزام، وراحوا يتحدثون عن انعدام الحريات والديمقراطية في مجتمعات منهوكة بالفقر والأمية والانحلال الاجتماعي للبنى التقليدية القبلية والطائفية.
لكنّ هذه البنى التقليدية لا تزال قائمة متخفية متربصة تنتظر فرصة إعادة الظهور والتفعيل في مشهد سياسي واجتماعي غير متوازن، وهي الآن في حالة البروز من جديد حيث لم تلتفت إليها الأنظار من قبل وحيث لم يعد أحد يتوقعها، هي تضمّد جراحها وتستعيد عافيتها وتتحدث عن نفسها: عائلة البوعزيزي تؤكد أنه تلقى الإهانة من امرأة موظفة بالبلدية أمام سخرية واحتقار موظفين رجال وأمام أعين الشارع في سيدي بوزيد بما يعني إلباسه فستان امرأة أي فقدانه لرجولته أمام عشيرته من أبناء الهمامة، هكذا تنكشف البنى القبلية التقليدية والعميقة من تحت قشرة رقيقة متشققة من التمدّن الزائف, فنراها تنفجر بركانا أو تنطلق طوفانا. هنا تبرز إشكالية التحديث في أفصح تعبيراتها وأنصع صورها في البلاد العربية والإسلامية من أفغانستان إلى موريتانيا. لقد فشلت عملية التحديث في خلق معادلة حداثية عادلة ومتوازنة تأخذ بعين الاعتبار حقيقة البنى الاجتماعية وطبيعتها القرابية التاريخية. وفشلت السياسات «التنموية» المتعسفة على هذه البنى الجذرية إما في قتلها أو في استثمارها.
هذا هو زلزال الحداثة الذي يستجيب اليوم للتحدي الكبير الذي مثلته في القرن التاسع عشر صدمة الحداثة في البلاد العربية-الإسلامية مع غزو جيوش نابليون والقوى الاستعمارية الأوروبية.
احترقت غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، وقبلها بغداد وأفغانستان وحتى برجا التجارة العالمية في نيويورك، كلها مشاهد مرعبة لم يكن في وسع شباب العرب والمسلمين احتمالها، استبطنوا بركان الإحباط والاحتقان والقهر حتى احترق جسدا تريمش ثم البوعزيزي واحترقت الجماهير بعدها في تونس والبلاد العربية بنار الثورة الشعبية المحطمة لجميع الأغلال من أغلال اللسان إلى أغلال الحكم المستبد للطغاة وزبانيتهم، ولا نظنها تنتهي عند هذا الحد. فموجة الزلزال لا تزال في بدايتها وترداداتها/ارتداداتها قد تبلغ مدى غير متوقع وقد تعود لتضرب نقاط انطلاقها لأنّ الإشكاليات الأصلية لا تزال إشكاليات والعوامل المولّدة لها لم تجد بعد حلولا ناجزة.
وهنا تكمن الخطيئة الأكبر متمثلة في أنّ النخب التي أقرتها الشعوب العربية والإسلامية واعترفت لها بالقيادة بل وأسندتها إليها بالدعم وأحيانا بالقوة قد فشلت في الإجابة عن الإشكاليات الكبرى وإيجاد الحلول العقلانية للأسس التي تنبني عليها مجتمعات تطمح لدخول العصر فعليّا وأخذ موقع كريم بين الأمم دون فقدان أسس هويتها العربية-الإسلامية. وها نحن نشهد تخبط هذه النخب مرة أخرى في استغلال الهدية الجديدة التي يقدمها لها الشعب ونرى لخبطتها في صياغة مشروع تحديثي قائم على العقلانية وعلى استثمار التراث في آن واحد دون تناقض، وبناء صرح حضاري حقيقي، إذ لا تزال مبادراتها مجرد ردود أفعال، ولا يزال خطابها خشبيا مضادا لخطاب الواقع الجديد.
صمتت وسائل الإعلام التونسية عن تقديم الأطروحات والبدائل بعد أن ركّزت على المشاكل الطارئة الآنية والمشاغل اليومية الكثيفة والمتكررة فاستعادت المشهد الإعلامي لما قبل الثورة، برامج الفرجة الاجتماعية للأخ الأكبر «عندي ما نقلك» و»فرغ قلبك» و»المسامح كريم» و»الحق معاك» وغيرها. نفس اللغة الخشبية تعود، الخطاب المضاد لخطاب الثورة الذي لم نره-لم نسمعه إلا لبضعة أيام على لسان أبناء سيدي بوزيد والقصرين.. أتركوهم يتكلمون، أتركوهم يجرحون مشاعرنا وأنوفنا، إنهم ضميرنا المستتر. اعتبروا بعفويتهم وصدقهم التي ألهمت خطابا مستجيبا تميز بأدائه وزير الداخلية الجديد، ونرجو للبقية أن يتبعوا الخطى فيحرروا اللسان والعقل والضمير.
ليست هذه ثورة طبقية، بل هي ثورة على العقليات الطبقية والفئوية والجهوية، ضد أن تكون/أكون متبجّحا أنك/أنني من أبناء تونس العاصمة أو الساحل أو صفاقس أو بنزرت أو قابس أو القيروان أو الكاف أو قفصة أو الجريد أو القصرين أو سيدي بوزيد الخ.. وننسى أننا أولا وأخيرا من أبناء الوطن تونس الذي لا شيء يفرق بين أبنائه، لا عرق ولا دين ولا مذهب ولا طائفة ولا لغة ولا ثقافة، بل هو أكثر مجتمعات الدنيا تجانسا وألصق الجماعات بيئات ومسافات جغرافية، ففي بضع سويعات تنتقل بين معظم المناطق والمدن والقرى، ولا تتنفس منطقة إلا بما يجاورها فلا ثروات هائلة تتكدس هنا أو هناك بما يغني عن الجوار، لا يمكن لأبناء مناطق الحبوب والزيتون والحوامض والنخيل وغيرها أن ينعموا بهذه الثروات دون مساعدة جيرانهم ولا أبناء منطقة الفسفاط أن يستغلوه بمفردهم كما لو كان نفطا أو ذهبا، وحتى مناطق النفط والغاز والمعادن في الجنوب والشمال لا تستطيع استغلال كنوزها بدون موانئ السواحل ومصانع التحويل الموزعة على مدن الكثافات السكانية والعمالية، ولا يمكن للاستثمار أن يستقر في المناطق ذات المناخ القاسي دون أن يرتبط ببيئات العيش اللطيف مناخا وترفيها وكثافة استهلاك الخ.. الكل يأكل ويستثمر ويجنى الثمار بفضل مجهودات الجميع دون تمييز، رغم وجود تفاوت واضح في درجات التمتع بهذه الثمار. ونحن نعلم أنّ الخلل بين المناطق لا يقل عن الخلل بين الفئات في جميع المناطق دون استثناء، فالفقر والغنى متقاسمان في كل مكان من بلادنا، وقد عانت الطبقة الوسطى البرجوازية عموما في العشرية الأخيرة مثلما عانت الطبقة الكادحة التي تقاسمها في الغالب العيش بنفس المدن والقرى الكبرى. وما ذلك التفاوت بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية بجديد، فهو ليس وليد اليوم ولا من صنع دولة الاستقلال ولا حتى الاستعمار، بل هو موروث تاريخي وطبيعي مرتبط بطبيعة البنى الاجتماعية منذ العصور القديمة حيث كانت الثنائية التقليدية البدو/الحضر راسخة إلى حين تدعّم انكسارها لصالح البدو في الداخل مع غزو الهلاليين. ولم تفلح القوى السياسية والعسكرية المتمركزة في المدن الساحلية في تعديل الكفتين بل زادت من احتقان العلاقة بينهما، ورغم تجربة القيروان العاصمة الوسطى لم تنجح الدولة المتمدنة فيها في هذا الاتجاه نظرا إلى تبنيها نفس السياسات المركزية، وعندما جاءت دولة العثمانيين الأتراك رسخت انعدام التوازن والاستقطاب الأحادي في اتجاه المدن الساحلية ذات الموانئ التصديرية نحو مركز السلطنة والأسواق المشرقية والأوروبية، وهو ما استغله الاستعمار في اتجاه قطبية وحيدة تمثلها المدينة-الأم المستعمرة تصديرا بل استنزافا غير مسبوق. أما سياسات الاستقلال المضطربة بله المتضاربة من اشتراكية زائفة إلى ليبرالية غير معتدلة، إلى تضامنية مظهرية تخفي استباحة إجراميّة للبلاد والعباد، كلها فشلت في تعديل كفتي الميزان المختل أصلا بل زادتها اختلالا هيكليا من الصعب تداركه، وليس هذا من باب التشاؤم فالذكاء التونسي معروف والخبرات والكفاءات متوفرة لكنّ الرؤية لا تزال يكتنفها غموض الأفق الفكري وغياب المقاربة العلمية العميقة التي تأخذ بمناهج البحث العلمي ونتائجه في جميع الاختصاصات.
أعني أنّ المقاربة التنموية لا تزال تنظر إلى الإشكاليات المذكورة أعلى من زاوية أنها مقتصرة على اختصاصات بعينها مثل القانون والاقتصاد بفروعهما المشكّلة لدواليب الإدارة وترتكز على منطق المحاسبية والأرقام الإحصائية الجافة ولا تفهم أنها تعني أيضا، وبنفس الأهمية على الأقل، علوم الإنسان في مقاربتها الإنسانوية العميقة والواقعية: الاجتماع والإناسة والتاريخ والجغرافيا والنفس والتربية والفلسفة والألسنية والعلاماتية وغيرها، وقد دعوت عدة مرات على امتداد خمسة عشر عاما إلى إنشاء مركز للدراسات والبحوث في مجال العلوم الإنسانية من أجل التنمية يكون قاعدة للمعلومات الميدانية الدقيقة ومصدرا للتخطيط الاستراتيجي المحكم في سياسات التنمية المحلية والوطنية. لا يبدو أنّ هذا النداء يهم أحدا أو لعله لا يوافق مصالح البعض، فضلا عن كونه قد يربك المقاربات المتعودة على تقليد الآخرين وعدم الوثوق في إبداع أبناء الوطن بما رسّخ التبعية واحتقار الذات. غير أنّ العلم لا علاقة له بالانتماءات، فهو عقلانية إنسانية كلية، لا يهمه أنّ الخصوصي محدود بقدر ما يهمه أنه جزء من الكوني المشترك بين جميع البشر على اختلاف أوضاعهم، كما لا يهمه إن كان ما ينتجه العقل هنا في إطاره الخصوصي قد يصلح لحل مشاكل أوسع انتشارا بقدر ما يهمه أنه في الأساس تعبير عن استقلالية الفكر والقرار.
إنّ مسألة الثقة جوهرية في تعاملنا مع ذاتنا الجمعية، مع شخصيتنا التاريخية وهويتنا الثقافية، كما في تعاملنا فيما بيننا. وما رداءة إعلامنا المرئي واستفحال الخطاب الضحل في مستويات الصورة والمصطلح والخطاب الرمزي والدلالي على حد السواء، إلا تعبيرا عن خلل بنيوي تترجمه ردود الفعل من الخارج التي لا تكاد تعير لنا أي اهتمام، وإنما نحن الذين أغلقنا أبواب الإطلال على الآخرين بممارساتنا البالية ولغتنا الخشبية واستنادنا إلى السهولة والارتجال واللامبالاة وبانعدام الثقة في أنفسنا، في إبداعاتنا، في فعلنا التاريخي العظيم، بحيث انسقنا إلى فخ احتقار أنفسنا والمزايدة على بعضنا بالأوهام التصنيفية، وما مردّ ذلك إلا جهلنا بتاريخنا الحضاري والثقافي بما جعل الآخرين يجهلوننا. هذا ما تبيّنه نظرة وسائل الإعلام الأجنبية لبلادنا، لشعبنا، لهويتنا الثقافية، لتاريخنا. تاريخ مشوه، تؤكد مشاركات أشباه المؤرخين من أبناء جلدتنا في برامج الفضائيات العربية بالخصوص أنّ الأمر مقصود للإساءة وأبعد ما يكون عن الموضوعية وبراءة النوايا، يقع فيها استعمال التاريخ الزائف المشخصن والموجّه مطية للقضاء على كرامة شعبنا وكفاحه الشريف ونضاله الطويل، تصفية لحسابات ضيقة وتنفيسا عن أحقاد دفينة. والنتيجة أنّ الآخرين لم يعودوا يكترثون بنا ولم يعد التاريخ التونسي العظيم يمثل لهم نبراسا في ظلماتهم التي يعيشون فيها على هامش التاريخ وخارج إطار العصر وقيمه الحداثية. ألم يبصر هؤلاء المتأرّخون التونسيون وغير التونسيين ما تقدمه لهم تونس اليوم من نموذج التحديث العقلاني لأسس المجتمع العربي-الإسلامي من القاعدة إلى أعلى الهرم، أي من بنية المجتمع الحراكي والمهيكل حول قيمة الأسرة الراسخة ومكانة المرأة في التربية والبناء والمساهمة في الحياة العامة في مساواة تامة بينها وبين أخيها الرجل دون أدنى عُقَد، ودور النقابات المحوري بل الاستثنائي في تنظيم العمل وتنسيق النضالات المشروعة لكافة فئات المجتمع، إلى جانب الاندماج الهادئ لمختلف الجماعات العرقية والدينية والمذهبية الأقلية دون عنصرية أو تمييز، مرورا بالبناء الاقتصادي المتفتح على أحدث التقنيات الإنتاجية والتنظيمات المؤسساتية، ووصولا إلى ما أفرزته حراكية التاريخ الطبيعية من ثورة الكرامة في سبيل الحريات المنعتقة والفعل السياسي الواعي على أساس المسؤولية الوطنية والحياة الديمقراطية المواطنية في إطار دولة مدنية لا يحكمها الجيش ولا رجال الدين؟ أليس هذا المسار التطوري وهذه المنجزات على أرض الواقع أمرا استثنائيا في كامل بلاد العرب والمسلمين؟ وهل يتصورون بلدا عربيا أو مسلما يمكنه اللحاق بتونس في هذه النموذجية التحديثية دون الاستفادة من تجربتها الرائدة؟ ورغم ذلك لا تقول تونس بمعجزية مكاسبها ولا تدعو لتقليدها ولا تنوي تصدير ثورتها، بل تبقى القلب النابض والضمير الحي للعروبة والإسلام تكذيبا لزيف الشعارات الرائجة وكذلك لادّعاءات الاستعماريين والصهاينة حول العرب والمسلمين.
ها أنّ تلك الأخطاء التي أسس لها الإعلام الهزيل في تونس واستغلها الإعلام المعادي والحسود باعتماد الحاقدين من أبنائنا، تثمر اليوم تجاهلا منهجيا وازدراء متمنطقا تبريرات سخيفة من نوع البلد الصغير والبلد الكبير.. لذا لا نعجب أنه فجأة ودون مقدمات صمتت جميع وسائل الإعلام العربية عن أحداث تونس المؤسسة لعصر عربي-إسلامي مغاير تماما وانشغلت بأحداث مصر المتزامنة تقريبا مبررة ذلك بأنها الدولة الكبيرة والشعب العظيم وأنّ زلزال مصر سيغيّر مسار العالم العربي والإسلامي بل العالم وسيؤثر في القضية الفلسطينية ويزلزل أمريكا وإسرائيل...وحده الإمام خامنائي مرشد الثورة الإيرانية استعاد ذكرى تونس وأهمية ثورتها المبادرة بالتغيير وهو يتحدث عن ثورة مصر لكنه لم يقدر على ذكر اسم عَلم تونسي واحد في مقابل استعراض أسماء سعد زغلول والأفغاني ومحمد عبده والإمام البنّا من مصر. هكذا هي تونس دوما عبر التاريخ مولدة للطموحات الإنسانية وملهمة المبادئ السامية من دستور قرطاج الذي فضّله أرسطو على دساتير المدن الاغريقية نفسها إلى فقه القيروان الذي أشاع قيم الاعتدال في كامل الغرب الإسلامي وحتى مشاريع الإصلاح الحداثية ودستور «عهد الأمان» الأول في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر ثم مجلة الأحوال الشخصية الأكثر عقلانية في تاريخ الحضارة الإسلامية بأكمله، لكنها في كل مرة لا تكاد كتب التاريخ تذكرها وتركز في المقابل على صغر حجمها وضعف ثقلها الديمغرافي، متناسية أنّ حجم تونس الجغرافي عبر التاريخ كان أكبر بكثير وأنها كوّنت امبراطوريات وممالك واسعة وأنّ ما أبقى منها الاستعمار لغايات امبريالية معروفة إنما يمثل الرأس المفكر والقلب النابض لتلك المشاريع السياسية والحضارية العظمى في القديم، لذا لم يعد مهما ما أبقى لها من أراض تتبعها بقدر ما يهم أنها بقيت تبدع في مستوى حجمها التاريخي العظيم باعتبارها القطب المرجعي والضمير الحي للإقليم الذي تنتمي إليه.
لكن علينا الانتباه إلى أنّ تونس التي تحولت اليوم بروح شبابها ودمائهم إلى أهم ورشة تحديثية في العالم العربي-الإسلامي، تجاوزت في ذلك الحالة التركية وقطعت مع الحالة الإيرانية - رغم ادعاء المرشد الذي أراد استباق الأزمة القادمة التي قد تعصف بالنظام الملالي فاعتبر أنّ ما يحدث في تونس ومصر نتيجة للثورة هناك-، إنما هي(تونس)لم تحقق من الثورة غير مقدماتها وأنّ المخاطر لا تزال تحدق بها وأنها بالخصوص لم تشرع في برنامجها الثوري الحقيقي المتمثل في التأسيس العلمي العقلاني لمسار التحديث على محاوره الثلاثة: العقل والخطاب والممارسات.
(*) أستاذ التاريخ بكلية الآداب بمنوبة
http://www.assabah.com.tn/article-49280.html/
No comments:
Post a Comment