! سكت "المرزوقي" حين كان عليه أن يتكلّم...
21/12/2012 12:17
بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان نظمت رئاسة الجمهورية حفل تكريم لأصدقاء تونس الذين وقفوا ضد نظام بن علي، ولم يمر هذا الحدث دون أن يخلف جدلا واسعا بسبب منع زهير مخلوف كاتب عام فرع تونس لمنظمة العفو الدولية من دخول قصر قرطاج فضلا عن استثناء ممثلي جمعية القضاة التونسيين من التكريم رغم دعوتهم إلى الحفل، ومن أبرز الغائبين عن حفل التكريم الذي أشرف عليه رئيس الجمهورية شخصيا الدكتور أحمد المناعي رئيس المعهد التونسي للعلاقات الدولية الذي كان من أوائل الذين جاهروا بمعارضتهم لنظام بن علي مطلع التسعينات من القرن الماضي.
.
وقد وافانا الدكتور المناعي مؤلف كتاب «العذاب التونسي: الحديقة السرية لبـن علي» الصادر بفرنسا سنة 1995 بنص يتعلق بشهادته العلنية الأولى ضد نظام بن علي بتاريخ 15 جوان 1991 ننشره كاملا.
وقد وافانا الدكتور المناعي مؤلف كتاب «العذاب التونسي: الحديقة السرية لبـن علي» الصادر بفرنسا سنة 1995 بنص يتعلق بشهادته العلنية الأولى ضد نظام بن علي بتاريخ 15 جوان 1991 ننشره كاملا.
.
يوم السّبت 15 جوان 1991، دعيت إلى ندوة بعنوان «العالم العربيّ، حقوق الإنسان والنّظام الدّولي الجديد»، نظّمتْها الجمعيّة العربيّة لحقوق الإنسان بفرنسا التّي كان يرأسها بطرس حلاق، من سوريا، وكان أمينها العام المغربيّ اِبراهيم سايس
يوم السّبت 15 جوان 1991، دعيت إلى ندوة بعنوان «العالم العربيّ، حقوق الإنسان والنّظام الدّولي الجديد»، نظّمتْها الجمعيّة العربيّة لحقوق الإنسان بفرنسا التّي كان يرأسها بطرس حلاق، من سوريا، وكان أمينها العام المغربيّ اِبراهيم سايس
.
في البداية تردّدت كثيرا في حضور النّدوة، ليقيني بأنّني إنْ حضرْتها فلنْ أتمالك نفسي من الإصداعِ بشهادتي عمّا يحدث في تونس، وفي ذلك خروج صريح عنْ تعهّداتي التّي قطعْتها على نفسي واُلتزمْتُ بها تجاه وزارة الدّاخليّة، فقدْ كان شرط الأجهزة الأمنيّة والمصالح المختصّة بالتّحديد التّي كان يرأسها «محمّد علي القنزوعي»، أنْ أسْتخْرج جواز سفري وأعود إلى عملي في الأمم المتّحدة، شريطة أنْ أمسك عن كلّ نشاط وعمل وشهادة ضدّ النّظام، بلْ أكثر منْ ذلك، أنْ أخبرهم بكلّ ما يبلغني من حراكٍ مناوئ للسّلطة.
ولكيْ يطمئنّوا إلى وفائي باَلْتزاماتي، وضعوا زوْجتي وأطفالي الخمْسة بما فيهمْ اِبْني الطّاهر، ذي الأربع سنوات، على لائحة الممنوعين من السّفر.
والحقيقة أنّني تجاوزتُ المحظور بعد أقلّ من أسبوع من بدْء منفاي يوم 18 ماي1991، حيْثُ أنّي كتبْتُ شهادة في ثلاث صفحاتٍ وبعثْتُ بها إلى بعض المنظّمات الحقوقيّة وبعض معارفي، وهو الأمر الذي أراحني نفسيّا وأخْرجني من سجْني الدّاخلي.
في النّهاية، تغلّبتُ على تردّدي وتجاوزت حساباتي الخاصّة وذهبْتُ الى النّدوة وأنا عازم على ملازمة الصّمتَ، ولعلّ ما شجّعني على ذلك، حضور المنصف المرزوقي فيها.. فقدْ تصوّرتُ أنّه سياْتينا بالجديد من أخبار البلد.
بدأتْ النّدوة ككلّ النّدوات بكلمات التّرْحيب والتّعْريف بالمنظّمة، ثمّ اِنتقلْنا إلى المداخلات.
وضع حقوق الإنسان في عالم عربيّ، إجْماع على أنّها غائبة تمامًا، أو هي في أسوإ الأحوال.. أمّا عن النّظام الدّولي الجديد، فحدّث ولا حرج خاصّة بعد اِنْهيار الاِتّحاد السّوفياتي وبعد الحرب على العراق واَنفراد أمريكا بالعالم.
اِكتشفْتُ يوْمها، «حمّادي الصيد» وكان ممثّل الجامعة العربيّة في باريس، وكان بالخصوص مثقّفًا مميّزا، يُتْقن اللغات وفنون الحوار والجدل إذا لزم.. وقدْ برْهن على ذلك طول السّنوات التّالية، وحتّى وفاته، كان على الدّوام هو المتألّق والمتميز في كلّ الحوارات التّلفزيّة المتعلّقة بالشؤون العربيّة والإسلاميّة.
المنصف المرزوقي الذّي اِنتظرْنا كلمته، لمْ يتكلّم، وشعرت بضرورة التّدخّل، حتّى لا تبْقى قضيّة اِنتهاكات حقوق الإنسان قضيّة نظريّة يتداولها المثقّفون والنّاشطون الحقوقيّون والسّياسيّون في المناسبات وفي المنابر والنّدوات الاِسْتعراضيّة.
كان هناك في القاعة بعض الوجوه النّهضويّة، لكن لا أحد منهمْ تكلّمَ. تصوّرت أنّ الأمر راجع إلى معْرفتهم المحدودة باللّغة الفرنسيّة، ولكنّ صمْتهمْ في النّدوات اِستمرّ حتّى بعد حصول بعضهم على الدّكتوراه.
الصّمت عندهم ظلّ هو القاعدة، مادام هناك منْ يدافع عنْهم بلا حسابٍ ولا أجرٍ..
اِنْتحيْتُ مكانًا قصيّا في آخر القاعة وطلبْتُ الكلمة، وتحدّثتُ طويلا وبإسهابٍ عمّا يحدث في تونس: عن الإيقافات بالجملة وبالآلافِ، عن المحاكمات، وبالخصوص عن التّعذيب وعن عشرات الموْتى تحت التّعذيب، وتحدّثتُ عنْ تجْربتي الخاصّة..
اِستمع إليّ الجميع، وفي آخر حديثي، ردّ عليّ حمّادي الصّيد بأنّه سمع وسجّل وسوف يبلّغ.
اِغتنمت فترة الرّاحة، وخروج «المنصف المرزوقي» من القاعة فاَلْتحقْت به: سي المنصف، تعـال نتحدّث قليلا. فقال لي: إنّهم ينظرون إليْنا.
كان مرعوبًا، لا أدْري إنْ كان ذلك منْ اِكْتشافي حيّا، وهو الذّي حسب أنْ اِبْتلعني الحوتُ أو غرقت في جبّ وزارة الداخلية وأمن الدولة.
وصحيح أنّه كان في القاعة أعوان للنّظام، لمْ أكنْ أعْرفهمْ وقْتها، لكنّي تعوّدت عليْهم فيما بعد. مشى المنصف ومشيتُ وراءه، وجرّني إلى إحدى بيوت الماء المقابلة للقاعة رقم 4 في اليونسكو. كنتُ أسأله بلهْفةٍ عن آخر الأخبار والأحداث، ويردّ عليّ بلهفةٍ أكبرْ: «كيف خلّوك تخْرج؟».
قبل ذلك التّاريخ بشهرٍ ونصف، أيْ في الفترة التّي كنت فيها موقوفا في وزارة الدّاخليّة فيما بيْن 23 أفريل و08 ماي1991، اِتّصلتْ زوْجتي مليكة بالمنصف المرزوقي وكان وقْتها رئيس الرّابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان، أخبرتْهُ بإيقافي وطلبتْ منْه بإلْحاحٍ أنْ يعمل شيْئًا، وذكّرتْه بصداقتنا القديمة.. فردّ عليْها أنّ أمثالي همْ بالآلاف.. وهو صحيح! طبْعًا لمْ يعملْ شيئًا.
لكن الذّي عملته مليكة –عشيرة العمر- تلك الأيّام وفي السّنوات التّالية، لا يقدر عليْه كثير من الرّجال، فقدْ كتبتْ إلى كثيرٍ من المنظّمات الحقوقيّة. ومن المفارقات المضحكة أنّها كتبتْ إلى الرّابطة الفرنسيّة لحقوق الإنسان، فردّ عليْها المسؤول عن الشؤون الدّولية (روبرت فردييRobert Verdier ) فيها برسالة يقول فيها أنْ لا صلاحيّات لهمْ عنْ تونس ولكنّه يُحيل رسالتها على الدّكتور المنصف المرزوقي رئيس الرّابطة التّونسيّة.
ومن الصّدف الجميلة أنْ اِلتقيت بهذا المسؤول في برنامج إذاعي في إذاعة المغرب الغربيّ، بداية من خريف 1991، خاص بحقوق الإنسان في تونس. كان معنا كريم عزّوز: ممثّل اِتّحاد الطّلبة التّونسيّة.
عنْدما عدتُ إلى البيْت يوْمها ورجعتُ إلى نفسي، أدْركتُ أنّي تجاوزتُ الخطّ الأحمر، ولعلّني فتحتُ أبواب الجحيم على عائلتي، وهو ما سيحدث فعلاً بعد أسبوع من ذلك، عنْدما وصل تحرّكي إلى الولايات المتّحدة».
محمد بوغلاّب
في البداية تردّدت كثيرا في حضور النّدوة، ليقيني بأنّني إنْ حضرْتها فلنْ أتمالك نفسي من الإصداعِ بشهادتي عمّا يحدث في تونس، وفي ذلك خروج صريح عنْ تعهّداتي التّي قطعْتها على نفسي واُلتزمْتُ بها تجاه وزارة الدّاخليّة، فقدْ كان شرط الأجهزة الأمنيّة والمصالح المختصّة بالتّحديد التّي كان يرأسها «محمّد علي القنزوعي»، أنْ أسْتخْرج جواز سفري وأعود إلى عملي في الأمم المتّحدة، شريطة أنْ أمسك عن كلّ نشاط وعمل وشهادة ضدّ النّظام، بلْ أكثر منْ ذلك، أنْ أخبرهم بكلّ ما يبلغني من حراكٍ مناوئ للسّلطة.
ولكيْ يطمئنّوا إلى وفائي باَلْتزاماتي، وضعوا زوْجتي وأطفالي الخمْسة بما فيهمْ اِبْني الطّاهر، ذي الأربع سنوات، على لائحة الممنوعين من السّفر.
والحقيقة أنّني تجاوزتُ المحظور بعد أقلّ من أسبوع من بدْء منفاي يوم 18 ماي1991، حيْثُ أنّي كتبْتُ شهادة في ثلاث صفحاتٍ وبعثْتُ بها إلى بعض المنظّمات الحقوقيّة وبعض معارفي، وهو الأمر الذي أراحني نفسيّا وأخْرجني من سجْني الدّاخلي.
في النّهاية، تغلّبتُ على تردّدي وتجاوزت حساباتي الخاصّة وذهبْتُ الى النّدوة وأنا عازم على ملازمة الصّمتَ، ولعلّ ما شجّعني على ذلك، حضور المنصف المرزوقي فيها.. فقدْ تصوّرتُ أنّه سياْتينا بالجديد من أخبار البلد.
بدأتْ النّدوة ككلّ النّدوات بكلمات التّرْحيب والتّعْريف بالمنظّمة، ثمّ اِنتقلْنا إلى المداخلات.
وضع حقوق الإنسان في عالم عربيّ، إجْماع على أنّها غائبة تمامًا، أو هي في أسوإ الأحوال.. أمّا عن النّظام الدّولي الجديد، فحدّث ولا حرج خاصّة بعد اِنْهيار الاِتّحاد السّوفياتي وبعد الحرب على العراق واَنفراد أمريكا بالعالم.
اِكتشفْتُ يوْمها، «حمّادي الصيد» وكان ممثّل الجامعة العربيّة في باريس، وكان بالخصوص مثقّفًا مميّزا، يُتْقن اللغات وفنون الحوار والجدل إذا لزم.. وقدْ برْهن على ذلك طول السّنوات التّالية، وحتّى وفاته، كان على الدّوام هو المتألّق والمتميز في كلّ الحوارات التّلفزيّة المتعلّقة بالشؤون العربيّة والإسلاميّة.
المنصف المرزوقي الذّي اِنتظرْنا كلمته، لمْ يتكلّم، وشعرت بضرورة التّدخّل، حتّى لا تبْقى قضيّة اِنتهاكات حقوق الإنسان قضيّة نظريّة يتداولها المثقّفون والنّاشطون الحقوقيّون والسّياسيّون في المناسبات وفي المنابر والنّدوات الاِسْتعراضيّة.
كان هناك في القاعة بعض الوجوه النّهضويّة، لكن لا أحد منهمْ تكلّمَ. تصوّرت أنّ الأمر راجع إلى معْرفتهم المحدودة باللّغة الفرنسيّة، ولكنّ صمْتهمْ في النّدوات اِستمرّ حتّى بعد حصول بعضهم على الدّكتوراه.
الصّمت عندهم ظلّ هو القاعدة، مادام هناك منْ يدافع عنْهم بلا حسابٍ ولا أجرٍ..
اِنْتحيْتُ مكانًا قصيّا في آخر القاعة وطلبْتُ الكلمة، وتحدّثتُ طويلا وبإسهابٍ عمّا يحدث في تونس: عن الإيقافات بالجملة وبالآلافِ، عن المحاكمات، وبالخصوص عن التّعذيب وعن عشرات الموْتى تحت التّعذيب، وتحدّثتُ عنْ تجْربتي الخاصّة..
اِستمع إليّ الجميع، وفي آخر حديثي، ردّ عليّ حمّادي الصّيد بأنّه سمع وسجّل وسوف يبلّغ.
اِغتنمت فترة الرّاحة، وخروج «المنصف المرزوقي» من القاعة فاَلْتحقْت به: سي المنصف، تعـال نتحدّث قليلا. فقال لي: إنّهم ينظرون إليْنا.
كان مرعوبًا، لا أدْري إنْ كان ذلك منْ اِكْتشافي حيّا، وهو الذّي حسب أنْ اِبْتلعني الحوتُ أو غرقت في جبّ وزارة الداخلية وأمن الدولة.
وصحيح أنّه كان في القاعة أعوان للنّظام، لمْ أكنْ أعْرفهمْ وقْتها، لكنّي تعوّدت عليْهم فيما بعد. مشى المنصف ومشيتُ وراءه، وجرّني إلى إحدى بيوت الماء المقابلة للقاعة رقم 4 في اليونسكو. كنتُ أسأله بلهْفةٍ عن آخر الأخبار والأحداث، ويردّ عليّ بلهفةٍ أكبرْ: «كيف خلّوك تخْرج؟».
قبل ذلك التّاريخ بشهرٍ ونصف، أيْ في الفترة التّي كنت فيها موقوفا في وزارة الدّاخليّة فيما بيْن 23 أفريل و08 ماي1991، اِتّصلتْ زوْجتي مليكة بالمنصف المرزوقي وكان وقْتها رئيس الرّابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان، أخبرتْهُ بإيقافي وطلبتْ منْه بإلْحاحٍ أنْ يعمل شيْئًا، وذكّرتْه بصداقتنا القديمة.. فردّ عليْها أنّ أمثالي همْ بالآلاف.. وهو صحيح! طبْعًا لمْ يعملْ شيئًا.
لكن الذّي عملته مليكة –عشيرة العمر- تلك الأيّام وفي السّنوات التّالية، لا يقدر عليْه كثير من الرّجال، فقدْ كتبتْ إلى كثيرٍ من المنظّمات الحقوقيّة. ومن المفارقات المضحكة أنّها كتبتْ إلى الرّابطة الفرنسيّة لحقوق الإنسان، فردّ عليْها المسؤول عن الشؤون الدّولية (روبرت فردييRobert Verdier ) فيها برسالة يقول فيها أنْ لا صلاحيّات لهمْ عنْ تونس ولكنّه يُحيل رسالتها على الدّكتور المنصف المرزوقي رئيس الرّابطة التّونسيّة.
ومن الصّدف الجميلة أنْ اِلتقيت بهذا المسؤول في برنامج إذاعي في إذاعة المغرب الغربيّ، بداية من خريف 1991، خاص بحقوق الإنسان في تونس. كان معنا كريم عزّوز: ممثّل اِتّحاد الطّلبة التّونسيّة.
عنْدما عدتُ إلى البيْت يوْمها ورجعتُ إلى نفسي، أدْركتُ أنّي تجاوزتُ الخطّ الأحمر، ولعلّني فتحتُ أبواب الجحيم على عائلتي، وهو ما سيحدث فعلاً بعد أسبوع من ذلك، عنْدما وصل تحرّكي إلى الولايات المتّحدة».
محمد بوغلاّب
ATTOUNISSIA
No comments:
Post a Comment