سنة على اكتشاف "المؤامراة"
(الحلقة 1)
تونس : خطا استراتيجي ارتكبته حركة النهضة
تونس: صلاح الدين ألجرشي
1992مجلة "المجلة" من 13 إلى 19 ماي
مع حلول الثاني والعشرين من مايو (ايار) الجاري تكون قد مرت سنة على اعلان وزير الدولة ووزير الداخلية التونسي عن اكتشاف مصالح الامن " مؤامرة دبرتها حركة النهضة من اجل الانقضاض على الحكم " ، وكان قد جاء فى ندوته الصحفية أن الحركة وضعت لذلك خطة من خمس مراحل ، وانها بدات تتهيا للمرحلة الأخيرة التي ستقوم فيها العناصر العسكرية بالدور الحاسم .
ويتهيأ الرأي العام التونسي حاليا لمحاكمة ذات طابع سياسي ينتظر فيها منذ نوفمبر (تشرين الثاني)1987 تاريخ استلام الرئيس زين العابدين بن علي مقاليد الحكم( وتفيد بعض المصادر الطلعة أن المحاكمة ستشمل 200 متهم بينهم عدد من العسكريين من مختلف الرتب والسؤال الذي طالما طرحه المراقبون ، وتبادله المهتمون بشؤون تونس بصفة عامة، وشؤون الحركة الإسلامية بصفة خاصة، يتمحور حول الأسباب الحقيقة التي أدت إلى "تبخر "حركة النهضة ميدانيا بسرعة غير متوقعة. وقد ظن الجميع ، بمن في ذلك رجال السلطة ، أن اقتلاع هياكل الحركة سيكون أكثر صعوبة ، وسيتطلب مدة زمنية أطول ، وسيكون له انعكاسات سياسية مباشرة كما حصل عام 1987اثناء المواجهة مع الرئيس السابق الحبيب بورقيبة .
في هذه الحلقة الأولى من هذا الملف سنحاول رصد تطور العلاقة بين حركة النهضة والسلطة منذ الأيام الأولى للنظام الجديد ، و إبراز الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته الحركة، والذي بموجبه وجد كل من الطرفين نفسه في حالة خوف ومواجهة .
ابلغ احد الصحافيين إلى السيد الهادي البكوش ، بصفته الوزير الأول انه سينتقل إلى لندن للاتصال بقيادات حركة الاتجاه الإسلامي المقيمة خارج البلاد ، وذلك بمبادرة شخصية قصد المساهمة تطبيع العلاقة بين الحركة والسلطة ، وسال الصحافي إن كانت هناك للوزير الأول رسالة شفوية يريد تبليغها ، فكان حذرا كالعادة ، لكنه خصه يومها بمعلومات تم اطلاع الرأي العام على بعض جوانبها في ما يعد ، عن المجموعة الأمنية التابعة للاتجاه الإسلامي والتي شكلت يومها صدمة للطبقة السياسية التونسية. هذه المجموعة التي تتركب من عناصر عسكرية و أمنية و سمت نفسها :مجموعة الإنقاذ الوطني ، كانت تستعد للقيام بانقلاب ضد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، وحددت يوم الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 1987 موعدا للتنفيذ. وبدأت العد التنازلي، إلا أنها فوجئت بمبادرة السابع من نوفمبر (تشرين الثاني). ولم تمض سوى أيام قليلة حتى تمكنت مصالح الأمن- في العهد الجديد- من أن تكشف النقاب عن المجموعة و بدأت في اعتقال أبرز عناصرها.
و كانت الإشارة العامة التي وردت في الرسالة ، الشفوية للبكوش- عبر الصحافي – أن السلطة رغم قلقها من العلاقة القائمة بين الحركة و بين المجموعة ،.لا تنوي اتهام الحركة ، وستكتفي بمحاسبة العناصر المعتقلة دون الإشارة إلى هويتها السياسية أي أن الرئيس بن علي قد قرر أن يتعامل مع الحركة تعاملا سياسيا وليس أمنيا .
خلاف
وطار الصحافي إلى لندن ، ثم باريس ، وجنيف و تابع طيلة أسبوعين النقاشات الساخنة ، و الخلافات الحادة التي دارت بين الوجوه السياسية و التنظيمية لحركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حاليا ) فهناك قسم أبدي حماسا كبيرا للتعاون مع السلطة ، والرد إيجابا على مبادرات الرئيس بن علي ، مقدرا فيه شجاعته التي دفعته لإزاحة بورقيبة (الخصم التاريخي للإسلاميين ) . و في المقابل هناك جناح آخر يعرف ب "مجموعة باريس" تميز موقفه بالحذر وإثارة الشكوك و المطالبة بالعديد من الضمانات.
و كان هناك نقاش مشابه يجري داخل السجون في تونس. وكان الجميع ينتظرون موقف راشد الغنوشي الذي أكسبته محاكمة بورقيبة شرعية إضافية. و عندما عاد الصحافي من أوروبا حاملا رسالة موقعة من عبد الفتاح مورو (الوجه الثاني في الحركة). وسلمها إلى د.حمودة بن سلامة قبل توليه الوزارة.الذي رفعها إلى رئيس الدّولة. اتجهت فيها السلطة إلى البدء بإطلاق سراح الغنوشي رئيس الحركة على عكس ما جرت به العادة..ويبدو أن الدافع إلى ذلك يمكن حصره في سببين:
1- تقدير شخصي من رئيس الدولة للغنوشي ، الذي كان يطمئن إليه بالمقارنة مع بقية العناصر ولا يزال الرئيس بن علي يردد انه عندما كان وزيرا للداخلية خالف الرئيس بورقيبة في مسالتين ، الأولى عندما أمر بورقيبة بحل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والثانية عندما اعترض على قرار إعدام الغنوشي الذي كان واردا قبل ساعات قليلة من إصدار الحكم .
2- الثقل الذي يتمتع به الغنوشي داخل حركته وهو ما يجعله قادرا على تمرير أي اتفاق يتم التوصل إليه خلال المفاوضات .
مرحلة الثقة المتبادلة
وقد دعم الغنوشي الخطوة التي قام بها مورو وجاء في أول تصريح له بعد خروجه من السجن : ثقتنا في الله وفي الرئيس بن علي كبيرة ، وبعدها توالت إجراءات تسريح المساجين حتى لم يبق في المعتقلات سجين واحد .وهكذا تميزت علاقة النهضة بالنظام الجديد خلال سنتين بالثقة النسبيّة المتبادلة . وظهرت التطمينات من الجانبين حول التعاون والاستقرار وتوالت في هذا السياق – المؤشرات الايجابية إلى درجة أقلقت الأوساط المخاصمة للإسلاميين – هذه الأوساط التي أصبحت تخشي تكرار السيناريو السوداني أيام تحالف الإخوان مع الرئيس السابق جعفر النميري .
فمن جهة السلطة تم اتخاذ عدد هام من الإجراءات في سباق ما سمي رسميا عودة التصالح بين الدولة والدين أو إعادة الاعتبار إلى الهوية العربية الإسلامية. من ذلك إذاعة الأذان في وسائل الاعلام السمعية والبصرية وعودة الجامعة الزيتونية وتدعيم المجلس الإسلامي الأعلى والعودة إلى كتابة الدولة للشؤون الدينية واعتماد رؤية الهلال في ضبط دخول شهر رمضان و اعلان العيد وقد يبدو ذلك أمرا عاديا في أي دولة إسلامية . إلا انه بالمقارنة مع نمط تفكير بورقيبة وأسلوب تعامله مع المسائل ذات الطابع الديني تُعتتبر هذه القرارات تحولا هاما في تاريخ النظام التونسي يضاف إلى ذلك اشتراك الحركة في وضع و صياغة الميثاق الوطني و تكليف أحد مستشاري رئيس الدولة بملف التعامل معها.
أما في ما يتعلق بمنح التأشيرة و الاعتراف القانوني بحزب النهضة فقد تردد النظام كثيرا أمام هذا الإجراء فرئيس الدولة أكد لأكثر من شخصية وطنية أنه لا يزال يبحث الموضوع و أنه لن يمانع إذا توفرت الشروط.
و خوفا من الطابع الديني للحركة ، صدر بشكل مواز قانونان . قانون المساجد الذي يعزز إشراف الإدارة على الفضاءات المسجدية و قانون الأحزاب الذي يمنع الاعتراف بأحزاب تقوم على أساس ديني .
أما من جهة الحركة فقد تواصلت النقاشات الداخلية من أجل تعميم الموقف الجديد من السلطة و التكيف مع مقتضيات المرحلة . بما في ذلك الاستجابة لشروط السلطة على الأقل في ما يتعلق بالجوانب الشكلية كالتسمية وفصل ملف المجموعة الأمنية عن ملف الحركة واتخاذ مواقف ايجابية كالتنديد بالعنف وعدم التعامل مع الخارج وتزكية مجلة الأحوال الشخصية التي تُتهم الحركة بالعمل على تعديل بعض بنودها، وبإيجاز الأخذ بكل مقتضيات خيار الطمأنة الذي اعتمدته القيادة في مطلع علاقتها بالنظام الجديد .
الانتخابات وانقلاب المواقف
استمر الأمر على هذا الحال . رغم ان الملفات الشخصية لم تتم تسويتها وحصول تباينات بين الحركة والمكلفين رسميا بإدارة الحوار معها إلى أن انطلقت الاستعدادات للانتخابات التشريعية التي نظمت في 2 افريل (نيسان )1989 .
و حتى تضمن السلطة مشاركة نسبية للمعارضة في البرلمان وتحمي استمرار المؤسسات الدستورية دون حصول تغيير مفاجئ في موازين القوى السياسية قدمت مقترحين إلى الأحزاب دعت في المقترح الأول إلى أجزاء انتخابات جزئية موسعة ، تكون بمثابة العينة التي في ضوئها يمكن إدخال تعديلات على المجلة الانتخابية وعندما رفضت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين المقترح وطالبت بانتخابات عامة وشاملة ، اقترحت السلطة تشكيل جبهة انتخابية تضم جميع الأطراف الموقعة على الميثاق الوطني .
ورغم الجدل الذي شق هياكل حركة النهضة إلا أن النية اتجهت في الأخير نحو قبول الصيغة والمشاركة ضمن الجبهة وعندما اجتمعت الأطراف بحضور الوزير الأول فوجئ ممثل النهضة بموقف احمد المستيري الذي رفض صيغة الجبهة وفضل مشاركة حركته في
ويتهيأ الرأي العام التونسي حاليا لمحاكمة ذات طابع سياسي ينتظر فيها منذ نوفمبر (تشرين الثاني)1987 تاريخ استلام الرئيس زين العابدين بن علي مقاليد الحكم( وتفيد بعض المصادر الطلعة أن المحاكمة ستشمل 200 متهم بينهم عدد من العسكريين من مختلف الرتب والسؤال الذي طالما طرحه المراقبون ، وتبادله المهتمون بشؤون تونس بصفة عامة، وشؤون الحركة الإسلامية بصفة خاصة، يتمحور حول الأسباب الحقيقة التي أدت إلى "تبخر "حركة النهضة ميدانيا بسرعة غير متوقعة. وقد ظن الجميع ، بمن في ذلك رجال السلطة ، أن اقتلاع هياكل الحركة سيكون أكثر صعوبة ، وسيتطلب مدة زمنية أطول ، وسيكون له انعكاسات سياسية مباشرة كما حصل عام 1987اثناء المواجهة مع الرئيس السابق الحبيب بورقيبة .
في هذه الحلقة الأولى من هذا الملف سنحاول رصد تطور العلاقة بين حركة النهضة والسلطة منذ الأيام الأولى للنظام الجديد ، و إبراز الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته الحركة، والذي بموجبه وجد كل من الطرفين نفسه في حالة خوف ومواجهة .
ابلغ احد الصحافيين إلى السيد الهادي البكوش ، بصفته الوزير الأول انه سينتقل إلى لندن للاتصال بقيادات حركة الاتجاه الإسلامي المقيمة خارج البلاد ، وذلك بمبادرة شخصية قصد المساهمة تطبيع العلاقة بين الحركة والسلطة ، وسال الصحافي إن كانت هناك للوزير الأول رسالة شفوية يريد تبليغها ، فكان حذرا كالعادة ، لكنه خصه يومها بمعلومات تم اطلاع الرأي العام على بعض جوانبها في ما يعد ، عن المجموعة الأمنية التابعة للاتجاه الإسلامي والتي شكلت يومها صدمة للطبقة السياسية التونسية. هذه المجموعة التي تتركب من عناصر عسكرية و أمنية و سمت نفسها :مجموعة الإنقاذ الوطني ، كانت تستعد للقيام بانقلاب ضد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، وحددت يوم الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 1987 موعدا للتنفيذ. وبدأت العد التنازلي، إلا أنها فوجئت بمبادرة السابع من نوفمبر (تشرين الثاني). ولم تمض سوى أيام قليلة حتى تمكنت مصالح الأمن- في العهد الجديد- من أن تكشف النقاب عن المجموعة و بدأت في اعتقال أبرز عناصرها.
و كانت الإشارة العامة التي وردت في الرسالة ، الشفوية للبكوش- عبر الصحافي – أن السلطة رغم قلقها من العلاقة القائمة بين الحركة و بين المجموعة ،.لا تنوي اتهام الحركة ، وستكتفي بمحاسبة العناصر المعتقلة دون الإشارة إلى هويتها السياسية أي أن الرئيس بن علي قد قرر أن يتعامل مع الحركة تعاملا سياسيا وليس أمنيا .
خلاف
وطار الصحافي إلى لندن ، ثم باريس ، وجنيف و تابع طيلة أسبوعين النقاشات الساخنة ، و الخلافات الحادة التي دارت بين الوجوه السياسية و التنظيمية لحركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حاليا ) فهناك قسم أبدي حماسا كبيرا للتعاون مع السلطة ، والرد إيجابا على مبادرات الرئيس بن علي ، مقدرا فيه شجاعته التي دفعته لإزاحة بورقيبة (الخصم التاريخي للإسلاميين ) . و في المقابل هناك جناح آخر يعرف ب "مجموعة باريس" تميز موقفه بالحذر وإثارة الشكوك و المطالبة بالعديد من الضمانات.
و كان هناك نقاش مشابه يجري داخل السجون في تونس. وكان الجميع ينتظرون موقف راشد الغنوشي الذي أكسبته محاكمة بورقيبة شرعية إضافية. و عندما عاد الصحافي من أوروبا حاملا رسالة موقعة من عبد الفتاح مورو (الوجه الثاني في الحركة). وسلمها إلى د.حمودة بن سلامة قبل توليه الوزارة.الذي رفعها إلى رئيس الدّولة. اتجهت فيها السلطة إلى البدء بإطلاق سراح الغنوشي رئيس الحركة على عكس ما جرت به العادة..ويبدو أن الدافع إلى ذلك يمكن حصره في سببين:
1- تقدير شخصي من رئيس الدولة للغنوشي ، الذي كان يطمئن إليه بالمقارنة مع بقية العناصر ولا يزال الرئيس بن علي يردد انه عندما كان وزيرا للداخلية خالف الرئيس بورقيبة في مسالتين ، الأولى عندما أمر بورقيبة بحل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والثانية عندما اعترض على قرار إعدام الغنوشي الذي كان واردا قبل ساعات قليلة من إصدار الحكم .
2- الثقل الذي يتمتع به الغنوشي داخل حركته وهو ما يجعله قادرا على تمرير أي اتفاق يتم التوصل إليه خلال المفاوضات .
مرحلة الثقة المتبادلة
وقد دعم الغنوشي الخطوة التي قام بها مورو وجاء في أول تصريح له بعد خروجه من السجن : ثقتنا في الله وفي الرئيس بن علي كبيرة ، وبعدها توالت إجراءات تسريح المساجين حتى لم يبق في المعتقلات سجين واحد .وهكذا تميزت علاقة النهضة بالنظام الجديد خلال سنتين بالثقة النسبيّة المتبادلة . وظهرت التطمينات من الجانبين حول التعاون والاستقرار وتوالت في هذا السياق – المؤشرات الايجابية إلى درجة أقلقت الأوساط المخاصمة للإسلاميين – هذه الأوساط التي أصبحت تخشي تكرار السيناريو السوداني أيام تحالف الإخوان مع الرئيس السابق جعفر النميري .
فمن جهة السلطة تم اتخاذ عدد هام من الإجراءات في سباق ما سمي رسميا عودة التصالح بين الدولة والدين أو إعادة الاعتبار إلى الهوية العربية الإسلامية. من ذلك إذاعة الأذان في وسائل الاعلام السمعية والبصرية وعودة الجامعة الزيتونية وتدعيم المجلس الإسلامي الأعلى والعودة إلى كتابة الدولة للشؤون الدينية واعتماد رؤية الهلال في ضبط دخول شهر رمضان و اعلان العيد وقد يبدو ذلك أمرا عاديا في أي دولة إسلامية . إلا انه بالمقارنة مع نمط تفكير بورقيبة وأسلوب تعامله مع المسائل ذات الطابع الديني تُعتتبر هذه القرارات تحولا هاما في تاريخ النظام التونسي يضاف إلى ذلك اشتراك الحركة في وضع و صياغة الميثاق الوطني و تكليف أحد مستشاري رئيس الدولة بملف التعامل معها.
أما في ما يتعلق بمنح التأشيرة و الاعتراف القانوني بحزب النهضة فقد تردد النظام كثيرا أمام هذا الإجراء فرئيس الدولة أكد لأكثر من شخصية وطنية أنه لا يزال يبحث الموضوع و أنه لن يمانع إذا توفرت الشروط.
و خوفا من الطابع الديني للحركة ، صدر بشكل مواز قانونان . قانون المساجد الذي يعزز إشراف الإدارة على الفضاءات المسجدية و قانون الأحزاب الذي يمنع الاعتراف بأحزاب تقوم على أساس ديني .
أما من جهة الحركة فقد تواصلت النقاشات الداخلية من أجل تعميم الموقف الجديد من السلطة و التكيف مع مقتضيات المرحلة . بما في ذلك الاستجابة لشروط السلطة على الأقل في ما يتعلق بالجوانب الشكلية كالتسمية وفصل ملف المجموعة الأمنية عن ملف الحركة واتخاذ مواقف ايجابية كالتنديد بالعنف وعدم التعامل مع الخارج وتزكية مجلة الأحوال الشخصية التي تُتهم الحركة بالعمل على تعديل بعض بنودها، وبإيجاز الأخذ بكل مقتضيات خيار الطمأنة الذي اعتمدته القيادة في مطلع علاقتها بالنظام الجديد .
الانتخابات وانقلاب المواقف
استمر الأمر على هذا الحال . رغم ان الملفات الشخصية لم تتم تسويتها وحصول تباينات بين الحركة والمكلفين رسميا بإدارة الحوار معها إلى أن انطلقت الاستعدادات للانتخابات التشريعية التي نظمت في 2 افريل (نيسان )1989 .
و حتى تضمن السلطة مشاركة نسبية للمعارضة في البرلمان وتحمي استمرار المؤسسات الدستورية دون حصول تغيير مفاجئ في موازين القوى السياسية قدمت مقترحين إلى الأحزاب دعت في المقترح الأول إلى أجزاء انتخابات جزئية موسعة ، تكون بمثابة العينة التي في ضوئها يمكن إدخال تعديلات على المجلة الانتخابية وعندما رفضت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين المقترح وطالبت بانتخابات عامة وشاملة ، اقترحت السلطة تشكيل جبهة انتخابية تضم جميع الأطراف الموقعة على الميثاق الوطني .
ورغم الجدل الذي شق هياكل حركة النهضة إلا أن النية اتجهت في الأخير نحو قبول الصيغة والمشاركة ضمن الجبهة وعندما اجتمعت الأطراف بحضور الوزير الأول فوجئ ممثل النهضة بموقف احمد المستيري الذي رفض صيغة الجبهة وفضل مشاركة حركته في
الانتخابات بطريقة منفردة وهكذا انفرط الاتفاق وبدا واضحا أن الوضع السياسي يتجه نحو أزمة حادة
وهنا حصل تغيير مفاجئ وكبير في سياسة النهضة . فبعد أن قبلت مبدأ عدم المشاركة في الانتخابات وربما لم تعترض على دعم قوائم التجمع الدستوري الديمقراطي مقابل الاعتراف بها قررت فجأة المشاركة عبر قوائم مستقلة". ثم قفزت من مجرد المشاركة الرمزية في بعض الدوائر إلى تقديم قوائم انتخابية في جميع الدوائر لتكون المنافس الوحيد للحزب الحاكم على المستويين المحلي والوطني وبدل الحضور الشكلي في مختلف هذه الدوائر اندفعت القواعد لتقوم بتعبئه قصوى وتجنيد الآلاف من الأتباع والأنصار إلى درجة أقلقت الجهات الرسمية التي وجدت نفسها مدفوعة هي أيضا إلى تسخير كل الطاقات والإمكانات من اجل مواجهة هذا الانقلاب المفاجئ في سياسة الحركة .
وبدل أن تلتزم القوائم بخطاب انتخابي وسياسي مطمئن ومعتدل. تورط معظمها في التلويح بشعارات تتناقض جوهريا مع ما صرحت به قيادات النهضة والتزمت به الحركة وهي توقع على الميثاق الوطني خاصة لجهة المساواة وحقوق الإنسان وهو ما دفع الطبقة السياسية إلى التعبير عن مخاوفها ومعارضتها للمشروع المجتمعي لحركة النهضة واتهامها من جديد بازدواجية الخطاب، ثمّ جرت الانتخابات وتجند " النهضويون " لمراقبة عمليات فرز الأصوات وبالرغم من أن النتائج الرسمية اعتبرتهم القوة السياسية الثانية في البلاد وأقرت حصولهم على 18 % من مجموعة الأصوات إلا إن اعنف بيان ضد السلطة بعد الإعلان عن النتائج كان بيان النهضة
وبذلك حصلت القطيعة وتجمعت أسباب المواجهة والتصعيد
على أن كل تحليل لما آلت إليه العلاقة بين السلطة والنهضة لا يستقيم إلا إذا انطلق من الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه قيادة النهضة . عندما استهوتها التجربة الانتخابية فاندفعت بطريقة أخافت السلطة وأفزعت النخبة السياسية وانتقلت - طفرة واحدة – من طرف سياسي يبحث عن تأشيرة الاعتراف القانوني واحتلال بضعة مقاعد في البرلمان إلى لعب دور القوة الضاغطة والمحورية التي لا تكتفي بتزعم المعارضة ، إنما ترى في نفسها الكفاءة والمشروعية للقول أنها صاحبة الأغلبية في مجلس النواب بل صاحبة الفضل في التغيير الذي حصل يوم السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) ،
على أن لعبة الانتخابات سيف ذو حدين والحركة التي لا تحسن التعامل معها سرعان ما تنسى ذاتها وتغفل طبيعة المرحلة وهشاشة الإطار، وتصاب قواعدها بالجنوح وحرق المراحل ويبدو لها الحكم وكأنه ثمرة حان قطافها . ومنذ ذلك التاريخ انقلبت المعادلات وأصبحت السفينة لها ربانان وتدهورت العلاقة بسرعة من الثقة الحذرة إلى التوجس فالشعور بالخطر، فاندلاع معركة مفتوحة من اجل الشرعية.
وبعد اقل من ثلاثة سنوات كررت جبهة الإنقاذ في الجزائر الخطأ ذاته وان كان بأسلوب موسع وفي سياق سياسي مختلف والنتيجة واحدة: إشاعة الخوف من مضاعفات التحولات المفاجئة في موازين القوى وإشعار الآخرين بان السفينة لا بد لها من ربان واحد .
تونس: صلاح الدين ألجرشي .
(الحلقة الثانية والأخيرة في العدد المقبل )
سنة على اكتشاف " المؤامراة"(الحلقة الاخيرة)
غاب الغنوشي فتضخمت أوهامه واضطربت حساباته
No comments:
Post a Comment