Search This Blog

Wednesday, August 26, 2009



صور ناصعة وشواهد مؤثرة لعراقيين وعراقيات سطروا ملاحماً في المقاومة والاستبسال والتضحية

2009-08-25
بقلم: حسين المعاضيدي





عرفته شرطياً بسيطاً قبل فترة الاحتلال، كان ضعيف الحال، يذهب للعمل ما ان ينزع بزته الرسمية، فيعود في وقت متأخر من الليل منهكاً من تعب عملين في يوم واحد، أحدهما اشد إرهاقاً له من الثاني..
تزوج بعد ان استدان حتى مهر خطيبته من الميسورين، ولم يتمكن من إكمال رد الدين وإيفائه إلا بعد إنجابه ولده الثالث.. عاش في غرفة واحدة هي كل داره مع عائلته المكونة من ثلاثة أطفال وزوجة حتى جاء الاحتلال، لتجيء معه اللعنات، والفقر بكل إشكاله، والخوف على مصراعيه، والذل بلا تحفظ، والمهانة من أوسع أبوابها، أما حاله فكان في حاجة لا توصف، وفاقة لم ترفع.

عاد كثير من زملائه والتحقوا بسلك الشرطة الحكومية، وأصبحوا كحال غيرهم، أحد أهم أدوات المحتل، مقابل ملايين باذخة، وكرامة مهدورة، تلك الكرامة التي هي كل ما يمتلكها (أبو أدهم) والتي أذهبها المحتل على مرأى ومسمع من العالم أجمع، فـ(أبو أدهم) ورغم عوزه وفاقته رفض وضع يده بيد المحتل، وأصر على ان يبقى بعيداً عن الشبهات، ويبقى محافظاً على موقفه رغم جوعه.
عمل بائعاً في أحد المحال التجارية بأجر زهيد، بعدها بائعاً في بسطية على رصيف أحد الطرقات، ثم أتجه إلى الوديان ليستخرج الحجر والصخور ويبيعها لمن يحتاجها، قبل أن يحمل فأسه ويتجه إلى جمع الحطب وبيعه حتى يؤمن قوت عياله.. وثبت!

أصبح عمر ولده الأكبر (أدهم) عشر سنوات، فأرسله إلى أحد معارفه في سوق حديثة ليعمل حمالاً، يوصل الحاجات والأشياء البسيطة إلى الزبائن القريبين من المحل، وقبل أيام قتل الطفل الصغير (أدهم) بعد انفجار سيارة مفخخة وسط سوق حديثة، تبين ان الشرطة هم من واضعيها وسط السوق، لتنفجر على الآمنين، باعتراف السلطات الحكومية نفسها، فأصابت شظية من السيارة المنفجرة رقبة الطفل (أدهم) النحيلة، فعزلت رأسه عن جسده الغض الطري، ليعيش الأب مأساة أخرى، ويتحمل عبئاً مضافاً، عبء أقدامه على إرسال ابنه إلى العمل، رغم صغر سنه، وملامة الناس له..

رفض الأب إقامة مأتم كما هو معتاد في تلك المناطق، فضيق ذات اليد لا تعينه، فدفن فلذة كبده بيديه وجلس في البيت ذلك اليوم، صابراً، مؤمناً، راضياً بقضاء الله وقدره، وفي اليوم التالي خرج (أبو أدهم) حاملاً فأسه، باحثاً عن حقل حطب جديد، ليحتطب منه، ويبيع ما يعينه على ثباته!
وليس بأقل من صبر وثبات (أبو أدهم) صبر وثبات (أبو محمد)، الذي كان يحمل رتبة عقيد في الجيش العراقي السابق..
فقد جلس (أبو محمد) في بيته بمدينة القائم يداعب أطفاله، ويتأمل وجه أمه الباسم، وإلى جانبيه زوجته وشقيقته الوحيدة، ولم يشعر إلا بانفجار يهز سكون المكان، وإذا بالبيت بلا سقف، وبلا جدران، لاشيء سوى الأشلاء والدماء، بعد استهداف الدار بصواريخ الطائرات الأميركية المحتلة، التي راحت تداهم الدور الآمنة كما يداهم جنودهم وأقزامهم من الأذناب ودروعهم البشرية المحلية الدور والبيوت.

قُصف دار (أبو محمد) إذن، وأصبح الجميع تحت أطنان الطابوق والحجر والطين، إلا هو، الذي نجّاه الله بمعجزة إلهية، رغم إصاباته البليغة.. وقف (أبو محمد) ليستوضح الأمر، فلم يستطع، فحينما نهض من تحت الركام كانت إحدى عينيه قد فقئت بشظية صاروخ، والأخرى غارقة بالدماء، حاول مسح الدماء عن عينه، فأبصر جسد أمه ممزقاً أمامه، وألتفت عن يمينه فإذا بجسد فلذة كبديه، أبنائه الاثنين، وألتفت إلى شماله ليجد بقايا جسد لزوجته وأم أطفاله، وبجانبها أخت له في ريعان شبابها، قبل أن يرفع رأسه إلى الأعلى من داخل داره حيث لا سقف يمنع عنه إبصار السماء حينما أراد ان يدعو الله ليمنحه القوة لتحمل المنظر، منظر أشلاء الأم، والأبناء، والأخت، والزوجة.

جلس بعدها (أبو محمد) بجانب البيت وحيداً، بعد أن أصبح بلا عائلة، بلا أم، وبلا زوجة، وبلا أطفال، وبلا أخت، رافضاً علاج عينه، حتى يتم دفن عائلته.
لم يتبق لـ(أبو محمد) سوى أخويين أثنين كانا يصغرانه ويقطنون دار أخرى، فعاش معهم وسط آلامه وآلامهم.
مر عام وانقضى، وجاء الثاني والثالث على أبو محمد، وهو يئن في داخله، دون ان يظهر ذلك للعلن، وظل يكتم في نفسه حتى وصل الأمر مبلغه، حينما شعر انه على باب الالتحاق بأفراد عائلته، بعد ان تركت عملية القصف وما تلاها آثاراً عليه، حتى فارق الحياة قبل أيام قليلة، طالباً من أخويه أن يدفناه وسط عائلته، بين أمه وأبنائه، وبجانب زوجته وأخته..

مات (أبو محمد) لينضم إلى قائمة ضحايا الاحتلال، مات وفاضت روحه، وترك خلفه بيتاً مهدماً، وأخوين في قلبهما غصة على أخوهم الأكبر، الذي كان بمنزلة والدهم، بعد وفاة أبيهم منذ فترة ما قبل الاحتلال.
أيمان عبدالرحمن طفلة عراقية في العاشرة من عمرها، لا تزال صرخاتها تهز جنبات مدينة حديثة غرب العراق، بعدما أصبحت هذه الطفلة عنواناً ومثالاً للعراق الجديد بعد مقتل كافة أفراد عائلتها في أشهر وأبشع مجازر التاريخ دموية، يوم أقدمت القوات المحتلة على إعدام أهلها من بين عشرات آخرين بدم بارد، في الوقت الذي تمكنت هي من التخفي تحت سريرها، ذلك السرير الذي كان يجمعها ببقية إخوتها الصغار، الذين بقوا نائمين فوق السرير، فطالتهم يد الحقد الأسود، فأعدمتهم، رغم صغر سنهم، وبوحشية قل نظيرها في التاريخ، رغم ان عمر احدهم كان لا يتجاوز العام، والثاني لم يتجاوز بعد الثلاثة أعوام!

أيمان رغم المأساة ظلت صلدة قوية، ورغم طفولتها تحملت مأساة فقدانها لكل أفراد عائلتها، وحينما تأخذ في رواية ما جرى للآخرين ترى الدموع تنهار من المستمعين لها، فيما تتحدث هي بأيمان، كاسمها، وبثقة يندر وجودها، وبقوة وعزيمة لا مثيل لها، رغم صغر سنها، وهكذا هم العراقيون، حتى الأطفال منهم شيمتهم الصبر، وعلامتهم الفارقة الثبات، رغم الجراح وعظمة المأساة.
أيمان تعيش اليوم مع خال لها، هو كل من تبقى لديها من عائلتها، التي ذهبت ضحية احتلال غاشم، همجي، وتواطؤ من أقزام المحتل وأذنابه، لكنك، وحين تنظر إليها، تجدها مفعمة بالحياة، تتباهى أمام زميلاتها في المدرسة بأنها صاحبة العدد الأكبر من الشهداء من بين أقرانها، ولها الحق في التباهي، ولها العجب في الثبات على فقدانها أهلها وكل ذويها.

صلاح، عراقي آخر في الثلاثينات من العمر، هو المعيل الوحيد لأسرته، عرف عنه سيرته الحسنة وخلقه المهذب، وحديثه الحسن, وهدوءه الغريب، وهو صاحب العلاقات الطيبة مع جميع من يعرفه.
عرف صلاح برجاحة العقل، وصدق الوفاء، وكرم النفس، والفطنة، وحب الدراسة والتعليم.. فهو قد أكمل دراسته الثانوية في إحدى المدارس الموجودة داخل منطقته، ثم ألتحق بجامعة بغداد، وتحديداً كلية الآداب، دارساً بقسم الاجتماع، وبعد أن تخرج منها عُين مدرساً في إحدى المدارس الابتدائية في منطقته، وتشهد له الهيئة التدريسية بأنه كان بارعا في تدريسه، حيث كان لا يضيع دقيقة من درسه، وعندما يسمع جرس الدرس يسارع إلى الصف قبل كل المعلمين، مردداً لهم مقولته، ولازمته: (قوموا أيها المعلمون حللوا خبزتكم).

بدأ عمله في صفوف المجاهدين قناصاً، واستدعت الحاجة أن يدخل ضمن مفرزة اشتباكات، وكان يسره كثيرا النيل من الأعداء، ومع ذلك فقد كان دائم الشعور بالتقصير، كونه يريد ان يقدم أكثر وأكثر لهذا البلد، ولهذا الدين، وكان شديد الحرص على ان يبقى جهاده سراً، فكان أقرب الناس إليه لا يعرف بأنه مجاهد في سبيل الله.
خرج في يوم من الأيام مع إخوته في الجهاد لنصب كمين للقوات الأمريكية، وأثناء مرابطتهم لانتظار الرتل الأمريكي تعرض إلى لدغة أفعى في قدمه، حينما كان يرابط في منطقة أحراش، فتم إخلاؤه ولم يتم تنفيذ الهجوم، فشعر بالذنب لتسببه في تأجيل غزوة في سبيل الله!

كانت له وصية أوصى بها قبل استشهاده وهي الاهتمام بزوجته وبأطفاله من بعده، وكان يردد في آخر غزوة شارك فيها ضد جنود المحتل:(سوف أذهب.. سوف أذهب)، قاصداً لقاء ربه ونيل الشهادة، التي كثيراً ما كان يدعو، ويلح على الله، سبحانه وتعالى، في طلبها ونيلها، حتى نالها في تلك الليلة مع إخوته الجهاديين في عملية بطولية، حينما هاجموا رتلاً لقوات الاحتلال الأميركي مر على مقربة من منطقته.

(أم ذياب) عجوز طاعنة في السن، كان لها ولد واحد لا غير، هو ثمرة فؤادها، وهو كل ما تملكه في هذه الدنيا، تربى على يديها، وأرضعته لبن الطهر والعفة والشرف، مثلما ألبسه الأب رداء البطولة والشجاعة والفروسية..
كانت الأم لا ترى أبنها إلا نادراً، فهو قد نذر نفسه لله سبحانه وتعالى، وحينما هجرها طيلة سنوات الاحتلال الماضية، ظلت صابرة على فراق وحيدها الذي لم تنجب غيره، حتى أعادوه إليها جثة هامدة، والرصاص نال كل شبر من جسده.
وقفت (أم ذياب) فوق ولدها الوحيد الممد أمامها، وبجانبها زوجته وأطفاله، الذين هجرهم بحثاً عن تحريرهم من محتل قاس لا يوصف، وثأراً من قاتلي أبناء شعبه، وقفت فوقه بعد ان خاصمت عينيها الدموع، رافضة ان تتقاطر تلك الدمعات على فلذة كبدها، ممانعة قول (عد يا بني ألا رحمت فؤاديا)، وإنما قالت سلامي على إخوانك، ممن شاركوك حياتهم ومماتهم، وأشفع لي عند من اصطفاك على غيرك، وسأتكفل بأولادك ما بقيت حية، فيما كانت تواسي الأب، وتصبره على فقدانه لأعز ما يملك، أبنه الوحيد.
أولئك أهلي وناسي وأبناء جلدتي، فأتني بصبر كصبرهم، وثبات كثباتهم، إن جمعتنا يا دعي المجامع!!


http://iraqirabita.org/index.php?do=article&id=21084.

No comments: