هل ب"الاجتثاث" سنبني تونس "الديمقراطية"؟ د.خالد شوكات* من جهة نؤكد على أن أبرز ما ستحققه الثورة أنها ستعيد السيادة للشعب، بعد أن كانت طيلة العقود الماضية بيد الحاكم الفرد، لكننا من جهة ثانية نرى أن "هيئة تحقيق أهداف الثورة" تؤكد من خلال مقترح قانون انتخاب المجلس التأسيسي، الذي صودق عليه يوم الاثنين 12 افريل، أن الشعب "قاصر" و أنه لن يكون بمقدوره أن يحكم بنفسه على من أجرم في حقه ممن لم يجرم. بالأمس كنا ننتقد النظام السابق لأنه كان يستغل سلطة القانون و يسخرها لتحقيق أهدافه وتصفية خصومه، و عندما تتاح لنا اليوم فرصة لنري الشعب التونسي كيف سنتصرف نحن عندما تتاح لنا فرص تشريع القوانين، نبادر إلى ممارسة "الانتقام" نفسه، و"التشفي" ذاته، ونسبغ على أمزجتنا الشخصية و مؤامراتنا الحزبية مسوحا موضوعية، لنستغل بعد ذلك شعار "الحق" لنحقق به "باطلا". و إن عقلية "الإقصاء" و منطق "الثأر" لا أراه يصادر فحسب، حق الشعب التونسي في أن يمارس "الاختيار الحر" بنفسه مباشرة كما يفترض مبدأ "السيادة الشعبية" الذي هو أول مبادئ الديمقراطية، بل يتعدى أيضا على حق السلطة القضائية المستقلة في ممارسة وظيفتها وتحديد "المجرم" من "البريء" و "المذنب" من المشتبه فيه. و إنني لا أعتقد أن برلمانا تونسيا منتخبا انتخابا حرا و نزيها و شفافا وبإشراف دولي، كان سيقدم على اتيان الفعل ذاته و استغلال ظروف البلاد الاستثنائية والانتقالية لتمرير قانون ينضح بروح الأقلية الشعبية، المتكبرة في حقيقة تفكيرها و ممارساتها على عموم الشعب الكريم و المعروفة بتعاليها واحتقارها وتشكيكها في قدرات الشعب، و المعتقدة في قرارة نفسها أن لها حق ممارسة الوصاية السياسية على الشعب بحجة الغيرة على مصالح هذا الشعب، والغالبية يعرفون أن هذا الشعب يعرف أن هذه "الأقلية" التي هي مزيج من "اليساريين المتطرفين" و "الفرنكفونيين الأصوليين" لديهم أجندة خاصة ضيقة إقصائية لا علاقة لها بالشعب. و عندما تأملت في سيرة الدول التي حققت نجاحا باهرا في الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، مثل الهند و اسبانيا و البرتغال وجنوب افريقيا و التشيلي والبرازيل و غيرها، وجدت أن قادة مرحلتها الجديدة حاولوا ما أمكن بحكمتهم و روح التسامح التي تغمرهم و بعد النظر الذي يميز عقولهم، أن يبعدوا شعوبهم و دولهم عن السقوط في حالات التصفية الشعبوية و المزايدة الثورية و ممارسات الثأر والإقصاء والانتقام والتشفي. و كذا كان حال بناة الأمم العظيمة في التاريخ، مثل سيد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال لمن حاربه ربع قرن من الزمان "إذهبوا فأنتم الطلقاء"، وما عساه قال لمن لم يحاربه يا ترى، ولم ير في سيرته العطرة أنه أصدر أمرا بإقصاء هؤلاء الأعداء من شغل الوظائف العامة أو المشاركة في شؤون الرعية بعد أن أصبحوا مواطنين متساوين في الأمة الجديدة، و ما مثال معاوية بن أبي سفيان بقليل. و حتى لا يزايدن أحد علينا، فإن لا عاقل ينكر حق الشعب التونسي في محاسبة من أوغل في دمه أو ماله أو الاثنين معا، غير أن ممارسة هذا الحق يجب أن تحدث من خلال القضاء العادل المستقل والنزيه، و أن يمكن المتهمون من كل ضمانات المحاكمة النزيهة، حتى يدرك الناس الفرق بين النظام الديمقراطي والنظام الديكتاتوري، وحتى يفرقوا تماما بين "دولة القانون والمؤسسات"، تطبيقا وشعارا، و فعلا وقولا. إن أخطر ما في قانون انتخابات المجلس التأسيسي المصادق عليه من قبل هيئة السيد ابن عاشور، أنه يكرس للمرة الثانية تقسيم المجتمع التونسي إلى "مواطنين" و"منبوذين"، و لأن كثيرا من بيننا كانوا من "المنبوذين" لعقود طويلة، فإنني أربأ بهم اليوم أن يكونوا مساهمين في مشروع جديد لتقسيم التونسيين، و زرع بذرة الحقد والشقاق في نفوس كثير من بينهم.. علينا أن لا نفكر فقط في "كوادر التجمع وقياداته"، الذين لا استطيع أن أقتنع – للأسف- بأن جميعهم مجرمون، إنما يجب أن نشمل بالنظر أيضا أبناءهم وأحفادهم و أزواجهم، الذين سيطالهم بالضرورة قانون "النبذ" المشؤوم..ما تعلمته و أتعلمه من الديمقراطية هي أنها مصدر للعفو والرحمة و طي الصفحة والنظر للمستقبل المشرق وإتاحة الفرصة حتى أمام عتاة المجرمين ليكونوا مواطنين صالحين.. وما فعلته هيئة تحقيق أهداف الثورة، ليس في رأيي إلا جريمة كبرى في حق الثورة، لأنها حولتها من حالة بناء وتأسيس إلى أداة صراع وانتقام..وما يحز في النفس فعلا أننا نصر على أن نجعل من تاريخنا حلقات من التصفية والثأر و الاجتثاث متواصلة، إذ كلما جاءت فئة تنصب نفسها "ملائكة" وتشيطن ما قبلها، وكلما جاءت أمة لعنت أختها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. * كاتب و سياسي تونسي
No comments:
Post a Comment