الموقف السليم في الرد على وجدي غنيم
بقلم صفوان قريرة
يروى أن القهوة
لما جاوزت أسوار تونس المحروسة في القرن الثالث عشر، احتار الناس في أمرها
وارتابوا. فأحالوا أمرها إلى سيدي أبي الحسن الشاذلي لينظر في شرعيتها. ولم يلبث
الأخير أن أفتى بجوازها فاكتسحت القهوة أسواق تونس وشاع احتساؤها. فإلى سيدي أبي
الحسن الشاذلي ندين اليوم بحضور القهوة في كل مجلس، ومن ذلك سميت بالشاذلية.
يروى كذلك أنه
لما قامت الدعوة الوهابية في نجد في جزيرة العرب في القرن الثامن عشر، باسم تخليص
التوحيد من الشوائب والدين من البدع، بادر محمد بن عبد الوهاب بتحريم القهوة أو
تحريم الإغراق فيها (باختلاف
الروايات) وعد ذلك من البدع المحدثة.
مثل هذه
المقاربة تظهر جليا مدى الهوة الفكرية والزمنية التي تفصل مدرستين. ولكن الفكر الوهابي، على تعصبه أحيانا، لم يكن
وليد لحظة زمنية يتيمة استقلت فيها بابن عبد الوهاب فكرة محاربة الشرك والبدع.
وإنما كان امتدادا لتيار غذته على مدى قرون نزعة الجمود الفكري. ولم تشذ تونس
اليوم عما يعتري العالم الإسلامي من سلبية فكرية، وفي هذا السياق أثير ما أثير من
ملاحاة بمناسبة زيارة الداعية المصري وجدي غنيم إلى تونس (I)، لكنه جدل لم يلق
التعاطي الإعلامي ولا السياسي المنشود. (II)
I)
أطروحات وجدي غنيم، بين التقييم والتقويم:
يمكن تصنيف
الداعية وجدي غنيم كداعية منتم إلى المدرسة السلفية، وإن اختلف أحيانا مع بعض
المنتمين إليها.ويؤيد ما ذهبنا إليه انتماؤه إلى جماعة الإخوان المسلمين ومواقفه
الفكرية، التي عبر عنها مثلا في رده بتاريخ 22جانفي 2011 على
تصريحات شيخ الأزهر أحمد الطيب. ومجمل ما عيب على السيد غنيم قبل وأثناء
زيارته لتونس معارضته للديمقراطية ودعوته إلى تطبيق الشريعة الإسلامية (1) ودعوته
إلى ختان الإناث (2) ومنهجيته في التعامل مع مخالفيه (3).
1) مآخذ وجدي غنيم على الديمقراطية و دعوته إلى تطبيق الشريعة
الإسلامية:
أول مآخذ السيد
غنيم على الديمقراطية مرتبط ذاتيا بمفهوم الديمقراطية. ومفاده أن الديمقراطية تجعل
السيادة بيد الشعب في حين أن السيادة لله وحده. وموقف سفسطائي كهذا يذكرنا بما
يروى من أن عليا بن أبي طالب لما قبل بالتحكيم وكان من أمره ما كان من خداع عمرو
بن العاص لأبي موسى الأشعري قال بعض المتمردين من قبيلة تميم (وكانوا بذلك أول الخوارج): "لا حكم إلا لله !" فلما سمع علي ذلك قال قولته المشهورة: "كلمة حق أريد
بها باطل". فمأخذ
السيد غنيم على الديمقراطية التي تقر مبدأ إرادة الشعب والحال أن إرادة الله هي
العليا هو كذلك مأخذ فاسد منطقيا. لأن إرادة الله فوق كل إرادة، ولن يحكم أحد في
ملك الله إلا بمشيئة الله.
وبودنا أن
نسأله: إذا كان رأي الأغلبية غير ملزم في إقرار مسلك
ما، فلم رحلته الدعوية بين الناس في المدن التونسية من العاصمة إلى سوسة، مرورا
بالمهدية والقيروان وصفاقس إذا لم يكن هدفه استمالة قلوب الناس فتدين بالشريعة
الإسلامية كمصدر أوحد للقانون ؟ فمنهجية رحلته الدعوية تسلك إذن مسلك حملة
توعوية، شأنها في ذلك شأن الحملات الانتخابية. فيكون السيد وجدي
غنيم يدعو، من غير أن يشعر، إلى تبني الديمقراطية كنظام للحكم.
ثانيا، يستدل
السيد غنيم في رفضه للديمقراطية وإقراره بفسادها بأنه طالما كانت الإرادة
للأغلبية، فللأغلبية ما حكمت به وإن خالف ذلك شرع الله (كبيع الخمر وإجازة التبرج
للنساء). وهو منطق يرفضه السيد غنيم.
ويكون الرد هنا
على ست نقاط:
أولا، إن تجريم
السيد غنيم للديمقراطية هو نتاج استدلال من القرآن ومن السنة. فأما القرآن فهو في قوله تعالى."وأمرهم شورى بينهم"، (الشورى/الآية 38) وأما الحديث فهو في قول الرسول
عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي."
فأما ما استدل
به في الآية القرآنية فلا يقتضي صراحة تحريم الديمقراطية، إذ أن مبدأ الشورى يتحقق
بالديمقراطية. وأما الحديث النبوي فيرى غير السيد غنيم أحقية حصر كلمة "السنة" في مفهومها الديني البحت. وهو رأي له ما يؤيده في
السنة النبوية كحديث النبي عليه الصلاة والسلام "أنتم أعلم بشؤون
دنياكم". ولا مراءفي أن العلوم السياسية والقوانين الدستورية من الأمور الدنيوية. وحتى لو سلمنا بأخذ
كلمة "سنة" على إطلاقها، كسن الدساتير والقوانين، فإن حديثا نبويا آخر قد يأتي
موضحا معنى الأول: "الخلافة بعدي
ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا." (أخرجه بن حبان والإمام أحمد). فيفهم أن محل الاستهجان هو النظام الجائر ولاسيما الملكي، وأن سنة
الخلفاء الراشدين في الحديث الأول هي سنة الحكم العادل.
ثانيا، تستجيب
الديمقراطية في أفضل حالاتها إلى ما أراد المحكومون تحقيقه. أما إن أرادوا غير
ذلك، أفيكرهوا عليه ؟ وإن كان لا إكراه في الدين (أي في اعتناقه) فكيف يكره شعب فيما هو دون ذلك من أمور الدنيا
أو حتى في أمور الدين التي تنجر عنها مخالفة لحكم الله ؟
ثالثا، يقول السيد
غنيم إن رفض تطبيق الشريعة الإسلامية كفر. فإذا كان الأمر كذلك فإن شعبا يأبى
تطبيق الشريعة الإسلامية يعد كافرا، والكافر غير مكلف بالفروع، فلا معنى لمطالبته
بنظام حكم إسلامي يحل ما أحل الله ويحرم ما حرمه.
رابعا، إن علم
السيد غنيم بالديمقراطية وآلياتها فيه قصور، فهي لا تحقق دائما مذهب الأغلبية كما
يدعي. فمنع الكحول في أمريكا في عشرينيات القرن الماضي بمقتضى التعديل الثامن عشر
للدستور الأمريكي لم يكن ثمرة إرادة شعبية بقدر ما كان وليد إرادة سياسية. تماما
كإلغاء حكم الإعدام في فرنسا عام1981 في أول عهدة
للرئيس فرانسوا ميتيران، الذي فرض على الشعب رؤيته في حين كانت تشير آخر استطلاعات
للرأي إلى معارضة الفرنسيين لإلغاء عقوبة الإعدام.
خامسا: يحيل
السيد غنيم إلى الشورى كبدل عن الديمقراطية، ومذهبه في ذلك أن للمسلمين فسحة في
تخير ولي أمرهم شرط أن لا يحيدوا قيد أنملة عن منهج الخلفاء الراشدين في الكيفية
التي آلت بها الخلافة إليهم. ولنا أن نكتفي هنا بالرد على مسألة واحدة وهي أن
الشورى التي بمقتضاها آل الأمر إلى كل من الخلفاء الراشدين لم تحدد مدة
زمنية تقيد بها خلافة هؤلاء. فلو انتهج السيد وجدي غنيم منهج تولي
الخلفاء من غير الحيد عنه فستكون رئاسة/خلافة مدى الحياة. ولو أراد تقييدها فسيخرج
عن نهج الخلفاء الراشدين مقرا بذلك أن هذا المنوال كما هو لا يكفينا ولا يلزمنا.
سادسا: أظن حريا بالسيد غنيم أن يعي أنه لولا
الديمقراطية الأمريكية لما أمكنه أن يدرس الشريعة الإسلامية في جامعة
فيرجينيا ولا أن يناقش في جامعة إينديانا رسالة الدكتوراه "ربانية الشورى
ووضعية الديمقراطية" التي يذكر بها في كل مقام ومقال.
2) الرد على وجدي غنيم في اعتباره ختان الإناث مكرمة:
وإثارة المشكلة
لا أساس لها، فالسيد غنيم لم يتعرض لها البتة في جولاته في تونس ولم يدع لها، وهو
ما يحسب له ويحيى عليه، لوعيه بأن الواقع التونسي لا يحتمل إثارة هذه القضية. لكن
موقفه يبقى اعتبار الختان "مكرمة"للنساء، ويستدل في ذلك بأحاديث نبوية. ولما أصبح البعض
ممن بلغه هذا الوقف ينوط بالختان بعدا دينيا، فمن الأنسب التطرق إلى هذا الباب.
والأحاديث
المستدل بها في استحباب ختان الإناث ثلاثة.
أولاها حديث أم
عطية الذي رواه أبو داود، أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي عليه
السلام: "أشمي ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج." وهذا الحديث
ضعيف وقد قال أبو داود عن أحد رواته وهو محمد بن حسان أنه مجهول. في حين ذهب
الحافظ عبد الغني بن سعيد إلى أن هذا الراوي ليس بمجهول وإنما هو محمد بن سعيد بن
حسان الذي قتله المنصور صلبا على زندقته لأنه وضع أربعة آلاف حديث !! لكن الحديث روي من طرق أخرى كلها ضعيفة وقد صححه
الألباني لتعددها. ولكن حتى لو سلمنا بصحة الحديث فإن ذلك لا يعد أمرا بالإيجاب
ولا حتى بالاستحباب. ونسوق هنا تعليق الدكتور يوسف القرضاوي "الأمر في مثل هذه
الأمور للإرشاد، فلا يدلُّ على الوجوب أو الاستحباب، لأنه يتعلَّق بتدبير أمر
دنيوي، وتحقيق مصلحة بشرية للناس، حدَّدها الحديث بأنها: نضارة الوجه للمرأة،
والحظوة عند الزوج. فهو يرشد - عند وقوع الختان - إلى عدم النَّهك والمبالغة في
القطع، لما وراء ذلك من فائدة ترتجى، وهو أنه أحظى للمرأة عند الجماع، وأحبُّ إلى
زوجها أيضا."
وأما حديث
"الختان سنة للرجال مكرمة للنساء" وهو الحديث الذي يستدل به السيد غنيم
فقد قال عنه مخرجوه بأن إسناده ضعيف. وضعفه الألباني في مؤلفه "سلسلة
الأحاديث الضعيفة."
و معلوم أن الحديث الضعيف لا يُؤخذ به في الأحكام، وإنما أجاز الإمام بن كثير والإمام بن القيم وغيرهما من أئمة المحدثين العمل بضعيف الحديث في مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال. أما الأحكام وما يتعلَّق بالحلال والحرام، والإيجاب والاستحباب، فلا يؤخذ بها ولا يعتد ـ
وأما الحديث
الثالث "إذا التقى
الختانان وجب الغسل" فكل ما
يدل عليه أن النساء كن يختتن في تلكم الفترة. . والحكم الشرعي الوحيد الذي يمكن استخلاصه هو الإباحة. وأقسام حكم الشرع خمسة كما ذكر العلامة عبد الواحد بن عاشر في متنه الذي تلقته وتناقلته أجيال من العلماء الزيتونيين
أقسام حكم
الشرع خمسة ترام فرض وندب وكـــراهة حـــــــرام
ثم
إبـــــــــاحة فمأمــــــــور جزم فرض ودون الجزم مندوب وسم
فهي إذن الإباحة مالم يثبت الضرر، فإن ثبت ضرر صحي كما هو الحال في زماننا هذا فيحرم شرعا عملا بمقتضى الحديث النبوي "لا ضرر ولا ضرار"ـ
3) وجدي غنيم وفقه الاختلاف:
غير أن منهج
السيد وجدي غنيم في التعامل مع مخالفيه لا يرقى إلى ما درج عليه السلف
الصالح (الذين ينسب نفسه إليهم) في التعامل مع المخالفين. فرأيناه منبريا في
تحدي أن يأتي أحد بخلاف ما أتى به، وكأن لسان حاله يقول "فأتوا بسورة من مثله إن كنتم صادقين". ولا اعتداد لمن حمل كلامه على أنه موجه إلى فئة
معينة من "العلمانيين المعادين للإسلام" دون غيرهم من المخالفين، فكلام
السيد غنيم مطلق وموجه إلى كل من خالفه الرأي (في نبذ الديمقراطية مثلا)،
آستظل بمظلة الإسلام أو خرج عن دائرة الدين. و باستحضار كلام الشافعي ("مذهبي صواب يحتمل الخطأ ومذهب
غيري خطأ يحتمل الصواب") يفهم أن هذا
المنهج في التعامل بالإثارة تارة وبالدعوة إلى المناظرة طورا لبعيد كل البعد عن
مسلك السلف الصالح. ويبدو أن ذلك شأن دأب عليه الداعية وجدي غنيم ولم يحد عنه
يوما. فقد عرفت عنه ردوده العلنية على مخالفيه من أهل العلم أو ممن اشتغلوا
بالدعوة.وحجته في ذلك أن الموقف الخاطئ
(برأيه) قد عبر عنه صاحبه علنا، فالأصوب تقويمه علنا كذلك.
ويغيب عن السيد غنيم أن فقه تقويم خطإ العلماء يكون بالنصح في المجالس الخاصة أولا
ثم بالاستعانة بغيره من أهل العلم ثانيا لحث المخطئ على العدول عن موقفه. ثم إن لم
يبق من ذلك بد يتم في آخر المطاف تصويب الموقف الخاطئ علنا درءا للفتنة و لمنع
الناس من الوقوع في حرام. فالنصيحة على الملإ فضيحة، وما نُصح أحد على الملإ إلا
وسار بخلاف ما نصح به. كما أن حفظ هيبة العلماء أمام العامة مقصد مهم لا بد من
المحافظة عليه. لكن منهجية السيد غنيم العنيفة في التعامل مع مخالفيه ليست حكرا
عليه، وإنما هي ظاهرة استفحلت في من دانوا بمذهبه وساروا على نهجه.
أمام هذه
المواقف، لم يلحظ في المشهد الإعلامي والسياسي والمدني التونسي إلا ردود فعل تفتقر
نضجا وعمقا.
II) ردود
نخبوية قاصرة:
لم يكن الدافع
في خط هذه السطور ما جاء على لسان الداعية وجدي غنيم بقدر ما كان أسلوب التعاطي
الإعلامي والفكري والسياسي مع الموضوع. فقد انزاح الستار ليكشف أن أغلب
ما "تزخر" به
ساحتنا الوطنية من إعلاميين لامعين وقفوا موقف العاجز العيية حجته، وانبروا ينددون
بكلام الداعية بأسلوب قاصر، استعاضوا فيه بالعموميات عن الخوض في دقائق الأمور،
فكانوا إما في موقع الواعظ لمقتنع أو في موقع من جعل أصابعه في آذانه "من
الصواعق حذر الموت". ومن هؤلاء صنف إذا قيل لهم "قال الله" ركبوا
رؤوسهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، و صنف ثان إذا قيل لهم
"قال الله" سكتوا عجزا وجهلا. و كلا الصنفين وجد نفسه عاجزا عن درء فهم
لكلام لله بفهم آخر لكلام لله، من غير استنباط ولا فتوى (إذ قد يعز على تونس
أن تجود قريبا، بعد عقود من الإخصاء الفكري، بأمثال بن سحنون وأبي الحسن الشاذلي)
وإنما بكلام يستقونه من أمهات الكتب فينهلوا مما قال سلفهم من أهل الفهم السوي
المعتدل.
وكذا أتى
الموقف السياسي في عمومه، و قد تستثنى هنا بعض مواقف منها تصريحات السيد عبد
الفتاح مورو. فعجز عدد من الأحزاب السياسية عن الرد المقنع مرده إلى قصور في بنيان
مرجعيتها الفكرية و إلى استمرار في خطإ خلنا أنها تفطنت إليه بعد صفعة 23 أكتوبر. فبات من الواضح أنها لم ولن تلتفت يوما
إلى الشرائح الاجتماعية المهمشة التي يستهويها خطاب ديني راديكالي. فلتنتظر إذن أن
لا يتجاوز صدى صوتها أسوار الغولدن توليب العالية !
أمثال هذه
المواقف لا تحمل خطابا سياسيا وليست مثمرة إعلاميا. وإنما هي خطابات عاطفية
مناوئة. وأهلها لا يشتغلون بالعلم ولا بالسياسة وإنما بالدعوة السياسية والدعوة
الإعلامية. فاختلافهم مع السيد وجدي غنيم ليس إلا اختلافا شكليا.
أصحاب هذه
المواقف لم يستوعبوا بعد أن شريحة واسعة من التونسيين متعطشة وبأمس الحاجة اليوم
إلى خطاب ديني يوافق تطلعاتها، كحاجة أحدهم إلى طعام، لو لم يجده في بيته لخرج
شاهرا سيفه يطلبه ! أصحاب هذه المواقف ينفخون، من غير أن يشعروا، على نار
العصبية الهوجاء التي تسري في هشيم مجتمعنا.
No comments:
Post a Comment