منتدى الصباح | ||
طارق المكي.. كنت رجلا، يوم ندرت الرجال
بقلم: صفوان قريرة*
|
انقطعت عن مواقع التواصل الاجتماعي منذ سمعت بوفاة العزيز طارق المكي. تابعت
بحزن شديد مجريات الأمور، وقد عجزت حتى عن الاتصال بأهله لتعزيتهم، أو
كتابة جملة واحدة أنعيه بها. ولم ينتج عني مما أنا فيه إلا جملة لأحد أبناء
الجمهورية الثانية قال لي فيها:
|
عرفت طارق في زمن السكينة والذل والهوان…
أيام كانت الرقاب خضّعا، والأبصارخشّعا، والرجال ركّعا…
يومها انبرى صوته ملعلعا، في السماء الشمالية التي احتضنته..ليزلزل أول حجر في عرش النظام السابق..
تعلقت
همة الشاب الذي كنت يومها، البعيد عن السياسة والغارق في أبحرالقانون
وفنون الأدب العالمي، بشجاعة هذا الرجل العجيب وجرأته…كان ذلك في صيف
2007.. فأصبحت أحد متابعيه…وقد تجاسرت على طلب صداقته على موقع الفايسبوك،
فبدأت بذلك علاقة ودية استفدت منها، تطورت إلى صداقة، رغم فارق السن،
أعتزبها.
لم
يكن طارق ذلك المتشدد في رأيه، المتسلط في نقاشاته، المستبد في منهجه كما
يخيل إلى البعض…وكما خيل إلي بادئ الأمر..وقد استغربت أن يبحث من خلال
محادثاته معي، عن رأيي في ما يقوله ويفعله…وقد كان محل استغرابي أنني كنت
شابا غير ناضج سياسيا بما فيه الكفاية…فلم أكن أرى جدوى أن يطلب
رأيي..فأصبحت أناقشه أحيانا ويناقشني…وأقترح عليه بحذر شيئا ما، فيتفاعل
معه أحيانا، ويرفضه أحيانا أخرى، درءا لمفسدة يخشاها، أو جلبا لمصلحة
يراها.. لم أخف عن طارق يوما طموحاتي..وأذكر جيدا أنني قلت له في أول كلامي
معه أن حلمي هو أن أكون يوما رئيسا للبلاد. وأذكر إجابته تماما: C'est tout à votre honneur.
لكن
مع مرور الوقت، وتضييق الخناق حوله، أصبح يبحث فيّ عن الصديق الذي يثق به
ويفصح إليه بأفكاره، ويبوح إليه ببعض أسراره، ويطلعه على بعض مشاريعه
وتصوراته...
وقد
قلّ أن اجتمع الطموح الجامح بالوطنية الصادقة كما خبرت ذلك لدى هذا الرجل
الذي أثرت فيه الغربة…لكنها لم تنل من عزيمته ولا من صبره...فقد كان مرحا
رغم كـآبة المنفى وضغط السياسة، ويتهكم عليّ أحيانا مازحا وينعتني ب"ولد
المنزه" (أي المرفّه) ولهذا السبب لن أفهم كلامه لأن أبناء الأحياء الشعبية
الذين هم أكثر من يعاني الظلم والقمع هم كذلك أكثرمن يتفاعل مع خطاباته…
كان
طارق المكي من طينة نادرة…يراقب بعين متمرسة خبيرة الحياة في كندا حيث
كان، ليقص عليّ بعد ذلك من عجائب أمورهم ودقائق تفاصيلهم، لنضيع لساعات في
متاهات التحاليل والتفاسير... ثم يلاعب ابنه بلال الذي كان في سنوات
الطفولة الأولى ويسرد علي آخر نوادره معه…قبل أن يطلب من أمه أن تأخذه،
ليتبوأ مكانا لنفسه أمام الكاميرا ويسجل شريطا يحمل معه نصيبه من الحقائق
والوقائع، والسخرية والجدية، والتهجم على النظام، والتحريض عليه…كان طارق
رجل سياسة بالمعنى الغربي والمتطور للكلمة...فعرف كيف يخاطب الناس، على
اختلاف مستوياتهم..خلافا لأولئك الذين حصروا خطاباتهم في مساحات الفنادق،
ولم تتجاوز صدى كلماتهم أسماع نخبة ضعيفة عاجزة...
تواصلت صداقتنا على مدى سنوات…وكان تواصلنا أساسا عن طريق هاتفي الفرنسي الخاص أوعلى السكايب…من غيرأن يعلم أحد بأمر هذه المكالمات…
وأظنني
تساهلت في المسألة…وقللت من خطر هذه الاتصالات…إلى أن جاء اليوم الذي
وصلتني فيه مكالمة من صديق لي متنفذ في دوائر السلطة (ت.ا) أعلمني أن
المصالح الأمنية التونسية على علم باتصالاتي الهاتفية مع المكي..وأنها لن
تكترث أبدا لوعلمت أنني باتصال مع الشابي أو حتى المرزوقي…أما أن أكون على
علاقة بالمكي، فهذا أكثر مما يمكن أن تتسامح معه…
ذهلت
يومها، واستوعبت أن الرجل الذي أتكلم معه مرتين أو ثلاث مرات أسبوعيا…هو
العدو رقم واحد لنظام بن علي.. لم يعلم طارق أبدا بهذه الحكاية، غاب عني أن
أسردها عليه…حتى عندما التقينا في تونس بعد الثورة ولست أظنه كان ليبالي
بها…فقد كان يعلم شدة المراقبة المسلطة عليه…ولا يكترث لذلك..كان رجلا. لا
يخشى في الحق لومة لائم..وأعتقد جازما أنه لولاه لما كسر حاجز الخوف الذي
كان يمثل لنا بن علي كمارد عظيم هائل.. فقد كانت لديه قناعة غريبة، بأن بن
علي راحل لا محالة… وأن ذلك آت قريبا…إلى أن أتى ذلك اليوم…فاجتهدت حتى
تكون أول المداخلات في فرانس 24 مداخلته هو…فقد أسهم في هذه الثورة كما لم
يسهم فيها أحد...
لعل
من أجمل ما سأظل أذكره لزمن الثورة، من بين كل لقاءاتنا في تونس، جلسة في
إحدى قاعات الشاي في العاصمة، ضمتني أنا وصديقا لي من أهل السياسة وطارق
المكي وبرهان بسيس…
رأيت طارق آخر مرة أسبوعين قبل وفاته، يوم 18 ديسمبر في إحدى مصحات الضاحية الشمالية….
كان المرض قد أنهك جسده…لكن ثقته بنفسه لم تزل عالية…فقد كان يومها سيجري حوارا على إحدى الفضائيات...قال لي: "أصدقائي ينادونني le miraculé لأنني نجوت من الموت بأعجوبة"…وقال لي إنه توقف عن التدخين منذ العيد الماضي، ونصحني بأن أقلع عن التدخين كذلك…
تكلمنا
في السياسة يومها…مدة نصف ساعة…ريثما أكمل ابنه زياد إجراءات الخروج من
المصحة…نصحته يومها بأخذ قسط من الراحة…بالحفاظ على صحته التي هي أغلى ما
لديه…ثم بتأليف كتاب…دخل إلى غرفة جانبية أظنها الحمام، غيّر فيها ثيابه،
ثم خرج وقال لي: "والله ديما نعمل عليك جو، اتخمم كيفي ساعات"
كم وددت يومها أن أقول له إن أفكاري لو وافقت يوما أفكاره، فإن شجاعتي لن ترقى أبدا إلى مستوى شجاعته عندما تحدى نظاما بأسره !
قال
لي طارق يومها إنه سيتوقف فعلا عن تسجيل الخطابات في آخر السنة…كانت خيبة
الأمل واضحة على محياه...بعد أن وقع التونسيون فيما حذر منه منذ أن قام
فيهم خطيبا ذات ليلة من عام 2007: " لا لتنحية بن علي من أجل تنحية بن
علي"ـ
تكلم
طارق يومها معي كلاما عن الحاضر، وكلاما عن المستقبل…كلاما عن حياته في
كندا، وكلاما غير ذلك…كلاما بعيدا عن ثقافة البكاء والعويل التي تميز
سياسيينا والتي كان يسميها ثقافة "الكليناكس"، لم يكن ذلك منهجه
أبدا...وكان ينأى بنفسه عن التذكير بالتضحيات التي قدمها والمعاناة التي مر
بها...امتطينا سيارة مع والدته وابنه زياد، وأوصلوني قريبا من النزل الذي
كنت أقيم به..
فتحت باب السيارة فقال لي مودّعا: "تكلّم عاد قبل ما تروّح خلّي نعملو قهوة، والله انحب انشوفك…"
لكن جدول أعمالي المضطرب دوما في تونس، أشغلني عن ذلك… فكانت تلك الكلمات آخر عهدي به.
ثم
عدت إلى فرنسا ومنعتني ظروف قاهرة من حضور جنازته…فتألمت في صمت بعد أن
اختطفته يد المنون في الـ54 من العمر، اختطفته من أحلامه الكبيرة لتونس،
ومن طموحاته المشروعة لنفسه.. وزاد من ألمي غياب "رجال" السياسة من حكومة و
معارضة…
ويبدو أنهم منعتهم كلهم ظروف قاهرة كذلك…فقاطعوا جنازته... نوابا، حكومة ورئاسة…ومعارضة…
كم احتقرتكم..وأنا عادة الودود العقلاني المتزن..البعيد عن العاطفة والتمرد..
كم احتقرتكم…فأنتم بمقاطعتكم أثبتم أن لا أخلاق لكم، ولا وطنية لكم، ولا عقل لكم…
فأما الأخلاق، فهي من شيم من يشيع جنائز المسلمين...
وأما الوطنية، فإنكم لم تتنكروا للمكي فحسب، وإنما لنضالاته وتضحياته أيام الجمر من أجل تونس.
وأما
العقل، فقد كان بإمكانكم أن تشتروا لأنفسكم، بحضوركم ساعة من الزمن، قليلا
من حظوة لدى التونسيين..لكن تبين أن لا عقل لكم..وأن لا رغبة لكم في
التأسيس لتقاليد جديدة، تقاليد وطنية، لرجال دولة تُحَيّي باسم الدولة من
ناضل من أجل الدولة، بغض النظر عن الأحقاد الشخصية والمكائد السياسية. لكن
تبين أنكم لستم من الدولة، ولا الدولة منكم...
كنت أظن طارق يبالغ قليلا عندما يقول إنكم تخشونه. لكني تيقنت اليوم أنكم كنتم تخشونه حقيقة..كنتم تخشونه حيا، واليوم تخشونه ميتا.
أثبتم أنكم لا تساوون أكثر من "الكاكوية"، تلك الكلمة التي كان ينعت بها أحزابكم…قريبا، سيلفظكم الناس ب"ديغاج" جديدة..
قد كانت تلك أيضا كلمته…
رحمك الله يا صديقي
إعلامي فرانس 24 باريس
|
No comments:
Post a Comment