العقلانية أساس استعادة بناء الدولة
الوطنية في العالم العربي
صحيفة تشرين ، آراء ومواقف، الأحد
4أغسطس/أوت
2013
الدولة الوطنية الديمقراطية هي بوجه
عام دولة الحرّية، وهي بوجه خاص الضامن لحرّية الفكر، وتأكيدنا على حرّية الفكر في
وضعنا العربي ينبع من قناعتنا بأن المدخل إلى إعادة إنتاج السياسة في المجتمع هو
مدخل معرفي فكري من أجل بلورة مشروع تنويري عربي يجسد القطيعة مع ماقبلية التاريخ،
هذه الحقبة اللازمانية التي جعلت التنوير العربي إما ينساح للانكفاء على الموروث
الماضوي (الإسلامي الأصولي) تحت تأثير صدمة المواجهة مع العملقة الغربية وإما
يتماهى مع شخصية الغرب من موقع عقدة الشعور بالنقص
.
وهذا الانكفاء وهذا التماهي بالغرب
بعدّه «أنموذجاً يحتذى به»، يمنعان عملياً
بلورة مشروع تنويري عربي قادر على أن يحقق نهضة تحديثية عبر المواجهة التاريخية مع
الذات (أي ثورة الذات العربية على ذاتها) وعلى الآخر (أي الغرب) في آن معاً.لذلك نرى
أن حرّية الفكر لا تدخل في نطاق سلطة الدولة المجسدة لما هو عام ومشترك بين
الأفراد، وليس لما هو خاص ويختلف من فرد إلى آخر. فمع أن الأطر الاجتماعية تحدد
المعرفة والفكر لكن أفراد المجتمع يفكر كل منهم بحرّية تامة، وهم في ذلك مختلفون
أشد الاختلاف
.
إن عقلانية الدولة في هذه الزاوية، هي تلك العقلانية الحقيقية
التي تجسد العقل المفتوح الذي يعترف بأن هناك وقائع تكون في الوقت عينه عقلانية
وغير عقلانية، والذي يعد التحاور مع الوقائع ضرورة مطلقة، باعتباره حاجة ماسة
لمحاربة أعدائه الداخليين: المنظومات المتماسكة من الأفكار أو النظريات التي تنزع
إلى التصلب في مذاهب منغلقة، وتصبح منذ ذلك الحين معقلة. حيث إن التعقيل على حد
قول ادغار موران: «يتخلى عن المنهج العقلاني (الحوار مع الوقائع) ويعالج منطق
المنظومة المذهبية التي تعتقد أنها مبرهن عليها إلى الأبد
الديمقراطية بوصفها حقيقة نظام الحكم تقوم على مبدأ النظام العام، قبل أي شيء آخر، النظام في معارضة العشوائية والفوضى (اي النظام في معارضة حرية الأفراد واختلافهم وتعارض مصالحهم). وإنه لمن المتعذر إيجاد تفسير مقنع لتنظيم المجتمع غير تنظيم العمل والإنتاج الاجتماعي. فإذا كان الالتقاط والصيد والزراعة والحرفة والصناعة درجات في سلم نمو العمل البشري، فإن التنظيم الاجتماعي الحديث هو انعكاس تنظيم العمل في المجتمع الصناعي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، على الرغم من اتساع دائرة ملكية الدولة الرأسمالية والمرسملة في الأطراف. وعلى أساس العمل الأجير أحدث الأشكال العبودية والاستغلال، وأكثرها غموضاً وخفاء، هذه الأشكال التي تجد تعبيرها في الاستلاب السلعي (السلعة صنم) وصورته الرمزية (السلطة صنم). «الفوضى هي قانون المجتمع المدني المنعتق من الامتيازات العامة المعاصرة، مثلما الحالة الحقوقية العامة المعاصرة تشكل من جهتها ضمانة هذه الفوضى، وهما يشترطان أحدهما الآخر بنفي القدر والبرية اللذين يناقضان بها أحدهما الآخر» (نص ماركس انجلز العائلة المقدسة.(
هذا النظام العام أو التنظيم تفرضه في
المجتمع المدني الضرورة الطبيعية أولاً، وخواص الكائن البشري ثانياً، والمصلحة
أياً كانت الصورة المغتربة التي تظهر بها ثالثاً، ولذلك، فإن المجتمع هو الذي ينتج
النظام، وليس النظام هو الذي ينتج المجتمع، إلا بالمعنى الذي تتحول معه النتيجة
إلى سبب.
إن النظام العام المعبر عنه واقعياً
بالقانون هو مبدأ وحدة المجتمع وانتقاله من نظام الامتيازات والواجبات إلى نظام
الحقوق، من نظام الجماعات المغلقة والمتحدات الاجتماعية التي تعزل الفرد عن الكل
الاجتماعي إلى المجتمع المتحرر من سلاسل الأعراف والتقاليد وأطر الفئات المغلقة..
هذا التحرر الذي على الرغم من طابع الفوضى والعشوائية الناجمين عن تحرر الأفراد هو
عملية الاندماج في الكل الاجتماعي وفي النظام العام.
تشكل الثورة الديمقراطية من هذه
الزاوية تحريراً للأفراد من أطر التشكيلات ماقبل القومية، تحريراً تاماً، وهذا
التحرير هو شرط اندماج هؤلاء الأفرد الأحرار في هذا النظام العام وفي المجتمع
المدني، وسيرورتهم أعضاء في الدولة.والعضوية هنا سواء في المجتمع أو
الدولة تعني الفاعلية والمشاركة مع المساواة. إن حرّية الفرد الاجتماعي وحقوق
الإنسان بوصفهما مقدمتين ضروريتين للمجتمع المدني، مشروطتان بالمساواة، ولكن
المساواة لاتزال بعد نظرية وهمية، على الرغم من أساسها الانطولوجي الطبيعي وسندها
الأخلاقي المؤكد بقوة في الدين التوحيدي.
وعلى الرغم من أساسها الواقعي المستند
إلى تساوي العمل البشري المعبر عنه بقانون القيمة، فقد كان أول تحقيق فعلي
للمساواة هو المساواة أمام القانون في دولة الحق والقانون، والمساواة أمام القانون
لا تستطيع أن تكون إلا ذات طابع سياسي لأنها لا تعني المساواة في توزيع الثروة،
ولا في الموقع الاجتماعي، من حيث النفوذ والجاه، لكنها مع ذلك الشرط الضروري
للانتقال إلى المساواة الاجتماعية والاقتصادية، لأن النضال في سبيل ذلك مشروط
بالحرية السياسية التي توفرها دولة الحق والقانون
.
وليس خافياً أن ثمة تعارضاً بين سيادة
القانون وسيادة الحاكم. فدولة الحق والقانون ليست الفردوس الذي يرنو إليه البشر،
إذ إن هذا التعارض هو تعبير واقعي مباشرعن التعارض بين حقيقة الدولة المادية
الموضوعية وشكلها السياسي حسب كارل ماركس. ولو كانت الدولة الديمقراطية ممكنة
منطقياً وتاريخياً من دون المرور بدولة الحق والقانون لكانت مطلباً مباشراً
للجميع. إن مانتطلع إليه في محاولة إعادة بناء دولة الحق والقانون في الوطن
العربي، يقتضي الامساك بالحلقات الأساسية في هذا المشروع
.
أولاً: في عالم متأخر يعاني نقصاً في
الاندماج القومي، وغياباً للمؤسساتية السياسية الفاعلة، وانعداماً للمشاركة
السياسية من جانب الشعب، ووصول السلطة السياسية فيه إلى درجة عالية من الاستبداد
المحدث، كالعالم العربي، حيث تفاقمت مشكلة القمع فيه المتمثلة في مصادرة حرية
الرأي والاجتماع والإضراب وتكوين الأحزاب وإصدار الصحف، وفي إطلاق سراح قوى القمع
لممارسة الاعتقال التعسفي، ومصاردة جوازات السفر، والطرد من العمل، وسحق
الإضرابات، وتعذيب السجناء، وقتل المعارضين الخ.. في عالم مثل هذا يجب إعادة
الاعتبار لبناء دولة الحق والقانون، والتأكيد عليها في مواجهة سلطة العائلة،
والعشيرة الأضيق أفقاً، وهذا يتطلب من قوى التغيير أن تمتلك مشروعاً على درجة
عالية من الراديكالية من أجل إقامة الدولة الحديثة الملتزمة بحكم القانون، حيث
يعمل الحكام فيها لأجل المصلحة العامة، ولمصلحة النظام العام. وتكون هذه الدولة متمايزة عن الدولة
التسلطية العربية السائدة، بمستوى عال من المشاركة السياسية، وتماسك المؤسسات
السياسية الجديدة في المجتمع القادر على التكيف مع متطلبات السياسة العصرية التي
تقتضي وجود أحزاب سياسية حديثة تقوم بعملية تسييس الشعب، وترسي بنياناً ديمقراطياً
للممارسة السياسية، وتحقق التواصل الديمقراطي الحقيقي بين المجتمع والدولة، وهذا
التواصل يجد تجسيداً له في مؤسسات ديمقراطية فاعلة تضمن استمرار هذا التواصل عبر
ضمان المشاركة السياسية وتحقيق الاستقرار السياسي،وتمنع تحول النظام السياسي إلى
مجرد غطاء شكلي يقنع الاستبداد
.
ثانياً: مقاومة جميع أشكال الامتيازات التي
نجمت عن نظام الحكم التسلطي، وقسمت المجتمع إلى مجتمع السلطة صاحب الامتيازات
المتباينة، ومجتمع الناس المهمشين المحرومين. وهذا يعني العمل على تحرير الفرد من
هيمنة السلطة الشمولية، وأدوات هذا التحرير هي أدوات معرفية - فكرية، أولاً،
وسياسية ثانياً، بالتلازم
.
ثالثاً: تحرير الأفراد من أطر المتحدات
الاجتماعية التقليدية، وإطلاقها في الفضاء الاجتماعي العام كخطوة أولية لدمجهم في
الفضاء السياسي العام للمجتمع، وهذا المسعى مرتبط أوثق الارتباط بعملية الاندماج
القومي التي هي عملية مزدوجة تعني تهديم الأطر الاجتماعية ماقبل القومية وإعادة
بنائها على أسس حديثة علمانية وديمقراطية
.
رابعاً: استقلالية الفكر والثقافة عن السياسة
بالمعنى الضيق للكلمة على الرغم من وحدتهما الجدلية، ذلك لأن عملية تحديث المجتمع
تبدأ بتحديث الفكر والسياسة، وعقلنتهما، وديمقراطيتهما. وعبء هذه العملية يقع
بصورة أساسية على كاهل المثقفين وكتلة الانتلجنسيا، التي تتولى صياغة إيديولوجيا
تنسجم في آن معاً مع بناء دولة الحق والقانون والمجتمع المدني بالتلازم، ومع
سيرورة تقدم المجتمع العربي نحو التحديث الشامل والتحرر من إرث المجتمع التقليدي
.
خامساً: استقلالية مؤسسة المجتمع المدني
ولاسيما النقابات والجمعيات، والاتحادات المهنية والوظيفية، والأحزاب السياسية،
والصحافة، ولجان حقوق الإنسان، وأجهزة الإعلام، ودور العبادة، عن هيمنة السلطة.
سادساً: فصل السلطات، ومركزية السلطة
التشريعية، ورقابتها على السلطتين التنفيذية والقضائية. السلطة التشريعية التي تسن
القوانين وتعد لها وتطورها، هي التعبير المباشر عن الكلية الاجتماعية، وهي من هذه
الزاوية الدولة السياسية ومرجعية السلطتين التنفيذية والقضائية، والمشاركة فيها هي
مشاركة في الدولة، وبها يحقق الفرد وجوده السياسي بصفته عضواً في الدولة
.
سابعاً: تحرير المرأة ومساواتها بالرجل
.
ثامناً: إعادة النظر في دور المؤسسات
التقليدية والتربوية وإعادة بنائها على أسس علمانية وديمقراطية
.وأخيراً، توفير الشروط الموضوعية
اللازمة لإعادة بناء الاقتصاد العربي على أسس قومية توفر له فرص الفكاك من هيمنة
المراكز الرأسمالية الاحتكارية عليه، وربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية
والبشرية والنهضة الفكرية والعلمية.
No comments:
Post a Comment