"الانحراف المقدّس".. في نقد الإسلاميين
علي بوراوي 10-06-2009
قال لي وهو يبثّني بعض حزنه وألمه، إنّه تلقّي تهديدا بالموت، إن لم يتراجع عن موقفه برفض بيع مجلّة إحدى الجماعات الإسلامية المسلّحة في مكتبته.
فقد جاءه أحدهم وقال له إنّ امتناعه عن بيع تلك المجلّة، أو بالأحرى ذلك المنشور، جريمة في حقّ الإسلام، وخذلان لحملة رايته، وأنّ القصاص منه لا يكلّف سوى رصاصة واحدة بمبلغ زهيد، تضع حدّا لحياته، ونهاية لمكتبته تلك.روى لي هذه الواقعة صاحب مكتبة إسلامية في إحدى العواصم الأوربية، منتصف التسعينيات. وقال لي يومها إنّ مخاطبه كان جادا فيما قال له، الأمر الذي جعل محدّثي يعيش أيّام رعب رهيبة، لم يتصوّر يوما أن تأتيه من مسلم يقول إنّه يعمل للإسلام ورفع رايته.
وحدّثني أكاديمي ورئيس جمعية إسلامية نشطة في منطقة بني ميزاب بالجنوب الجزائري، عمّا عاشته مدينة غرداية الآمنة من أحداث عنف عقب الإنتخابات المحلية عام 1990، أحرقت فيها المتاجر، واعتدي فيها على الممتلكات، وعنّف فيها بعض أهل المدينة الأباضيون المحافظون، لأنّ قائمة جبهة الإنقاذ في تلك الإنتخابات فشلت أمام قائمة الأباضيين.
ومازلت أذكر ما حدّثني به بعض قياديي الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية أواسط سنة 1991، من بينهم مؤسّسون، من انحرافات تنخر قيادتها، قبل أن تحصل الكارثة، وما كان يمارس عليه من ضغوط بطرق شتّى، من أجل أن تتّفق المواقف "لإقامة الدولة الإسلامية".
فقد صوّر هؤلاء أنّ إقامتها متوقّفة على اجتماع كلمة قيادة الجبهة. وعندما أصدر مجلس شورى الجبهة بيانا يلزم فيه القيادة برأي أغلبية أعضائه، وأنّ أيّ قرار لا توافق عليه أغلبية الأعضاء، يعتبر لاغيا، قرّر الشيخ عباسي مدني مصادرة عدد جريدة "المنقذ" (لسان الجبهة الإسلامية للإنقاذ) الذي نشر ذلك البيان، ومنعه من التوزيع، بعد أن تمّت طباعته. فكانت أوّل مصادرة للجريدة، على يد الرجل الأول في الحزب، قبل أن تصادرها السلطات الحاكمة بأشهر.
لقد حرص عدد من قادة الجبهة ومؤسّسيها يومئذ، أن يلزموا الشيخ مدني برأي الأغلبية، بعد أن باغتهم في ندوة صحفية لم يخبرهم بمحتواها، أعلن فيها عن قرار الإضراب العام، والعصيان المدني، الذي سمع به إخوانه في قيادة الجبهة من وسائل الإعلام، مثل غيرهم من الجزائريين، وبدأ بعده العدّ العكسي لاستقرار الجزائر ووحدة الجبهة.
بل إنّني لا أنسى ما حدّثني به أحد أقارب الشهيد محمد السليماني، نائب الشيخ محفوظ نحناح والرجل الثاني في حركة مجتمع السّلم بالجزائر، عندما دعوته في حديث لي معه، إلى عدم التسرّع في اتهام الجماعة الإسلامية بذبح الشهيد بعد اختطافه، وأنّ التهمة خطيرة توجب التّحري في مرتكبها، خصوصا وأنّ الأوضاع الأمنية للبلاد تسمح بأكثر من احتمال. فقال لي: لقد حاولنا ذلك بما استطعنا، ولكنّ الذين اختطفوه من بيته بعد صلاة الصّبح، ثم وضعوه عندهم رهينة يطالبونه بموقف يؤيّد ما يفعلون، وعندما يئسوا من مساندته لهم، نحروه من الوريد إلى الوريد.
هؤلاء لم يخفوا فعلتهم، بل جاءونا وقالوا لنا متبجّحين إنّهم هم الذين فعلوا ذلك، وحدّثوا الناس بتفاصيل جريمتهم، بشكل لا يترك مجالا للشك فيما قالوا.هذه بعض الأحداث المأساوية التي وقع فيها إسلاميون لا يشكّ أحد في صدق نواياهم، ونبل أهدافهم في خدمة الإسلام ورفع رايته، وإقامة شعائره، ولكنّهم أخطأوا الطّريق في تنزيل ذلك، واتّخذوا وسائل يحرّمها الدين بإجماع أهل العلم.
لا أهدف من سياق ما ذكرت، وما سأذكر، إلى التّشكيك في الدّور الإيجابي للصّحوة الإسلامية والحركات والأحزاب التي تمخّضت عنها، ولا الطّعن في صدق نوايا رجالاتها وشبابها، ولا تبرير ما فعله ويخطّط له خصومها، ولا التّهوين ممّا أصابها من بلاء ومحن، فهذه مسائل معلومة للقاصي والدّاني. ولكن الذي يهمّني هنا، هو التّنبيه إلى الإنحرافات التي اخترقت العمل الإسلامي، حتّى كادت تخرج الكثير من أنشطته عن أهدافه، وتطمس معالمه، وتُذهِب ريحه. وقد كتب كثيرون عن المظالم التي تعرّض لها، والمكائد التي نصبت له، ولكنّ الأصوات التي تعرّضت لأخطائه، بل الإنحرافات التي اخترقته، بقيت خافتة، تتكلّم باستحياء، وتؤثر الصّمت في قضايا كثيرة.
وهل يجوز الصّمت عن تجاوزات استباحت أعراض المسلمين وأموالهم ودماءهم؟ فالنّصوص الشرعية لم تترك مجالا للفتوى والإجتهاد في تغليظ حرمة دم المسلم وماله وعرضه. وإذا أجاز بعض الإسلاميين لأنفسهم فعل ذلك في إسلاميين مثلهم، ربما شاركوهم في فترة من الزّمن أفكارهم وأنشطتهم، فكيف يا ترى كان نصيب غيرهم ممن لا علاقة لهم بالعمل الإسلامي، وإن كانوا يشهدون لله بالوحدانية، وللنبي محمد بالرسالة، وللإسلام بأنّه رسالة الله لخلقه؟
لقد قتل كثير ممن عرفتُ من الجزائريين في تلك الحرب الكافرة، كان قادة الجماعات الإسلامية المسلّحة يزفّون أخبار قتل الكثيرين منهم، الواحد تلو الآخر، إلى أنصارهم، وفي منشوراتهم، معتبرين كلّ قطرة دم تسيلها أسلحتهم وسكاكينهم، خطوة تقرّب قيام الدولة الإسلامية!
ولعلّ قصّة استشهاد الشيخ محمد السعيد رحمه الله، تغني عن كل وصف آخر. فهو أحد قادة الجبهة الإسلامية الذين التحقوا بها قبيل الحملة عليها، وزعيم تيار البديل الحضاري (جماعة الجزأرة كما يسمون في الجزائر). التحق بالمقاتلين في جبال الشريعة، ولكنه لاختلافه معهم في بعض القضايا، وبينما كان يتوضّأ استعدادا لأداء صلاة العصر، أصدر أحد الأمراء أمرا لأحد حرّاسه بصبّ رصاص سلاحه في رأس الشيخ. وفي لمح البصر انطلق الرّصاص، فتطاير دماغ الرجل واختلط بالماء الذي كان يتوضّأ به. ثم انطلقت رصاصات مماثلة إلى رأس عبد الرزاق رجام، الذي كان يتوضّأ هو الآخر قريبا منه، فتناثر دماغه على جذع الشجرة التي كان يستند إليها، ثم جرّت جثّتاهما ورميتا في حفرة بين أشجار الصنوبر، كانت قد أعدّت لذلك. وتقدّم الأمير بعد ذلك ليؤمّ البقية في صلاة العصر، بعد أن منع الصّلاة على جثّتي الرّجلين، لأنّهما ممن لا تجوز الصلاة عليهما.
لست أدري بماذا يبرّر من ساند تلك الجماعات بالدعم المادي والمعنوي، فعلهم ذاك؟ وبماذا تراهم يجيبون ربّهم يوم القيامة، عندما يسألهم بأيّ ذنب قتلت تلك الآلاف من الأبرياء؟ وكيف يشرحون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي يقول فيه "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حقّ". وقوله أيضا "من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله".
لا أحد يشكّ في شعبية الجبهة الإسلامية للإنقاذ عندما تقدّمت للنّشاط السياسي، ولا في صدق قيادتها في خدمة الإسلام وأمّته، بدءا بالجزائر، ولكن متى شرع هذا الدين نصرته ورفع رايته على جثث الأبرياء؟ ألم نقرأ في محكم القرآن قوله تعالى "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً" المائدة 32.إنّه انحراف خطير مضى فيه بعض الإسلاميين، عندما أباحوا لأنفسهم ما حرّمه الإسلام، لإقامة دولة الإسلام حسب رأيهم، ونسوا أنّ دين الله لا تقوم دولته، ولا تحيى شعائره، إلاّ بما أباح الله وشرعه.
أصل الدّاء
إنّ الانحراف في السّلوك، ليس سوى نتيجة طبيعية لانحراف في الرّأي والتفكير، فإذا لم تقع معالجته بكامل الحزم والجدية منذ البداية، تأصّل الداء وتمدّد في باقي الجسم، ليعمّ جميع أجزائه، ثم يفيض بعد ذلك فيتحوّل إلى قناعة راسخة، ويفضي إلى سلوك متّبع. ولقد كان الإنحراف في الرّأي والمواقف جليا في تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية، منذ الفترة الأولى لنشاطها، ولكن أنصار المشروع الإسلامي زهدوا في التقويم والنقد، وغرّهم بريق شعبيتها (وبالأحرى شعبويتها)، وتعطّشهم إلى دولة تروي ظمأهم، وتوقف مسلسل المظالم التي تعرّضوا لها، فاجتهدوا في مناصرتها بكل ما يستطيعون.
أمّا الذين أدركوا مَخاطِر تلك المُخاطَرة من أبناء الصّحوة من الجزائريين، فلم يسمع لهم أحد، بل ألصقت بكثير منهم تهم الجبن، والحسابات الشخصية والضيقة، وقصر النّظر، وموالاة الحكام، وحتى خيانة المشروع الإسلامي.
لا يشكّ منصف أنّ من أهمّ ما يدفع الإسلاميين إلى تبرير أخطاء بعضهم، والتمنّع عن الإعتراف بها، أو حتّى الحديث عنها والتلميح إليها، هذه الحرب الشرسة المعلنة والخفية ضدّهم. وهي حرب لا ترحم، ولا تلين، ولا تهدأ، تستعمل فيها مختلف الوسائل والأساليب للقضاء عليهم، وتدمير كيانهم. هي حرب قذرة، وطويلة، وعاتية، تخوضها ضدّهم قوى عالمية عاتية ومتمكّنة، ولكن ذلك لا يشفع لهم اتّهام من يخالفهم وينبّه إلى أخطائهم ويحاسبهم عليها، بأنّهم أعداء للإسلام ومحاربون له. كما أنّ ذلك لا يمنع من المحاسبة والنقد، لأنّ مخاطر التخفي عن الإنحراف، انحراف عن الدين ذاته.الحديث مجدّدا عن الجزائر مهم، لأنّ نفس التجربة تتكرّر في بلاد كثيرة، ولكن لكل بلد خصوصيته وتفاصيل الحياة فيه.انحراف في الرأي والموقف، يتطوّر إلى تجريم المخالفين وتخوين المناوئين، ثم يترجم في ساحة العمل بعد ذلك إلى تقاتل بالسلاح، وسفك لدماء الأبرياء، حالما تسمح ظروف البلد بذلك.
وما جرى في أفغانستان، ويجري حاليا في العراق والصومال، يمكن أن نراه في أماكن كثيرة لو وجد الظروف السياسية المواتية، أعني لو ضعفت سلطة الدولة.انحرافات خطيرة تسلّلت إلى جسم الصّحوة الإسلامية، وفتكت به، وتنتظر اللحظة المناسبة لتنطلق شرارة الفتنة، وينزف الدّم البريء، ويرقص الشيطان في ساحاتنا محاطا بأمراء الحرب.
إنّ واقع الساحة الإسلامية يعبّر اليوم بالتّصريح لا بالتلميح عن هذه الحقيقة، ويؤكّد أن هذه المخاوف حقيقية، وأنّها في الغالب أصل العلاقات بين الإسلاميين وليست استثناء. تستوي في ذلك العلاقات بين الجماعات فيما بينها، والعلاقات بين الجماعات والأفراد.وإذا كانت العلاقات المتوتّرة بين الجماعات المختلفة في البلد الواحد أمرا معلوما لا يحتاج إلى تدليل، فإنّ عددا غير قليل من الذين خرجوا عن تنظيماتهم الإسلامية، سواء لاختلافهم عن قياداتها في بعض المواقف والقضايا، أو لاختيارهم الإبتعاد عن النّشاط السياسي، لسبب أو لآخر، أو اختاروا منذ البداية تجنّب العمل مع الحركات والأحزاب الإسلامية، حوربوا بشراسة، ووجّهت لهم مختلف التّهم وأقذرها، باسم الدفاع عن الإسلام وحماية بيضته.
ومضى آخرون إلى الكيد لهم، ومضايقتهم في عيشهم، ومصادرة أرزاقهم، والإنتقاص من قدراتهم، وقطعهم عن أصدقائهم، وتجريم زيارتهم، بل حتّى تعزيتهم في موت ذويهم. وقد سمعت ورأيت في ذلك العجائب. وكان الأولى بأبناء الحركات والأحزاب الإسلامية أن يحترموا لهؤلاء آراءهم وخياراتهم. والأخطر من كلّ ذلك، أنّ هؤلاء الذين يتحاورون في ساحة الواقع بما أسلفت، يملأون أدبياتهم بالحديث عن واجب التّسامح بين الناس، والتراحم بين المؤمنين، وضرورة الإلتزام بحدود الأدب الإسلامي في الخلاف. لكنّه خطاب نظري سرعان ما يختفي في ساحة الواقع، بتفسيرات مختلفة تجتمع في تبريره.
لنذهب إلى أنّ الخلاف في الرأي أو الخروج عن تلك الحركة أو الحزب كان بداعي الخوف والجبن، فهل الخوف يخرج صاحبه عن الدين ويبيح لمن خرج عنهم إعلان الحرب عليه؟ لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن المسلم هل يكون جبانا؟ قال نعم. قيل: وهل يكون كذابا؟ قال لا.والملفت في هذه الخلافات، أنّ أشدها تأثيرا في العلاقات، وأكثرها إثارة للخصومات، هو الخلاف في المواقف السياسية، وليس في القضايا العقائدية والدينية، فلماذا اللّجوء إلى عناوين إسلامية للتّشهير بالخصم، أو المخالف في الرّأي، في قضايا سياسية تتّسع فيها مصلحة الدّين ومقاصده لاجتهادات عديدة؟ أليس ذلك توظيفا مشينا وغير مشروع للدّين، للتّغطية على ضعف الموقف وتهافت الحجّة.
في مؤتمر عقدته وزارة الأوقاف المغربية حول قضية الصّحراء الغربية في صائفة 1994، وقف الشيخ الدكتور عبد السلام الهراس، أحد رموز الصحوة الإسلامية في المغرب على منصّة المؤتمر، وأقسم بالله ثلاثا أنّ الذين يدعون إلى انفصال الصحراء عن المغرب قد خلعوا عن أنفسهم بهذه الدّعوة الإنفصالية ربقة الإسلام من أعناقهم، لأنّهم بذلك تنكّروا لوطنهم وأضعفوه، ومزّقوا أمّة الإسلام وزرعوا فيها الفتنة، واصطفّوا مع أعداء الأمة، سواء وعوا بذلك أم لم يعوا.
تذكّرت وأنا أستمع إليه، الضّجّة التي أثارتها عودة بضعة عناصر من جماعة الإخوان المسلمين السورية إلى بلادهم، بعد سنوات من الإقامة الإضطرارية في المهجر، مخالفين بذلك موقف قيادة الجماعة، عندما سوّوا وضعياتهم الفردية مع سلطات بلادهم. فقد وجّه إليهم بعض إخوانهم سيلا من التّهم، تبدأ بالجبن والتخلّي عن نصرة دعوة الإسلام، وتصل إلى حدّ الإتّهام بالعمالة "للنّظام الكافر والإرتماء في أحضانه". ولم يتردّد بعضهم في إظهار الشّماتة فيمن تعرّض من هؤلاء لمضايقات بعد العودة.
هذه الضّجّة تكرّرت بصيغة تونسية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، عندما عاد بعض الأفراد السابقين من عناصر حركة "النّهضة" إلى أسرهم في تونس. وقد هجاهم أحد شعراء الحركة بقصيد مازال مثبتا في موقع الحركة الإلكتروني، يحمل عنوان "لهم ذلّة الإنحناء" جاء فيه:
- لكم أن تؤدوا طقوس الخضوع
- حدّ الإنحناء
- ولكم أن تجعلوا من جلودكم للحاكمين حذاء
- ثمنا لبقايا لقاء"
- إلى أن يقول:
- لكم أن تسبّحوا لفرعونكم
- وأن تسكبوا ماء وجوهكم في رجاء
- وأن تعلنوا له الطّاعة
- وأن تعلنوا التوبة والبراء".
إنّها مفارقة عجيبة في تناقض المواقف من أنظمة الحكم، من تكفير من يتمرّد على السّلطة، إلى من يعتبر الحصول على جواز سفر والعودة إلى الوطن عمالة لنظام كافر، وتسبيحا لفرعون !
لو وضع هؤلاء خلافاتهم في باب الخلاف الفكري أو السياسي، لهان الأمر ويسر علاجه وقلّت خسائره، ولكنهم يحوّلونه إلى معركة دينية عقائدية، والدين والعقيدة فيها براء. إنّه عين الإنحراف عن مبادئ الإسلام وقيم التعايش، ولكنّهم يلبسونه لباس التّقوى، ويدثّرونه بطقوس التقديس الذي لا أساس له، ويذهب بهم الرّأي إلى حدّ تصوير الخلاف معهم، والخروج عن الجماعة أو الحزب، خطر عظيم على الإسلام، وطعن لمشروعه، واصطفاف في معسكر الكفر.
أذكر جيّدا في التسعينيات من القرن الماضي موقفين آخرين متناقضين لاثنين من الحركات الإسلامية، شاهدتهما في نفس السّهرة، لا تفصل بين بثّهما إلاّ بضع دقائق. الأوّل بثّته القناة الكويتية للرجل الأوّل في جمعية الإصلاح الإجتماعي الكويتية رحمه الله (التي ينشط من خلالها الإخوان المسلمون هناك)، والتي أكّد فيها أنّ الإسلام يمنع على المرأة العمل السياسي والتصويت في الإنتخابات، وأنّ الجمعية تعتبر الطعن في هذا الموقف تعديا على الإسلام، والثاني شاهدته في نفس السّهرة في التلفزيون الأردني لقياديين اثنين من جبهة العمل الإسلامي(إخوان مسلمون أيضا)، أحدهما امرأة، أحسب أنّها عضو في مجلس شورى الجماعة، يؤكدان فيه تكريم الإسلام للمرأة ومنحها حقوقها كاملة غير منقوصة، بما فيها حق التصويت، والترشح لمختلف المناصب السياسية. عجبت وقتها لهذا التطويع المعيب لرسالة الإسلام، لاجتهادات بشرية تخطئ وتصيب، ولجماعة محترمة تتخذ الموقف ونقيضه في ذات الوقت.لقد سقط كثير من الإسلاميين في الخلط بين الموقف الديني العقدي، والموقف السياسي الإجتهادي، فنزّلوا اجتهاداتهم السياسية منزلة عقيدتهم الدينية، وكأنّ حرصهم واجتهادهم في نصرة الإسلام والتمكين له، ينزّل وسائلهم في ابتغاء ذلك منزلة العقيدة نفسها. ونسي هؤلاء، أنّ مواقفهم تلك، ليست سوى اجتهادات في واقع يتّسع لاجتهادات أخرى كثيرة، وأنّ مصلحة الإسلام أكبر من أن تنحصر في رأي زعيم، أو موقف حركة أو حزب.
لقد أصبح النقد الذاتي للإسلاميين اليوم ضرورة لا مناص منها، وواجبا لا مبرّر للتكاسل عنه. فثقلهم في الحياة السياسية وتأثيرهم فيها، ولو من باب المفعول به، يجعل هذا النقد شرطا أساسيا من شروط الإصلاح في أي بلد إسلامي، وفي هذه الأمة.وهو قبل ذلك شرط ديني نطقت به نصوص الدين المعلومة التي لا تخضع لإجتهاد، ومارسه رسل الله وأنبياءه، وجميع من شهد لهم خالقهم بالصلاح وحسن المسعى.
لقد حدّثنا القرآن الكريم عن خطيئة آدم، وعقاب الله له، وعن خطيئة موسى وأخطاء خاتم رسله وخير خلقه وشفيعهم، محمد صلى الله عليه وسلّم، وجعل تلاوة تلك النّصوص عبادة يتقرّب بها العبد إلى ربّه. فهل أصبحت الحركات الإسلامية، وقادتها، أفضل من رسول الله؟
كانت للصّحابة الكرام، والرسول صلى الله عليه وسلّم معهم، سقطات وأخطاء، تناولها القرآن بشكل واضح لا لبس فيه، فحدّثنا عن فرارهم في غزوة أحد (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). وعن إعجابهم بأنفسهم يوم حنين (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (التوبة:25 .فهل للإسلاميين اليوم حنين وأحد، أم إنّهم معصومون مما وقع فيه صحابة رسول الله من أخطاء؟ومن حِـكَم الله سبحانه، أنّ آيات القرآن الكريم التي نزلت تنبّه الرسول وصحابته البررة إلى أخطائهم، وتعاتبهم عليها، وتقصّ عليهم أخبار أخطاء من سبقهم من الأنبياء والصالحين، هي آيات مكية، نزلت والرسول محاصر من كفّار قريش في مكّة، يكذّبون رسالته، وينكرون نبوّته، ويحاربون دعوته. نزلت والرسول الكريم وصحبه في أشدّ الحاجة إلى النصرة والتأييد، فقضى الله سبحانه، أن يكون ذكر أخطائهم وعتابهم عليها، بابا من أبواب نصرتهم وتثبيتهم على الحق، لأنّ الحق المطلق لا يكون إلاّ لله وحده. فمتى تعي الحركات الإسلامية هذه الحقيقة، وتعترف للنّاس، كلّ الناس، بما ارتكبته من أخطاء، مثلما جاء الخطاب الرباني متاحة قراءته والإطلاع عليه لكل الناس، يستوي في ذلك المؤمنون به، وخصومهم.
كان يمكن تنبيه الرسول الكريم وصحابته إلى تلك الأخطاء، دون أن يتضمّنها النّص القرآني، فلماذا تضمّنها القرآن المكي، وليس حتّى المدني؟ لم تحدّثنا نصوص السنة أو السيرة النبويتين، عن تردّد أو تلكؤ أو خشية أبداها الرسول الكريم، أو واحد من صحبه، في إفشاء تلك الآيات، وفي الحديث بتلك الأخطاء؟ فهل الحركات الإسلامية اليوم ألصق بحركة الإسلام ورسالته من دعوة النبي؟ وهل مواقف وسلوك قادة هذه الحركات أصوب من مواقف وسلوك النبي محمد وصحابته؟ أم هي أمراض وانحرافات تفتك بالجسد الإسلامي، وتنخر جهود المسلمين، بتعلاّت لا أصل لها في الدين، ولا مبرّر لها في السلوك والتفكير السويين، ليبقى الإسلاميون محرومين من معالجة أخطائهم وتصويب مساراتهم. تمضي السنوات بل العقود، وهم يرفعون نفس الموانع، لتجريم النّقد، في انتظار الوقت المناسب ! والأدهى من كلّ ذلك، أنّ هذا الوقت المناسب الذي يقصدون، لن يأتي إلاّ بعد فوات الأوان.
انظر فيما قاله المفسّرون في سورة "عبس" أو غيرها من السياقات القرآنية الكثيرة، التي تتناول أخطاء الأنبياء والصّالحين.
جاء في تفسير "فتح القدير" للشوكاني سورة عبس، أنّ هذه السورة موعظة للنبي صلى الله عليه وسلم: حقها أن تتعظ بها، وتقبلها وتعمل بموجبها، ويعمل بها كل أمتك، وأنّها مكرمة عند الله لما فيها من العلم والحكمة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ، وقيل: المراد بالصحف: كتب الأنبياء. ومثل هذه الآية قوله في سورة الأنعام:{ وَلاَ تَطْرُدِ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ } وكذلك قوله في سورة الكهف:{ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا }.
وجاء في "مدارك التنزيل وحقائق التأويل" للنسفي، أنه صلى الله عليه وسلّم ما عبس بعد هذه السورة في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني.
وجاء في الظّلال، في تفسير هذه السّورة "هذا هو الميزان. ميزان الله. الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات، ويقدر به الناس والأوضاع.. وهذه هي الكلمة. كلمة الله. الكلمة التي ينتهي إليها كل قول، وكل حكم، وكل فصل.
وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة، والدعوة مطاردة، والمسلمون قلة. والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية؛ والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي. إنما هي الدعوة أولاً وأخيراً. ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان، وإنما هي هذه القيم، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر. فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم..ثم إن الأمر ـ كما تقدم ـ أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد، ومن موضوعه المباشر. إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية".
* صحفي تونسي مقيم في باريس، وباحث في قضايا الحركات الإسلامية.
فقد جاءه أحدهم وقال له إنّ امتناعه عن بيع تلك المجلّة، أو بالأحرى ذلك المنشور، جريمة في حقّ الإسلام، وخذلان لحملة رايته، وأنّ القصاص منه لا يكلّف سوى رصاصة واحدة بمبلغ زهيد، تضع حدّا لحياته، ونهاية لمكتبته تلك.روى لي هذه الواقعة صاحب مكتبة إسلامية في إحدى العواصم الأوربية، منتصف التسعينيات. وقال لي يومها إنّ مخاطبه كان جادا فيما قال له، الأمر الذي جعل محدّثي يعيش أيّام رعب رهيبة، لم يتصوّر يوما أن تأتيه من مسلم يقول إنّه يعمل للإسلام ورفع رايته.
وحدّثني أكاديمي ورئيس جمعية إسلامية نشطة في منطقة بني ميزاب بالجنوب الجزائري، عمّا عاشته مدينة غرداية الآمنة من أحداث عنف عقب الإنتخابات المحلية عام 1990، أحرقت فيها المتاجر، واعتدي فيها على الممتلكات، وعنّف فيها بعض أهل المدينة الأباضيون المحافظون، لأنّ قائمة جبهة الإنقاذ في تلك الإنتخابات فشلت أمام قائمة الأباضيين.
ومازلت أذكر ما حدّثني به بعض قياديي الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية أواسط سنة 1991، من بينهم مؤسّسون، من انحرافات تنخر قيادتها، قبل أن تحصل الكارثة، وما كان يمارس عليه من ضغوط بطرق شتّى، من أجل أن تتّفق المواقف "لإقامة الدولة الإسلامية".
فقد صوّر هؤلاء أنّ إقامتها متوقّفة على اجتماع كلمة قيادة الجبهة. وعندما أصدر مجلس شورى الجبهة بيانا يلزم فيه القيادة برأي أغلبية أعضائه، وأنّ أيّ قرار لا توافق عليه أغلبية الأعضاء، يعتبر لاغيا، قرّر الشيخ عباسي مدني مصادرة عدد جريدة "المنقذ" (لسان الجبهة الإسلامية للإنقاذ) الذي نشر ذلك البيان، ومنعه من التوزيع، بعد أن تمّت طباعته. فكانت أوّل مصادرة للجريدة، على يد الرجل الأول في الحزب، قبل أن تصادرها السلطات الحاكمة بأشهر.
لقد حرص عدد من قادة الجبهة ومؤسّسيها يومئذ، أن يلزموا الشيخ مدني برأي الأغلبية، بعد أن باغتهم في ندوة صحفية لم يخبرهم بمحتواها، أعلن فيها عن قرار الإضراب العام، والعصيان المدني، الذي سمع به إخوانه في قيادة الجبهة من وسائل الإعلام، مثل غيرهم من الجزائريين، وبدأ بعده العدّ العكسي لاستقرار الجزائر ووحدة الجبهة.
بل إنّني لا أنسى ما حدّثني به أحد أقارب الشهيد محمد السليماني، نائب الشيخ محفوظ نحناح والرجل الثاني في حركة مجتمع السّلم بالجزائر، عندما دعوته في حديث لي معه، إلى عدم التسرّع في اتهام الجماعة الإسلامية بذبح الشهيد بعد اختطافه، وأنّ التهمة خطيرة توجب التّحري في مرتكبها، خصوصا وأنّ الأوضاع الأمنية للبلاد تسمح بأكثر من احتمال. فقال لي: لقد حاولنا ذلك بما استطعنا، ولكنّ الذين اختطفوه من بيته بعد صلاة الصّبح، ثم وضعوه عندهم رهينة يطالبونه بموقف يؤيّد ما يفعلون، وعندما يئسوا من مساندته لهم، نحروه من الوريد إلى الوريد.
هؤلاء لم يخفوا فعلتهم، بل جاءونا وقالوا لنا متبجّحين إنّهم هم الذين فعلوا ذلك، وحدّثوا الناس بتفاصيل جريمتهم، بشكل لا يترك مجالا للشك فيما قالوا.هذه بعض الأحداث المأساوية التي وقع فيها إسلاميون لا يشكّ أحد في صدق نواياهم، ونبل أهدافهم في خدمة الإسلام ورفع رايته، وإقامة شعائره، ولكنّهم أخطأوا الطّريق في تنزيل ذلك، واتّخذوا وسائل يحرّمها الدين بإجماع أهل العلم.
لا أهدف من سياق ما ذكرت، وما سأذكر، إلى التّشكيك في الدّور الإيجابي للصّحوة الإسلامية والحركات والأحزاب التي تمخّضت عنها، ولا الطّعن في صدق نوايا رجالاتها وشبابها، ولا تبرير ما فعله ويخطّط له خصومها، ولا التّهوين ممّا أصابها من بلاء ومحن، فهذه مسائل معلومة للقاصي والدّاني. ولكن الذي يهمّني هنا، هو التّنبيه إلى الإنحرافات التي اخترقت العمل الإسلامي، حتّى كادت تخرج الكثير من أنشطته عن أهدافه، وتطمس معالمه، وتُذهِب ريحه. وقد كتب كثيرون عن المظالم التي تعرّض لها، والمكائد التي نصبت له، ولكنّ الأصوات التي تعرّضت لأخطائه، بل الإنحرافات التي اخترقته، بقيت خافتة، تتكلّم باستحياء، وتؤثر الصّمت في قضايا كثيرة.
وهل يجوز الصّمت عن تجاوزات استباحت أعراض المسلمين وأموالهم ودماءهم؟ فالنّصوص الشرعية لم تترك مجالا للفتوى والإجتهاد في تغليظ حرمة دم المسلم وماله وعرضه. وإذا أجاز بعض الإسلاميين لأنفسهم فعل ذلك في إسلاميين مثلهم، ربما شاركوهم في فترة من الزّمن أفكارهم وأنشطتهم، فكيف يا ترى كان نصيب غيرهم ممن لا علاقة لهم بالعمل الإسلامي، وإن كانوا يشهدون لله بالوحدانية، وللنبي محمد بالرسالة، وللإسلام بأنّه رسالة الله لخلقه؟
لقد قتل كثير ممن عرفتُ من الجزائريين في تلك الحرب الكافرة، كان قادة الجماعات الإسلامية المسلّحة يزفّون أخبار قتل الكثيرين منهم، الواحد تلو الآخر، إلى أنصارهم، وفي منشوراتهم، معتبرين كلّ قطرة دم تسيلها أسلحتهم وسكاكينهم، خطوة تقرّب قيام الدولة الإسلامية!
ولعلّ قصّة استشهاد الشيخ محمد السعيد رحمه الله، تغني عن كل وصف آخر. فهو أحد قادة الجبهة الإسلامية الذين التحقوا بها قبيل الحملة عليها، وزعيم تيار البديل الحضاري (جماعة الجزأرة كما يسمون في الجزائر). التحق بالمقاتلين في جبال الشريعة، ولكنه لاختلافه معهم في بعض القضايا، وبينما كان يتوضّأ استعدادا لأداء صلاة العصر، أصدر أحد الأمراء أمرا لأحد حرّاسه بصبّ رصاص سلاحه في رأس الشيخ. وفي لمح البصر انطلق الرّصاص، فتطاير دماغ الرجل واختلط بالماء الذي كان يتوضّأ به. ثم انطلقت رصاصات مماثلة إلى رأس عبد الرزاق رجام، الذي كان يتوضّأ هو الآخر قريبا منه، فتناثر دماغه على جذع الشجرة التي كان يستند إليها، ثم جرّت جثّتاهما ورميتا في حفرة بين أشجار الصنوبر، كانت قد أعدّت لذلك. وتقدّم الأمير بعد ذلك ليؤمّ البقية في صلاة العصر، بعد أن منع الصّلاة على جثّتي الرّجلين، لأنّهما ممن لا تجوز الصلاة عليهما.
لست أدري بماذا يبرّر من ساند تلك الجماعات بالدعم المادي والمعنوي، فعلهم ذاك؟ وبماذا تراهم يجيبون ربّهم يوم القيامة، عندما يسألهم بأيّ ذنب قتلت تلك الآلاف من الأبرياء؟ وكيف يشرحون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي يقول فيه "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حقّ". وقوله أيضا "من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله".
لا أحد يشكّ في شعبية الجبهة الإسلامية للإنقاذ عندما تقدّمت للنّشاط السياسي، ولا في صدق قيادتها في خدمة الإسلام وأمّته، بدءا بالجزائر، ولكن متى شرع هذا الدين نصرته ورفع رايته على جثث الأبرياء؟ ألم نقرأ في محكم القرآن قوله تعالى "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً" المائدة 32.إنّه انحراف خطير مضى فيه بعض الإسلاميين، عندما أباحوا لأنفسهم ما حرّمه الإسلام، لإقامة دولة الإسلام حسب رأيهم، ونسوا أنّ دين الله لا تقوم دولته، ولا تحيى شعائره، إلاّ بما أباح الله وشرعه.
أصل الدّاء
إنّ الانحراف في السّلوك، ليس سوى نتيجة طبيعية لانحراف في الرّأي والتفكير، فإذا لم تقع معالجته بكامل الحزم والجدية منذ البداية، تأصّل الداء وتمدّد في باقي الجسم، ليعمّ جميع أجزائه، ثم يفيض بعد ذلك فيتحوّل إلى قناعة راسخة، ويفضي إلى سلوك متّبع. ولقد كان الإنحراف في الرّأي والمواقف جليا في تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية، منذ الفترة الأولى لنشاطها، ولكن أنصار المشروع الإسلامي زهدوا في التقويم والنقد، وغرّهم بريق شعبيتها (وبالأحرى شعبويتها)، وتعطّشهم إلى دولة تروي ظمأهم، وتوقف مسلسل المظالم التي تعرّضوا لها، فاجتهدوا في مناصرتها بكل ما يستطيعون.
أمّا الذين أدركوا مَخاطِر تلك المُخاطَرة من أبناء الصّحوة من الجزائريين، فلم يسمع لهم أحد، بل ألصقت بكثير منهم تهم الجبن، والحسابات الشخصية والضيقة، وقصر النّظر، وموالاة الحكام، وحتى خيانة المشروع الإسلامي.
لا يشكّ منصف أنّ من أهمّ ما يدفع الإسلاميين إلى تبرير أخطاء بعضهم، والتمنّع عن الإعتراف بها، أو حتّى الحديث عنها والتلميح إليها، هذه الحرب الشرسة المعلنة والخفية ضدّهم. وهي حرب لا ترحم، ولا تلين، ولا تهدأ، تستعمل فيها مختلف الوسائل والأساليب للقضاء عليهم، وتدمير كيانهم. هي حرب قذرة، وطويلة، وعاتية، تخوضها ضدّهم قوى عالمية عاتية ومتمكّنة، ولكن ذلك لا يشفع لهم اتّهام من يخالفهم وينبّه إلى أخطائهم ويحاسبهم عليها، بأنّهم أعداء للإسلام ومحاربون له. كما أنّ ذلك لا يمنع من المحاسبة والنقد، لأنّ مخاطر التخفي عن الإنحراف، انحراف عن الدين ذاته.الحديث مجدّدا عن الجزائر مهم، لأنّ نفس التجربة تتكرّر في بلاد كثيرة، ولكن لكل بلد خصوصيته وتفاصيل الحياة فيه.انحراف في الرأي والموقف، يتطوّر إلى تجريم المخالفين وتخوين المناوئين، ثم يترجم في ساحة العمل بعد ذلك إلى تقاتل بالسلاح، وسفك لدماء الأبرياء، حالما تسمح ظروف البلد بذلك.
وما جرى في أفغانستان، ويجري حاليا في العراق والصومال، يمكن أن نراه في أماكن كثيرة لو وجد الظروف السياسية المواتية، أعني لو ضعفت سلطة الدولة.انحرافات خطيرة تسلّلت إلى جسم الصّحوة الإسلامية، وفتكت به، وتنتظر اللحظة المناسبة لتنطلق شرارة الفتنة، وينزف الدّم البريء، ويرقص الشيطان في ساحاتنا محاطا بأمراء الحرب.
إنّ واقع الساحة الإسلامية يعبّر اليوم بالتّصريح لا بالتلميح عن هذه الحقيقة، ويؤكّد أن هذه المخاوف حقيقية، وأنّها في الغالب أصل العلاقات بين الإسلاميين وليست استثناء. تستوي في ذلك العلاقات بين الجماعات فيما بينها، والعلاقات بين الجماعات والأفراد.وإذا كانت العلاقات المتوتّرة بين الجماعات المختلفة في البلد الواحد أمرا معلوما لا يحتاج إلى تدليل، فإنّ عددا غير قليل من الذين خرجوا عن تنظيماتهم الإسلامية، سواء لاختلافهم عن قياداتها في بعض المواقف والقضايا، أو لاختيارهم الإبتعاد عن النّشاط السياسي، لسبب أو لآخر، أو اختاروا منذ البداية تجنّب العمل مع الحركات والأحزاب الإسلامية، حوربوا بشراسة، ووجّهت لهم مختلف التّهم وأقذرها، باسم الدفاع عن الإسلام وحماية بيضته.
ومضى آخرون إلى الكيد لهم، ومضايقتهم في عيشهم، ومصادرة أرزاقهم، والإنتقاص من قدراتهم، وقطعهم عن أصدقائهم، وتجريم زيارتهم، بل حتّى تعزيتهم في موت ذويهم. وقد سمعت ورأيت في ذلك العجائب. وكان الأولى بأبناء الحركات والأحزاب الإسلامية أن يحترموا لهؤلاء آراءهم وخياراتهم. والأخطر من كلّ ذلك، أنّ هؤلاء الذين يتحاورون في ساحة الواقع بما أسلفت، يملأون أدبياتهم بالحديث عن واجب التّسامح بين الناس، والتراحم بين المؤمنين، وضرورة الإلتزام بحدود الأدب الإسلامي في الخلاف. لكنّه خطاب نظري سرعان ما يختفي في ساحة الواقع، بتفسيرات مختلفة تجتمع في تبريره.
لنذهب إلى أنّ الخلاف في الرأي أو الخروج عن تلك الحركة أو الحزب كان بداعي الخوف والجبن، فهل الخوف يخرج صاحبه عن الدين ويبيح لمن خرج عنهم إعلان الحرب عليه؟ لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن المسلم هل يكون جبانا؟ قال نعم. قيل: وهل يكون كذابا؟ قال لا.والملفت في هذه الخلافات، أنّ أشدها تأثيرا في العلاقات، وأكثرها إثارة للخصومات، هو الخلاف في المواقف السياسية، وليس في القضايا العقائدية والدينية، فلماذا اللّجوء إلى عناوين إسلامية للتّشهير بالخصم، أو المخالف في الرّأي، في قضايا سياسية تتّسع فيها مصلحة الدّين ومقاصده لاجتهادات عديدة؟ أليس ذلك توظيفا مشينا وغير مشروع للدّين، للتّغطية على ضعف الموقف وتهافت الحجّة.
في مؤتمر عقدته وزارة الأوقاف المغربية حول قضية الصّحراء الغربية في صائفة 1994، وقف الشيخ الدكتور عبد السلام الهراس، أحد رموز الصحوة الإسلامية في المغرب على منصّة المؤتمر، وأقسم بالله ثلاثا أنّ الذين يدعون إلى انفصال الصحراء عن المغرب قد خلعوا عن أنفسهم بهذه الدّعوة الإنفصالية ربقة الإسلام من أعناقهم، لأنّهم بذلك تنكّروا لوطنهم وأضعفوه، ومزّقوا أمّة الإسلام وزرعوا فيها الفتنة، واصطفّوا مع أعداء الأمة، سواء وعوا بذلك أم لم يعوا.
تذكّرت وأنا أستمع إليه، الضّجّة التي أثارتها عودة بضعة عناصر من جماعة الإخوان المسلمين السورية إلى بلادهم، بعد سنوات من الإقامة الإضطرارية في المهجر، مخالفين بذلك موقف قيادة الجماعة، عندما سوّوا وضعياتهم الفردية مع سلطات بلادهم. فقد وجّه إليهم بعض إخوانهم سيلا من التّهم، تبدأ بالجبن والتخلّي عن نصرة دعوة الإسلام، وتصل إلى حدّ الإتّهام بالعمالة "للنّظام الكافر والإرتماء في أحضانه". ولم يتردّد بعضهم في إظهار الشّماتة فيمن تعرّض من هؤلاء لمضايقات بعد العودة.
هذه الضّجّة تكرّرت بصيغة تونسية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، عندما عاد بعض الأفراد السابقين من عناصر حركة "النّهضة" إلى أسرهم في تونس. وقد هجاهم أحد شعراء الحركة بقصيد مازال مثبتا في موقع الحركة الإلكتروني، يحمل عنوان "لهم ذلّة الإنحناء" جاء فيه:
- لكم أن تؤدوا طقوس الخضوع
- حدّ الإنحناء
- ولكم أن تجعلوا من جلودكم للحاكمين حذاء
- ثمنا لبقايا لقاء"
- إلى أن يقول:
- لكم أن تسبّحوا لفرعونكم
- وأن تسكبوا ماء وجوهكم في رجاء
- وأن تعلنوا له الطّاعة
- وأن تعلنوا التوبة والبراء".
إنّها مفارقة عجيبة في تناقض المواقف من أنظمة الحكم، من تكفير من يتمرّد على السّلطة، إلى من يعتبر الحصول على جواز سفر والعودة إلى الوطن عمالة لنظام كافر، وتسبيحا لفرعون !
لو وضع هؤلاء خلافاتهم في باب الخلاف الفكري أو السياسي، لهان الأمر ويسر علاجه وقلّت خسائره، ولكنهم يحوّلونه إلى معركة دينية عقائدية، والدين والعقيدة فيها براء. إنّه عين الإنحراف عن مبادئ الإسلام وقيم التعايش، ولكنّهم يلبسونه لباس التّقوى، ويدثّرونه بطقوس التقديس الذي لا أساس له، ويذهب بهم الرّأي إلى حدّ تصوير الخلاف معهم، والخروج عن الجماعة أو الحزب، خطر عظيم على الإسلام، وطعن لمشروعه، واصطفاف في معسكر الكفر.
أذكر جيّدا في التسعينيات من القرن الماضي موقفين آخرين متناقضين لاثنين من الحركات الإسلامية، شاهدتهما في نفس السّهرة، لا تفصل بين بثّهما إلاّ بضع دقائق. الأوّل بثّته القناة الكويتية للرجل الأوّل في جمعية الإصلاح الإجتماعي الكويتية رحمه الله (التي ينشط من خلالها الإخوان المسلمون هناك)، والتي أكّد فيها أنّ الإسلام يمنع على المرأة العمل السياسي والتصويت في الإنتخابات، وأنّ الجمعية تعتبر الطعن في هذا الموقف تعديا على الإسلام، والثاني شاهدته في نفس السّهرة في التلفزيون الأردني لقياديين اثنين من جبهة العمل الإسلامي(إخوان مسلمون أيضا)، أحدهما امرأة، أحسب أنّها عضو في مجلس شورى الجماعة، يؤكدان فيه تكريم الإسلام للمرأة ومنحها حقوقها كاملة غير منقوصة، بما فيها حق التصويت، والترشح لمختلف المناصب السياسية. عجبت وقتها لهذا التطويع المعيب لرسالة الإسلام، لاجتهادات بشرية تخطئ وتصيب، ولجماعة محترمة تتخذ الموقف ونقيضه في ذات الوقت.لقد سقط كثير من الإسلاميين في الخلط بين الموقف الديني العقدي، والموقف السياسي الإجتهادي، فنزّلوا اجتهاداتهم السياسية منزلة عقيدتهم الدينية، وكأنّ حرصهم واجتهادهم في نصرة الإسلام والتمكين له، ينزّل وسائلهم في ابتغاء ذلك منزلة العقيدة نفسها. ونسي هؤلاء، أنّ مواقفهم تلك، ليست سوى اجتهادات في واقع يتّسع لاجتهادات أخرى كثيرة، وأنّ مصلحة الإسلام أكبر من أن تنحصر في رأي زعيم، أو موقف حركة أو حزب.
لقد أصبح النقد الذاتي للإسلاميين اليوم ضرورة لا مناص منها، وواجبا لا مبرّر للتكاسل عنه. فثقلهم في الحياة السياسية وتأثيرهم فيها، ولو من باب المفعول به، يجعل هذا النقد شرطا أساسيا من شروط الإصلاح في أي بلد إسلامي، وفي هذه الأمة.وهو قبل ذلك شرط ديني نطقت به نصوص الدين المعلومة التي لا تخضع لإجتهاد، ومارسه رسل الله وأنبياءه، وجميع من شهد لهم خالقهم بالصلاح وحسن المسعى.
لقد حدّثنا القرآن الكريم عن خطيئة آدم، وعقاب الله له، وعن خطيئة موسى وأخطاء خاتم رسله وخير خلقه وشفيعهم، محمد صلى الله عليه وسلّم، وجعل تلاوة تلك النّصوص عبادة يتقرّب بها العبد إلى ربّه. فهل أصبحت الحركات الإسلامية، وقادتها، أفضل من رسول الله؟
كانت للصّحابة الكرام، والرسول صلى الله عليه وسلّم معهم، سقطات وأخطاء، تناولها القرآن بشكل واضح لا لبس فيه، فحدّثنا عن فرارهم في غزوة أحد (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). وعن إعجابهم بأنفسهم يوم حنين (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (التوبة:25 .فهل للإسلاميين اليوم حنين وأحد، أم إنّهم معصومون مما وقع فيه صحابة رسول الله من أخطاء؟ومن حِـكَم الله سبحانه، أنّ آيات القرآن الكريم التي نزلت تنبّه الرسول وصحابته البررة إلى أخطائهم، وتعاتبهم عليها، وتقصّ عليهم أخبار أخطاء من سبقهم من الأنبياء والصالحين، هي آيات مكية، نزلت والرسول محاصر من كفّار قريش في مكّة، يكذّبون رسالته، وينكرون نبوّته، ويحاربون دعوته. نزلت والرسول الكريم وصحبه في أشدّ الحاجة إلى النصرة والتأييد، فقضى الله سبحانه، أن يكون ذكر أخطائهم وعتابهم عليها، بابا من أبواب نصرتهم وتثبيتهم على الحق، لأنّ الحق المطلق لا يكون إلاّ لله وحده. فمتى تعي الحركات الإسلامية هذه الحقيقة، وتعترف للنّاس، كلّ الناس، بما ارتكبته من أخطاء، مثلما جاء الخطاب الرباني متاحة قراءته والإطلاع عليه لكل الناس، يستوي في ذلك المؤمنون به، وخصومهم.
كان يمكن تنبيه الرسول الكريم وصحابته إلى تلك الأخطاء، دون أن يتضمّنها النّص القرآني، فلماذا تضمّنها القرآن المكي، وليس حتّى المدني؟ لم تحدّثنا نصوص السنة أو السيرة النبويتين، عن تردّد أو تلكؤ أو خشية أبداها الرسول الكريم، أو واحد من صحبه، في إفشاء تلك الآيات، وفي الحديث بتلك الأخطاء؟ فهل الحركات الإسلامية اليوم ألصق بحركة الإسلام ورسالته من دعوة النبي؟ وهل مواقف وسلوك قادة هذه الحركات أصوب من مواقف وسلوك النبي محمد وصحابته؟ أم هي أمراض وانحرافات تفتك بالجسد الإسلامي، وتنخر جهود المسلمين، بتعلاّت لا أصل لها في الدين، ولا مبرّر لها في السلوك والتفكير السويين، ليبقى الإسلاميون محرومين من معالجة أخطائهم وتصويب مساراتهم. تمضي السنوات بل العقود، وهم يرفعون نفس الموانع، لتجريم النّقد، في انتظار الوقت المناسب ! والأدهى من كلّ ذلك، أنّ هذا الوقت المناسب الذي يقصدون، لن يأتي إلاّ بعد فوات الأوان.
انظر فيما قاله المفسّرون في سورة "عبس" أو غيرها من السياقات القرآنية الكثيرة، التي تتناول أخطاء الأنبياء والصّالحين.
جاء في تفسير "فتح القدير" للشوكاني سورة عبس، أنّ هذه السورة موعظة للنبي صلى الله عليه وسلم: حقها أن تتعظ بها، وتقبلها وتعمل بموجبها، ويعمل بها كل أمتك، وأنّها مكرمة عند الله لما فيها من العلم والحكمة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ، وقيل: المراد بالصحف: كتب الأنبياء. ومثل هذه الآية قوله في سورة الأنعام:{ وَلاَ تَطْرُدِ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ } وكذلك قوله في سورة الكهف:{ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا }.
وجاء في "مدارك التنزيل وحقائق التأويل" للنسفي، أنه صلى الله عليه وسلّم ما عبس بعد هذه السورة في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني.
وجاء في الظّلال، في تفسير هذه السّورة "هذا هو الميزان. ميزان الله. الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات، ويقدر به الناس والأوضاع.. وهذه هي الكلمة. كلمة الله. الكلمة التي ينتهي إليها كل قول، وكل حكم، وكل فصل.
وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة، والدعوة مطاردة، والمسلمون قلة. والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية؛ والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي. إنما هي الدعوة أولاً وأخيراً. ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان، وإنما هي هذه القيم، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر. فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم..ثم إن الأمر ـ كما تقدم ـ أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد، ومن موضوعه المباشر. إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية".
* صحفي تونسي مقيم في باريس، وباحث في قضايا الحركات الإسلامية.