زجُ الدين في أوحال السياسة

د. علي محمد فخرو

قضية الممارسات السياسية الخاطئة من قبل بعض رجال الدين الإسلامي أو بعض مؤسساته تنذر بأوخم العواقب للدين نفسه. فحتىُ المقدُس يمكن أن يلٍوثه من يدًعون المحافظة على قدسيته. والتاريخ الإنساني مليء بقصص الإستغلال الانتهازي لما هو في الأصل طاهر ونقي واستعماله بخبث في اثارة وتبرير الحروب وفي ترجيح كفًة هذا البهلوان أوذاك المستبد في الصًراعات السياسية. ولقد وصل الحال في الغرب المسيحي، عندما أقحمت الكنيسة نفسها في الصٍراعات السياسية وغدت خادمة لهذا الملك أو ذاك المعتوه، أن صرخ أحدهم، دنيس ديدور، بأننا بأمعاء آخر كاهن سنشنق آخر ملك.

من هنا لنتمعًن جيداً في العديد من الظواهر والممارسات التي شاهدنا هنا مؤخُراً في العديد من بلاد العرب والإسلام. فمنذ بضعة أيام أصدرت القيادة التوجيهية في الأزهر قراراُ بحق النظام الحاكم في بناء جدار الظلم والعار الذي سيكمل حلقة خنق وإذلال مليون ونصف من العرب الغزًّاويين الذين يواجهون العطش والجوع والمرض والسكن في العراء والبطالة المرعبة المصحوبة بالفقر وقلًّة الحيلة. وبهذا القرار الظالم اللاعقلاني وغير الأخلاقي والبعيد عن الإنسانية والأخوة العربية والإسلامية تقلب هذه المؤسسة الإسلامية العريقة، التي كانت إحدى منارات الجهاد والوطنية عبر ألف سنة، تقلب نفسها إلى أداة انتهازية في صراع سياسي تؤجٍّجه الإمبريالية الأمريكية والنازية الصهيونية من جهة واشكال من السلطات العربية الغبيًة الداخلية الصًامتة منها والمتكلمة من جهة ثانية. ومع الأسف فان نفس المؤسسة العريقة سمحت لنفسها من قبل في أن تكون أداة لتبرير اتفاقيات كامب ديفيد الشهيرة.

ويعجب الإنسان كيف يسمح الأزهر لمقامه الديني العتيد أن يتلوًّث وذلك بدخوله في قضايا سياسية، ليست وطنية ولاجهادية ولاغيريًّة على الدين، قضايا منقسمة الأمة من حولها إلى أبعد الحدود وقابلة للأخذ والردٍّ والقيل والقال. وفي هذه الحالة هل يظنُّ الأزهر بأن دخوله في برك الوحل لن يكون له تأثير على مكانة واحترام وقداسة وعدالة الدٍّين نفسه؟ هل يظن قادة الأزهر بأن الدين هو أمر مجرًّد لا دخل له بالواقع حتى يعتقدوا بأن مواقفهم السياسية، ونصُّر على أنها سياسية بحتة، والتي تعلن باسم الدين، والدين من كل تلك المواقف براء، بأن هذه المواقف لن تؤثٍّر في مشاعر الناس الدينية ولن توجد بلبلة في داخل العربي المسلم، بل وفي داخل العربي المسيحي؟

والأمر نفسه ينطبق على تصريح صدر من رجل دين سنُّي يصف فيه رجل دين شيعي بالزًّندقة. ويعلم الجميع أن هذه المشادًّات الكلامية لادخل لها بالدين من قريب أو بعيد، وأنها جزء من صراع سياسي عربي في السًّاحة العراقية. ومن قبله كاد رجل فقه آخر أن يدخل الامة في فتنة عندما دقُّ طبول الحرب بين المذهبين الإسلاميين السنٍّي والشيعي بسبب تشيٌّع نفر قليل من المسلمين، وهو العالم بأن ذلك ليس إلاُ جزءاً من سيرورة تاريخية تميًّزت دائماً بانتقال المسلمين من مذهب إلى مذهب ومن مدرسة فقهية إلى مدرسة فقهية أخرى، دون أن يخرجهم ذلك من دينهم ودون أن تهتزُّ رسالة اللٌه الإسلامية الرًّاسخة بقوة في أعماق عالمي العروبة والإسلام. أفهل ينطبق على المناكفات السنية - الشيعية، التي بصراحة أصبحت مبتذلة في كثير من الأحيان وخادمة طيٍّعة لمن يضمرون الشر لدين وثقافة الإسلام ومتناغمة مع الأذى الأمريك - الصهيوني، هل ستسمح أن ينطبق عليها ماقاله سيليٌس في القرن الثاني الميلادي حول المناكفات اليهودية - المسيحية من ان تلك تذكٍّره المناكفات بمجموعة من الخفافيش أو مجموعة من النٌّمل وهي تهرب من أعشاشها، أو مجموعة من الضفادع وهي تعقد مجلساً في مستنقع... وهي جميعها تختلف حول من منها أكثر إثماً من الآخر ؟ كلام قاسٍ من قبل ناقد متطرٍّف ؟ نعم، ولكن هناك دلائل بأن بعض المتزمٍّتين من فقهاء المسلمين ومن بعض مؤسسات الإسلام ينزلقون تدريجياُ في هذا الدرب الخطر الذي سيضرًّ بأعظم رسالة ثورية عرفها تاريخ الإنسان: رسالة الإسلام.

ان الوطن العربي يعيش الآن محنة صراعات سياسية وضياع فكري وايديولوجي يهمٍّش الهوية والروابط القومية ويحتقر الأخلاق ويرفض الالتزامات الإنسانية ويتشكًّك في القيم النبيلة ويحاول استعمال الدين الإسلامي السُّمح العادل الجامع المجادل بالتي هي أحسن لترسيخ فكر تسطيحي جديد عولمي مدمٍّر لتاريخ وثقافة أرض العرب والإسلام. من هنا آن الأوان أن يتوقف بعض رجال الفقه وتتوقف بعض مؤسسات الدين الإسلامي عن الزجًّ بدين الله في وحل معارك سياسية همجية يشعلها برابرة فاسدون من الخارج ومن الداخل ويكون حطبها الدين الإسلامي نفسه.

--