ليس ذهبا كل ما يلمع
زياد منى
"من كان منا يظن أن التحركات ستقود إلى ما نحن عليه"، هذا ما كتبه لي صديق معلقًا على أحوال بلاده المأساوية بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية في بلاده.
كنت قد كتبت إليه في مطلع الأحداث، مذكرًا بالمقولة: من السهل أن يصل المرء إلى الحكمة.. بعد وقوع الكارثة.
المسألة هنا طبعًا ليست (من الذي كان محقًا)، وإنما لفت الانتباه إلى المخاطر الشديدة التي تحيط بنا، دولاً وشعوبًا وقضايا.
"
ثمة حقائق علينا العودة إليها كلما فكرنا في مستقبلنا, فبلادنا، تحوي كثيرا من الثروات الطبيعية المهمّة للعالم المُصَنِّع، وتمتد على مساحة جغرافية هائلة
"
ثمة حقائق علينا العودة إليها كلما فكرنا في مستقبلنا. فبلادنا، بلاد العرب، تحوي كثيرا من الثروات الطبيعية المهمّة للعالم المُصَنِّع، وفي الوقت نفسه تمتد على مساحة جغرافية هائلة، والأخطر من هذا أنها محاذية لمركز الغرب الأوروبي، والأشد خطورة أنها تقطنها أمة ذات تاريخ عريق واعية له، ولها تاريخ طويل من المعاناة معه، استعمارًا واضطهادًا ونهبًا وتقسيمًا، وتجارب معه لا حصر لها في مجال دعمه للطغاة والعدوان، وليس في فلسطين فقط.
كلنا يعلم، وهم أيضًا يعلمون، أنه ما من قائد عربي ومسلم فكر في أن يمتطي قبر بولس الرسول في مدينة الفاتيكان مبشرًا بانتهاء الفتوحات. والكل يعرف أنه عندما امتدت الفتوحات إلى شبه جزيرة إيبيريا وصقلية وبعض جزر البحر الأبيض المتوسط، كانت تتبع مراكز الحضارة "الفينيقية" التي أقامها أجدادنا هناك قبل ذلك بقرون.
الجنرال ألِّنبي، قائد قوات الغزو البريطاني، هو من وضع قدمه على قبر الناصر صلاح الدين، الكردي، في دمشق معلنًا بعجرفة كريهة: ها قد عدنا يا صلاح الدين. الآن انتهت الحروب الصليبية.
علاقة الغرب بنا ونظرته إلينا تمر عبر المقولة السابقة، التي أوضح بُعدها آرثر بلفور، أول حاكم عسكري لفلسطين عقب الاحتلال البريطاني، عندما قال: "التناقض بين التعهد لـ"عصبة الأمم" وسياسة الحلفاء يظهر على نحو أكثر فظاعة في حالة "الأمة المستقلة" لفلسطين مقارنة بتلك المرتبطة بحالة "الأمة المستقلة" في سوريا.
فيما يخص فلسطين، فإننا لا نقترح حتى المرور بشكلية استشارة رغبات سكان تلك البلاد الحاليين عبر اللجنة الأميركية (لجنة كِنْغ-كرين).. إن القوى العظمى الأربعة (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة) ملتزمة بالصِّهيونية. والصِّهيونية، سواءً كانت محقة أو مخطأة، جيدة أو سيئة، متجذرة في تقاليدنا الأزلية، وفي حاجاتنا الحالية وآمالنا المستقبلية، وهي أهم بما لا يقاس من رغبات وهوى السبعمائة ألف عربي الذين يقطنون حاليًا تلك البلاد العتيقة".
لنتذكر حقيقة يجب ألا تغيب عنا، مع تجنب فخ الوقوع أسرى لها: الغرب، الاستعماري، يعد بلادنا "مهد الكتاب المقدس" و"أرض التوراة"، احتلها "غزاة جلف كفرة قادمون من الصحراء مسلحون بدين ابتدعه شيطان رجيم يسمى (مَهُمِت)"، وهو ما يشرح إطلاقه مصطلحًا توراتيًا على مشروع اغتصاب فلسطين، هو "الاستعادة/ Restoration"، وهو استرجاع للمفردة "التوراتية" الأصلية، بصيغة إسبانية/برتغالية، وفي الوقت ذاته هو نفسه مصطلح (الاستعادة، الاسترداد/ Reconquista) الذي أطلقه من قبل على حرب الأندلس (أي استعادة هذه بعد مرور ثمانمائة عام على انتقالها من البربرية الأوروبية إلى الحضارة التي أحضرها العرب والمسلمون معهم من بلاد الشام وجزيرة العرب!، وبعد مرور ألف ألف عام في فلسطين!).
هذه حقائق، يعيشها المتابع، كل يوم وكل دقيقة. لذا علينا التمعن كثيرًا في شعاراتنا وأهدافنا، وألا نقع فريسة التعميمات الضارة والمضلِّلة في كثير من الأحيان، وفي الوقت نفسه التفكير الملي والمتعمق في معانيها، بعيدًا من رومانسية "المثقفين" والسذاجة الحماسية الشعبوية التي تصل أحيانًا إلى درجة الهبل.
علينا التفكير مليًا في المعاني الحقيقية للشعارات التي يرفعها البعض، قبل تبنيها، ومن ثم تفكيكها، وبعد ذلك نعيد تركيبها وتعريفها، اعتمادًا على معارفنا العلمية وتجاربنا وتجارب شعوب الأرض عبر التاريخ.
"
"حرية، ديمقراطية، مساواة، عدالة" شعارات براقة وأهداف نبيلة، لكنها كثيرًا ما استعملت مطية لتحقيق عكس مضامينها وجوهرها
"
النظر إلى التطور التاريخي بمنظور طوباوي رومانسي حالم يقود إلى الكوارث، رغم حسن النية. والطريق إلى جهنم، كما نعلم، عادة ما تكون مبلطة بالنيات الحسنة.
"حرية، ديمقراطية، مساواة، عدالة" شعارات براقة وأهداف نبيلة، لكنها كثيرًا ما استعملت مطية لتحقيق عكس مضامينها وجوهرها.
الحرية: قد تكون مادية، أي "حرية" الشخص في التحرك بمعنى أن لا يكون مسترقًّا أو مسجونًا.
وقد تكون سياسية، بمعنى حرية الفرد في اختيار النظام الذي يريده، وحرية إبداء الرأي فيه... إلخ.
في ألمانيا الشرقية، مطالب الناس تركزت على بضع شعارات كان أهمها حرية السفر. بعدما ارتد سكانها عن أربعين عامًا من إنجازات إنسانية مهمة حققوها (ولا أقصد هنا مديح ذلك النظام الشيوعي ولا التقليل من معاناة البشر في ظله)، توافرت لهم "حرية" السفر. بعد حين، وبعد فوات الأوان اكتشفوا أنه ثمة فرق كبير بين توافر حرية السفر وإمكانية الاستفادة منها.
دعك الآن من "كيفية الاستفادة منها".
النظرة السطحية للأمور لن تحل أي مشكلة، اجتماعية كانت أو سياسية أو فكرية.
والنظرة الساذجة للأمور لا تصلح دواءً لأمراض تراكمت على مر العصور.
الأنظمة التي تتحكم فينا لم يخلقها الحكام.
الأنظمة الحالية التي هي نتاج فكري لحضارتنا وتاريخنا في مرحلة زمنية محددة هي من أنجبت حكامًا كهؤلاء.
قالت العرب: كما تكونون يولى عليكم.
نحن في حاجة في هذه الأيام إلى التعامل المعمق مع كل الأمور والمعوقات التي تواجه التحاقنا بركب التطور المادي والفكري في العالم لأنه لن تتوافر في المستقبل القريب فرص أخرى للتغيير. الفرص التاريخية لا تتوافر فصليًا.
فإما أن تكون تحركات شعوبنا خطوة إلى الأمام، مستفيدة من نجاحات من سبقنا، أو إلى الخلف عبر التعلق بمسكِّنات، ستقودنا إلى الكوارث.
من لا يسير مع الزمن، فسيتجاوزه الزمن.
ليس ثمة من أرض ميعاد جاهزة.
الحرية الحقيقية تكمن في الإنسان، في الفرد، في داخله، في الأولويات التي يضعها لنفسه. مثلاً، كيف يمكن لإنسان هدفه الأساس في الحياة جمع المال أن يكون حرًّا؟! ما دام هذا الشخص قيد نفسه بهدف محدد، فإنه على استعداد للدوس على العالم كله من أجل تحقيقه. هذا الإنسان ليس حرًّا، ولا يمكن أن يكون حرًّا، وفي الوقت نفسه من غير الممكن أن يحقق حرية الآخرين.
مثال آخر، إنسان وضع لنفسه هدفًا وحيدًا في الحياة هو الترقي الوظيفي (careerist)، سواءً كان ذلك في شركة أو في السياسة، لا يمكن أن يكون حرًّا، لأن كل تصرفاته، بل وحتى نمط حياته، سيكون مركزًا على محاولة الوصول إلى ما يسعى إليه.
وإذا أخذنا مثلا شخصًا أسير هوس ديني أو مذهبي أو عرقي، فكيف يمكن له أن يكون حرًّا، ناهيك عن تحقيق حرية الغير.
ما معنى الحرية لامرئ جائع أو عاطل عن العمل أو أمّيّ تقوده الهلوسات وتحركه الوساوس.
"
الحرية الحقيقية تبدأ من الذات, فقط عندما يتحرر المرء من القيود التي وضعها على نفسه، يمكنه الانطلاق نحو فضاء الحرية الحقيقية الرحب
"
الحرية الحقيقية تبدأ من الذات. فقط عندما يتحرر المرء من القيود التي وضعها على نفسه، يمكنه الانطلاق نحو فضاء الحرية الحقيقية الرحب.
الحرية الحقيقية تكمن في عقد اجتماعي حقيقي يحمي الوطن والمواطن، فرادى وجماعات، ويوفر له فرصة الانعتاق الذاتي.
الغرب وأنظمته ليست نهاية التاريخ، بمعنى أنه لا حياة بعد "الرأسمالية". الأحزاب في الغرب لم تحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والقومية.. إلخ، ولنا في الأزمات المستمرة هناك دروس، لمن يريد أن يتعظ.
ما نحن في حاجة إليه ليس أحزابًا وإنما التفكير في مستقبلنا بعيدًا عن الاستنساخ الذي يُروّج له.
(وماذا تنفع الأعلام.. هل حَمَتِ المدينَةَ من شظايا قنبُلَهْ!) قال محمود درويش.
الديمقراطية: ما "الديمقراطية"!. في ظني أن أغلبية مردديه من الشعب البسيط، الطيب، لا تملكن إجابة. المعنى الأصلي للمفردة (حكم الشعب/ سلطة الشعب).
لكن، من الشعب؟
الشعب، في التعريف الأثيني تكوَّن من "الأحرار" فقط. العبيد لم يعدوا من الشعب، بل بضاعة وملكية خاصة.
إذا كان المصطلح يعني (حكم المحكومين)، فكيف للمحكوم أن يحكم نفسه؟
الديمقراطية الغربية التي يتغنى بها معبودوها ليست حكم الشعب. النظم "الديمقراطية" ليست (حكم الشعب) وإنما حكم الأحزاب المنتدبين لمجلس نيابي. هذا سيقود بالتالي إلى أغلبية، (حتى لو كان المقدار 50.5% إلى 49.5%)، تتحكم في أقلية أو أقليات.
هل هذا حكم الشعب!
حتى يختار "الشعب" ممثليه (بحرية)، يجب أن يكون المنتخِب حرًّا، وهنا نعود إلى المربع الأول. حرًّا، أي متحررًا من كل الشوائب المذهبية والفكرية والاجتماعية والعصبية والقبلية والعشائرية.. إلخ، ومتحررًا أيضًا من وسائل الإعلام، ومن ادعاءات وسائل التضليل، المسماة أحيانًا إعلامًا.
من يحكم الولايات المتحدة الأميركية!
الرئيس الأميركي السابق دوايت آيزنهاور حذر في خطاب الوداع من سيطرة التجمع الصناعي-العسكري على مختلف مناحي الحياة في بلاده. الرئيس الأميركي لم يكن حالمًا ولا طوباويًّا، ولا شيوعيًّا مندسًّا، أو اشتراكيًّا متخفيًّا. آيزنهاور لم يكن "بطل سلام"، وإنما "بطل حرب"، جنرالاً، ابن المؤسسة العسكرية الأميركية، ولذا فقد كان في موقع المطلع عن قرب على أحوال البلاد ونظامها السياسي-الاقتصادي.
وماذا بعد!
كيف يمكن لمجتمعات ودول تدعي أنها حامية حمى الحرية، وأنها هي تحديدًا بوصلة البشرية والحضارة، القيام بكل هذه الحروب الظالمة ونهب الشعوب الضعيفة وثرواتها.
كيف يمكن لدولة ألقت قنبلتين ذريتين على مدينتين قتلتا نحو نصف مليون إنسان في أقل من ثانية، وتفخر بذلك ولا تعتذر، الادعاء بأنها مهد الحرية وحامية حمى البشرية.
لا، حمورابي لم يكن أميركيًّا، ولا أوروبيًّا، بل ابن الشرق ونتاجه الفكري.
عندما ننظر حولنا ونرى فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال والسودان وليبيا واليمن.. من غير المسموح أن نكون سذّجًا وأغبياء.
فقط الإنسان غير الحر يلهث وراء الكلمات البراقة والشعارات المدوية!
المطلوب الحذر من مهالك الانسياق وراء مقولات مقولبة ونمطية.
"
ثمة الكثير لدى الغرب الذي يمكننا التعلم منه، وفي الوقت ذاته ثمة أيضًا ما يجب علينا الابتعاد عنه ونبذه
"
نعم، ثمة الكثير لدى الغرب الذي يمكننا التعلم منه، وفي الوقت ذاته ثمة أيضًا ما يجب علينا الابتعاد عنه ونبذه.
لنتذكر: الشيء الوحيد الذي يقدم مجانًا هو قطعة الجبن في مصيدة الفأر.
فلسطين أنتِ أنتِ المسألة.
لننظر إلى فلسطين ولا نشيح بوجهنا عنها.
فلسطين هي البوصلة.
نحن نطمح إلى الحرية الحقيقية، لنا جميعًا، ضمن عقد اجتماعي يضمن حقوق كل البشر في بلادنا، كمواطنين.
ترديد مقولات وشعارات تبهر الأبصار واللهاث وراءها لا يحل أي مشكلة.
فليس ذهبًا كل ما يلمع.
والوميض المندلع من تلك المقولات والشعارات الجذابة والمغرية إلى درجة الغواية، ليس نهاية النفق، وإنما ضوء القطار المسرع نحونا بأقصى سرعة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المصدر: الجزيرة