تونس ما بعد الثّورة...
الأوطان لا تبنى بالدّعاء ولكن تبنى بالعناء
الأوطان لا تبنى بالدّعاء ولكن تبنى بالعناء
محسن الكعبي*
قال تعالى " و أعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة و من رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله و عدوّكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" صدق الله العظيم.
لا شكّ في أنّ الإنسان بطبيعته محبّ لجمع المال، و قد يفضّله مرّات عديدة و كثيرة على أهله، و على عائلته، و على نفسه في بعض الأحيان، إذا أصيب بداء البخل و العياذ بالله.
و نجد نفس هذا الإنسان سخيّا لا يبخل على نفسه بكل أمواله إذا تعرض هو أو أحد أفراد عائلته إلى خطر المرض ، و نجده ينفق كل ما يملك في سبيل درء هذا الخطر مع علمه علم اليقين بأن الأعمار بيد الله سبحانه و تعالى ، حيث ينفق إيمانا منه بأن حياته هي أغلى ما يملك في هذه الدنيا و هذا الوجود.
و لكن لو نظر الإنسان بتمعّن لوجد أن هناك ما هو أعزّ من النّفس، و أعزّ من الرّوح، و أعزّ حتّى من المال و الولد: إنّها الأرض، انّه الوطن، انّه التّراب المقدس، الأرض الطيّبة الطّاهرة التي تربّى على ترابها، و ترعرع بين ربوعها، وأعطته الكثير.
نجد الإنسان في لحظة الخطر و الخوف على الوطن ينسى حتّى نفسه و أهله و ماله، نجده يبذل الغالي و النّفيس بلا تردّد تجاه المحافظة على سلامة أراضيه، لأنّه يعلم يقين العلم بأن هذه الأرض هي كرامته، هي عزّته، هي كلّ شيء بالنّسبة له.
إذا فالدّفاع عن مقدّسات الأرض و الوطن واجب مقدّس لأنّه يعتبر دفاعا عن الدّين و الشّرف و الكرامة و العرض ، و المواطن مطالب بالدّفاع عن هذا الوطن و ترابه بشتّى الأشكال و الطّرق طالما بقينا أحياء على ترابه.
و ليس الدّفاع عن الوطن و الدّفاع عنه حال وقوع الخطر ، بل لا بد أن يعرف الجميع بأن الخطر موجود بيننا ، و قد لا تراه أخي المواطن لأنك تعيش في نعمة العيش و رغيده على تراب هذه الأرض .أو لكون أن مهمّة الدّفاع عن الوطن أوكلت إلى إخوان لك يعيشون معك، و يسهرون على راحتك و توفير الأمن لك، و لكن هذا لا يعفيك من القيام بدورك كمواطن ، كخفير و حارس و مدافع عن تراب هذه الأرض ، سواء كنت تعمل ضمن أفراد القوّات المسلّحة أو في أي موقع آخر في هذا الوطن.
إن الدّور الملقى على عاتق المواطنين كبير ، و يفوق في حجمه الدور الذي يقوم به المقاتلون على الحدود لأنّهم يقاتلون عدوا معروفا لديهم ، أما المواطنون فإنهم يدافعون عن الوطن ضد عدو متخفّ متنكّر ، قد يظهر أمامهم مواطنا صالحا حريصا على الوطن ، و لكنه في الخفاء إنسان شرس شرير يودّ تدمير هذا الوطن لا سمح الله.
إن حبّ أهل هذا البلد لوطنهم لا يأتي إلا من حبّهم لله، و حب الأرض و الدّفاع عنها واجب مقدّس.
و عندما نتحدّث عن الوطن و حبّ الوطن و إرادة الإنسان، لا نعني بالوطن التّراب و الشّوارع و الأعمدة و البنايات و الجسور فقط، بل الوطن هو أنت وأنا و نحن وهي جميعا، الوطن هو هواؤه النّقي و سماؤه المشرقة و قلبه الحنون، فالوطن حياة الإنسان و الوطن أب للإنسان و أمه.
و يقول الشّاعر حافظ إبراهيم في قصيدته " وطنيّة امرأة" على لسان فتاة يابانية :
هكذا الميكادو قد علّمنا أن نرى الأوطان أمّا و أبـا
انظروا إلى هذه العلاقة بين الفرد و وطنه، هل يوجد أقدس من علاقة تقوم بين ابن أو بنت و أمّ و أب، فهي علاقة ممزوجة بالعاطفة و الولاء و الطّاعة و الإخلاص، و هي كذلك علاقة تقوم على حفظ سمعة الآباء و الأمّهات و الدّفاع عنهما.
وطن الإنسان بمنزلة أمّه و أبيه لا غنى عنهما ، و كذلك الوطن لا غنى للإنسان عنه، يتفيّأ بظلّه ، و يتنفّس هواه، و يعيش ذكرياته عليه.
الوطن ليس أخذا فقط، دون عطاء، الوطن انتماء حقيقي روحاني، جهد و تضحيّة دون انتظار مردود.
الوطن، عزّة و كرامة، و عزّته و كرامته لا تتأكّد إلاّ من خلال عزّة و كرامة الإنسان، فالإنسان العزيز الواثق الشّجاع الجسور هو الّذي يقي و يصون وطننا عزيزا سيّدا.
و يقول الشّاعر:
سأحميـه و أرفعـه ليأخذ في العلا سـكـنا
علينا أن نكون مواطنين صالحين أوفياء لهذا الوطن المعطاء، و لكي نكون مواطنين صالحين لابدّ من أن نلتزم بنداء الوطن نداء الواجب.
إن تكريمنا لوطننا ليس فقط بترديد إنّنا ننتمي إليه، بل أن نعمل من أجله و نضحّي في سبيله، و لا ننظر إليه فقط كبقرة حلوب، نأخذ منها و لا نعطيها.
حقيقة أن الوطن عطاء ، و العطاء للوطن يختلف عن كل العطاءات. الوطن لم يبخل عليك بأن احتضنك و رعاك و هيّأ لك ما تحتاج ، فكان الأب و الأم لك و الأخ و المعين .
هذا هو وطنك أيها الشّباب لم يبخل عليك و لم يضن ، فاتحا ذراعيه لك بالمحبّة و بكلّ الودّ ، أفليس من حقه عليك أن تردّ له بعض جميله علما بانّ هذا الوطن لم يدع ولم يتباهى بأنّه أعطى لك، عطاء بصمت و تضحيّة دون ضجيج، و كل ما يطلبه منك أن تكون مواطنا صالحا فقط.
الوطن ميراث نفيس غال و تركة خيّرة تحتاج إلى قلوب و أيادي الرّجال المخلصين الشّرفاء للحفاظ عليها و الإضافة إليها و تنميتها. الوطن هو الأجيال السّابقة التي ضحّت و أعطت الأجيال الحاضرة ، التي إذا ما أخلصت للأجيال السابقة تمهّد الطريق للأجيال اللاّحقة ، دون منّة أو تكبّر ، فالحياة عجلة تسير كلّ يؤدّي دوره، و بالقدر الذي يكون دوره ايجابيّا متفاعلا بالقدر الذي تخلّده الأجيال التي تلي.
بناء الأوطان بحاجة إلى سواعد الرّجال، الشباب، كلّ فتى و فتاة و أمّ و أب، كل يعمل في مكانه يقدم ما يستطيع. يتحرّكون نحو التّقدم، مؤكّدين ولائهم للوطن قبل كلّ شيء و أي شيء.
أنت جزء من هذا الوطن فيه يعيش أخوك و أبوك و أمك و خالك و عمك، الوطن أسرة كبيرة، تقوم ببناء واحد يحميهم و يخلّد ذكراهم.
الوطن مشاركة عامّة و انتماء حقيقي للمجتمع. الوطن ليس تحرّرا من المسؤولية بل التزام بها ، شعور بها ، الوطن عمل ايجابي ، كلّ يعي دوره ، وإلاّ كيف تبنى الأمم و تتطوّر و تنهض و ترسّخ تراثها و حضارتها.
إذا ساهم الفرد منّا في تنشئة جيل جديد مخلص على أسس من العلم و الإيمان نكون بذلك قد ساهمنا في ترسيخ قواعد ثابتة للوطن، و ساهمنا في بناء حضارته.
الكلّ عليه مسؤولية ، الأب عليه رعاية ابنه و بنته و زوجته ، و تهيئة كل ما يمكن لهم حتى ينهضوا أناسا صالحين ، يوجّههم نحو الفضيلة و العفّة و المحبّة ، حبّهم للوطن و الدّفاع عنه، و كذلك المدرّس و الطّبيب ، و كلّ من توكل له مهمّة و أمانة عليه أن يؤدّيها بإخلاص واضعا نصب عينيه أن كلّ ذلك يصبّ في مصلحة الوطن.
على كل فرد أن يتعوّد المسؤوليّة،يتحمّلها ، يعي دوره في المجتمع، و ليس مجرّد رمز و هيكل يتحرّك على هذه الأرض.
إنّ شعورنا بالمسؤوليّة و التزام كل فرد منّا بدوره ، إنّما هو بذلك يمارس حقّا و واجبا.
فالإنسان الذي يعمل في إطار المجتمع في أي موقع ، عليه أن يقوم بواجبه خير قيام. وهو في نفس الوقت يمارس حقّا من حقوقه ، و عليه أن يراعي وهو يمارس ذلك الحقّ أن لا يتجاوز حقوق الآخرين، صحيح أن للفرد حرية يعيش بها و في إطارها شريطة أن لا تتجاوز حريّة الآخرين ، و أن لا تتعدّى على مصالح الآخرين ، و مصالح الآخرين هي الوطن بكل ما يمثّل من فئات و هيئات و مؤسّسات.
من حقّ المواطن التّعليم و العلاج و لكن في نفس الوقت عليه أن يحافظ على هذه المؤسّسات التي يتعلّم و يعالج فيها، لأنّ هذه الهيئات ليست له وحده، بل للجميع.
إنّ طاعة القوانين دون رقيب على الفرد ، هي أسمى درجات التقدّم الحضاري ، فإذا التزمنا بالقوانين الموضوعة من أجل خدمتنا و تنظيم حياتنا نكون قد استطعنا أن نخطو بالوطن خطوات حضارية ، و كلّما ارتكز الوطن على قواعد ثابتة سار عليها الجميع ،كلّما ازداد الوطن استقرارا. وهذا الاستقرار أساسا لبناء حضارة متماسكة متأصّلة الجذور. فبالقدر الذي نلتزم به بالقوانين نكون أناسا حضاريين، وكلّما اقتربنا من الالتزام الاختياري لا القسري نكون قد ارتقينا في عملنا وفي تفكيرنا ، و بالتّالي تصبح الحياة أيسر ، فالخوف لا يبني الحضارة إنّما تبنيها قناعتنا بأهميّة النّظام و التعوّد عليه ، بحيث يصبح عادة لدينا.
و نحن عندما نلتزم النّظام و القانون أساسا لحركتنا و لعملنا نكون قد بدأنا نعطي دورا كبيرا للضّمير و التّعاون في حياتنا.
يجب علينا عندما نحكم على الأشياء أن نكون محايدين ، موضوعيين مجرّدين بعيدين على التحيّز ، فحكمنا على أيّة قضيّة يجب أن يرتكز على مواءمتها لصالح المجتمع و الوطن ، بمعنى أن تكون القاعدة التي تحتكم إليها هي مصلحة الوطن ، حتى تكون أحكامنا صحيحة.
لا يعيش الفرد بمفرده في المجتمع، بل يعيش وسط شبكة متداخلة و خطوط متّصلة متفرّعة هنا و هناك، و هذه الخطوط و القنوات تتعاون لتصبّ في المصلحة العامّة.
التّعاون أساس الحياة، فالإنسان ليس بمقدوره أن يعيش بعيدا عن غيره، وليس بمقدوره تحقيق الاكتفاء الذّاتي، و مهما كانت الأشياء التي يقوم بها بسيطة، فهو بحاجة إلى من يسنده و يدعمه و يتعاون معه. فالمجتمع المتقدّم هو المجتمع الذي يعتمد على التّعاون المنظّم و الجهد المنظّم ، فالفوضى لا تخلق بناء قويّا ، و الانفلات في الحياة يؤدّي إلى عدم الاستقرار و التّقدم.
إنّ وجود مجتمع تعاوني يعني بالضّرورة وجود مجتمع منظّم، كلّ يعمل وفق قدرته وطاقاته و مؤهّلاته لا يتجاوزها، و الكلّ في العمل عبارة عن خليّة نحل كلّ نحلة تعرف دورها لتنتج عسلا ، و العمل التّعاوني المنظّم كذلك يعطي قيّما و مثلا أفضل و أشفى للنّفس من العسل ، و أستطيع أن أقول ليس أفضل للنّفس و أسعد لها من أن يرى الفرد منّا أن ثمار جهده مع أخيه قد تحقّق و أن هذه الثّمرة يستفيد منها المجتمع.
ونحن عندما نسير في مجتمع تعاوني منظّم ذي جهد مركز متواصل متجدّد يحكمه القانون و الدّين و الأخلاق والعرف و التّقاليد العريقة الأسس التي بناها الأوّلون . إنّما في ذلك نخلق جيلا مخلصا يؤثر مصلحة غيره على مصلحته ، لا ينظر إلى هذا التّعاون على أساس أنّه مكسب مادّي فقط ، بقدر ما هو سعادة له لأنّه يؤدّي دورا و أنّه عضو ذو أهميّة في المجتمع.
إذا فضّلنا مصلحة الغير على مصلحتنا نكون قد بدأنا ببناء مجتمع ترفرف عليه راية التّكافل و التّسامح و المحبّة و الإخاء.و لا نكون أنانيين تحكمنا المصلحة و المنفعة الشّخصية التي تطغى على المصلحة العامّة، هدفنا أن نشبع حاجاتنا مهما كانت الوسيلة ، و أن نحاول أن نقتنص الفرص . و إذا تمكّنا بذلك فإننا سنستنفذ طاقات الوطن الاقتصادية و بالتّالي نعرض الوضع الاقتصادي للخطر.
الاعتدال في الإنفاق و عدم المبالغة فيه من الأسس الصّحيحة لبناء وطن قويّ سعيد، ذي عزّة و منعة. فالمحافظة على الموارد الاقتصادية و خاصة الإستراتيجية مسؤوليّة جماعيّة، و لقد أمرنا ديننا الحنيف بالاعتدال في الإنفاق ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوما مدحورا ) أي بمعنى أن نكون عقلانيين في إنفاقنا ، و وجود حالة توازن ، و نهانا الإسلام عن التبذير و قال جلّ شأنه ( إن المبذّرين كانوا إخوان الشّياطين) .
علينا أن نحافظ على ممتلكات الوطن لأنّها ليست ملكا لجيل واحد، بل لأجيال متلاحقة، و فوق ذلك علينا أن ننمّي هذه الممتلكات و نطوّرها و نعمل على زيادتها، و أن نحتفظ بما يزيد عن حاجتنا، و في ذلك سعادة لنا و لأبنائنا.
إن الاقتصاد الوطني هو أهم عصب في حياة الفرد و المجتمع ، و كلّما كان الاقتصاد مستقرا، ومتقدّما ،و لدينا من الموارد الإستراتيجية ، و قمنا بتنمية مواردنا الذاتية ،و توفير مستلزمات الحياة ، فإننا نكون حفظنا للوطن سمعته و كيانه ، و هيّأنا للأجيال الصّاعدة فرصة أفضل للحياة، نخلق مجتمعا آمنا أمينا ، سالما سليما.
على الجميع أن يأخذ دوره بالعمل بتقديم كل ما هو مفيد لخدمة الوطن و بالتّالي خدمة له ولأسرته.
الأوطان أمانة في أعناق الرّجال المخلصين الشّرفاء و يقول الله تعالى ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)، فالأمانة عهد، و قدرة على تنفيذ هذه الأمانة.
لا نبني الأوطان بالدّعاء ولكن نبني الأوطان بالعناء.الوطن وفاء و محبّة و إخلاص و تضحيّة و تعاون...
فلنتعاون جميعا و نضحّي و نعمل بإخلاص، لتبقى راية الوطن خفّاقة عالية محافظين على العهد، نكون حماة للوطن و الدّرع الواقي له، و لتتضافر الجهود للسّير على طريق الخير و الحرية و التّقدم و العزّة. ليكن شغلنا الشّاغل وطننا عزيزا مهابا كريما.و هذا لا يتمّ إلاّ من خلال العمل الدّءوب و الجهد المتواصل و العمل بصمت و نكران الذّات و الإيثار ، لنبني دون ضجيج .. . لتكن خطواتنا واثقة راسخة، مستلهمين روح العزيمة و الإصرار من السّابقين من أجدادنا لنوصل رسالتهم الناصعة إلى أحفادنا.
وفقنا الله جميعا لخدمة بلدنا العزيز تونس،وكل سنة و جيشنا بخير و تونس بخير.
--------------------------------------------------
* ضابط مهندس محال على التقاعد من الجيش الوطني
لا شكّ في أنّ الإنسان بطبيعته محبّ لجمع المال، و قد يفضّله مرّات عديدة و كثيرة على أهله، و على عائلته، و على نفسه في بعض الأحيان، إذا أصيب بداء البخل و العياذ بالله.
و نجد نفس هذا الإنسان سخيّا لا يبخل على نفسه بكل أمواله إذا تعرض هو أو أحد أفراد عائلته إلى خطر المرض ، و نجده ينفق كل ما يملك في سبيل درء هذا الخطر مع علمه علم اليقين بأن الأعمار بيد الله سبحانه و تعالى ، حيث ينفق إيمانا منه بأن حياته هي أغلى ما يملك في هذه الدنيا و هذا الوجود.
و لكن لو نظر الإنسان بتمعّن لوجد أن هناك ما هو أعزّ من النّفس، و أعزّ من الرّوح، و أعزّ حتّى من المال و الولد: إنّها الأرض، انّه الوطن، انّه التّراب المقدس، الأرض الطيّبة الطّاهرة التي تربّى على ترابها، و ترعرع بين ربوعها، وأعطته الكثير.
نجد الإنسان في لحظة الخطر و الخوف على الوطن ينسى حتّى نفسه و أهله و ماله، نجده يبذل الغالي و النّفيس بلا تردّد تجاه المحافظة على سلامة أراضيه، لأنّه يعلم يقين العلم بأن هذه الأرض هي كرامته، هي عزّته، هي كلّ شيء بالنّسبة له.
إذا فالدّفاع عن مقدّسات الأرض و الوطن واجب مقدّس لأنّه يعتبر دفاعا عن الدّين و الشّرف و الكرامة و العرض ، و المواطن مطالب بالدّفاع عن هذا الوطن و ترابه بشتّى الأشكال و الطّرق طالما بقينا أحياء على ترابه.
و ليس الدّفاع عن الوطن و الدّفاع عنه حال وقوع الخطر ، بل لا بد أن يعرف الجميع بأن الخطر موجود بيننا ، و قد لا تراه أخي المواطن لأنك تعيش في نعمة العيش و رغيده على تراب هذه الأرض .أو لكون أن مهمّة الدّفاع عن الوطن أوكلت إلى إخوان لك يعيشون معك، و يسهرون على راحتك و توفير الأمن لك، و لكن هذا لا يعفيك من القيام بدورك كمواطن ، كخفير و حارس و مدافع عن تراب هذه الأرض ، سواء كنت تعمل ضمن أفراد القوّات المسلّحة أو في أي موقع آخر في هذا الوطن.
إن الدّور الملقى على عاتق المواطنين كبير ، و يفوق في حجمه الدور الذي يقوم به المقاتلون على الحدود لأنّهم يقاتلون عدوا معروفا لديهم ، أما المواطنون فإنهم يدافعون عن الوطن ضد عدو متخفّ متنكّر ، قد يظهر أمامهم مواطنا صالحا حريصا على الوطن ، و لكنه في الخفاء إنسان شرس شرير يودّ تدمير هذا الوطن لا سمح الله.
إن حبّ أهل هذا البلد لوطنهم لا يأتي إلا من حبّهم لله، و حب الأرض و الدّفاع عنها واجب مقدّس.
و عندما نتحدّث عن الوطن و حبّ الوطن و إرادة الإنسان، لا نعني بالوطن التّراب و الشّوارع و الأعمدة و البنايات و الجسور فقط، بل الوطن هو أنت وأنا و نحن وهي جميعا، الوطن هو هواؤه النّقي و سماؤه المشرقة و قلبه الحنون، فالوطن حياة الإنسان و الوطن أب للإنسان و أمه.
و يقول الشّاعر حافظ إبراهيم في قصيدته " وطنيّة امرأة" على لسان فتاة يابانية :
هكذا الميكادو قد علّمنا أن نرى الأوطان أمّا و أبـا
انظروا إلى هذه العلاقة بين الفرد و وطنه، هل يوجد أقدس من علاقة تقوم بين ابن أو بنت و أمّ و أب، فهي علاقة ممزوجة بالعاطفة و الولاء و الطّاعة و الإخلاص، و هي كذلك علاقة تقوم على حفظ سمعة الآباء و الأمّهات و الدّفاع عنهما.
وطن الإنسان بمنزلة أمّه و أبيه لا غنى عنهما ، و كذلك الوطن لا غنى للإنسان عنه، يتفيّأ بظلّه ، و يتنفّس هواه، و يعيش ذكرياته عليه.
الوطن ليس أخذا فقط، دون عطاء، الوطن انتماء حقيقي روحاني، جهد و تضحيّة دون انتظار مردود.
الوطن، عزّة و كرامة، و عزّته و كرامته لا تتأكّد إلاّ من خلال عزّة و كرامة الإنسان، فالإنسان العزيز الواثق الشّجاع الجسور هو الّذي يقي و يصون وطننا عزيزا سيّدا.
و يقول الشّاعر:
سأحميـه و أرفعـه ليأخذ في العلا سـكـنا
علينا أن نكون مواطنين صالحين أوفياء لهذا الوطن المعطاء، و لكي نكون مواطنين صالحين لابدّ من أن نلتزم بنداء الوطن نداء الواجب.
إن تكريمنا لوطننا ليس فقط بترديد إنّنا ننتمي إليه، بل أن نعمل من أجله و نضحّي في سبيله، و لا ننظر إليه فقط كبقرة حلوب، نأخذ منها و لا نعطيها.
حقيقة أن الوطن عطاء ، و العطاء للوطن يختلف عن كل العطاءات. الوطن لم يبخل عليك بأن احتضنك و رعاك و هيّأ لك ما تحتاج ، فكان الأب و الأم لك و الأخ و المعين .
هذا هو وطنك أيها الشّباب لم يبخل عليك و لم يضن ، فاتحا ذراعيه لك بالمحبّة و بكلّ الودّ ، أفليس من حقه عليك أن تردّ له بعض جميله علما بانّ هذا الوطن لم يدع ولم يتباهى بأنّه أعطى لك، عطاء بصمت و تضحيّة دون ضجيج، و كل ما يطلبه منك أن تكون مواطنا صالحا فقط.
الوطن ميراث نفيس غال و تركة خيّرة تحتاج إلى قلوب و أيادي الرّجال المخلصين الشّرفاء للحفاظ عليها و الإضافة إليها و تنميتها. الوطن هو الأجيال السّابقة التي ضحّت و أعطت الأجيال الحاضرة ، التي إذا ما أخلصت للأجيال السابقة تمهّد الطريق للأجيال اللاّحقة ، دون منّة أو تكبّر ، فالحياة عجلة تسير كلّ يؤدّي دوره، و بالقدر الذي يكون دوره ايجابيّا متفاعلا بالقدر الذي تخلّده الأجيال التي تلي.
بناء الأوطان بحاجة إلى سواعد الرّجال، الشباب، كلّ فتى و فتاة و أمّ و أب، كل يعمل في مكانه يقدم ما يستطيع. يتحرّكون نحو التّقدم، مؤكّدين ولائهم للوطن قبل كلّ شيء و أي شيء.
أنت جزء من هذا الوطن فيه يعيش أخوك و أبوك و أمك و خالك و عمك، الوطن أسرة كبيرة، تقوم ببناء واحد يحميهم و يخلّد ذكراهم.
الوطن مشاركة عامّة و انتماء حقيقي للمجتمع. الوطن ليس تحرّرا من المسؤولية بل التزام بها ، شعور بها ، الوطن عمل ايجابي ، كلّ يعي دوره ، وإلاّ كيف تبنى الأمم و تتطوّر و تنهض و ترسّخ تراثها و حضارتها.
إذا ساهم الفرد منّا في تنشئة جيل جديد مخلص على أسس من العلم و الإيمان نكون بذلك قد ساهمنا في ترسيخ قواعد ثابتة للوطن، و ساهمنا في بناء حضارته.
الكلّ عليه مسؤولية ، الأب عليه رعاية ابنه و بنته و زوجته ، و تهيئة كل ما يمكن لهم حتى ينهضوا أناسا صالحين ، يوجّههم نحو الفضيلة و العفّة و المحبّة ، حبّهم للوطن و الدّفاع عنه، و كذلك المدرّس و الطّبيب ، و كلّ من توكل له مهمّة و أمانة عليه أن يؤدّيها بإخلاص واضعا نصب عينيه أن كلّ ذلك يصبّ في مصلحة الوطن.
على كل فرد أن يتعوّد المسؤوليّة،يتحمّلها ، يعي دوره في المجتمع، و ليس مجرّد رمز و هيكل يتحرّك على هذه الأرض.
إنّ شعورنا بالمسؤوليّة و التزام كل فرد منّا بدوره ، إنّما هو بذلك يمارس حقّا و واجبا.
فالإنسان الذي يعمل في إطار المجتمع في أي موقع ، عليه أن يقوم بواجبه خير قيام. وهو في نفس الوقت يمارس حقّا من حقوقه ، و عليه أن يراعي وهو يمارس ذلك الحقّ أن لا يتجاوز حقوق الآخرين، صحيح أن للفرد حرية يعيش بها و في إطارها شريطة أن لا تتجاوز حريّة الآخرين ، و أن لا تتعدّى على مصالح الآخرين ، و مصالح الآخرين هي الوطن بكل ما يمثّل من فئات و هيئات و مؤسّسات.
من حقّ المواطن التّعليم و العلاج و لكن في نفس الوقت عليه أن يحافظ على هذه المؤسّسات التي يتعلّم و يعالج فيها، لأنّ هذه الهيئات ليست له وحده، بل للجميع.
إنّ طاعة القوانين دون رقيب على الفرد ، هي أسمى درجات التقدّم الحضاري ، فإذا التزمنا بالقوانين الموضوعة من أجل خدمتنا و تنظيم حياتنا نكون قد استطعنا أن نخطو بالوطن خطوات حضارية ، و كلّما ارتكز الوطن على قواعد ثابتة سار عليها الجميع ،كلّما ازداد الوطن استقرارا. وهذا الاستقرار أساسا لبناء حضارة متماسكة متأصّلة الجذور. فبالقدر الذي نلتزم به بالقوانين نكون أناسا حضاريين، وكلّما اقتربنا من الالتزام الاختياري لا القسري نكون قد ارتقينا في عملنا وفي تفكيرنا ، و بالتّالي تصبح الحياة أيسر ، فالخوف لا يبني الحضارة إنّما تبنيها قناعتنا بأهميّة النّظام و التعوّد عليه ، بحيث يصبح عادة لدينا.
و نحن عندما نلتزم النّظام و القانون أساسا لحركتنا و لعملنا نكون قد بدأنا نعطي دورا كبيرا للضّمير و التّعاون في حياتنا.
يجب علينا عندما نحكم على الأشياء أن نكون محايدين ، موضوعيين مجرّدين بعيدين على التحيّز ، فحكمنا على أيّة قضيّة يجب أن يرتكز على مواءمتها لصالح المجتمع و الوطن ، بمعنى أن تكون القاعدة التي تحتكم إليها هي مصلحة الوطن ، حتى تكون أحكامنا صحيحة.
لا يعيش الفرد بمفرده في المجتمع، بل يعيش وسط شبكة متداخلة و خطوط متّصلة متفرّعة هنا و هناك، و هذه الخطوط و القنوات تتعاون لتصبّ في المصلحة العامّة.
التّعاون أساس الحياة، فالإنسان ليس بمقدوره أن يعيش بعيدا عن غيره، وليس بمقدوره تحقيق الاكتفاء الذّاتي، و مهما كانت الأشياء التي يقوم بها بسيطة، فهو بحاجة إلى من يسنده و يدعمه و يتعاون معه. فالمجتمع المتقدّم هو المجتمع الذي يعتمد على التّعاون المنظّم و الجهد المنظّم ، فالفوضى لا تخلق بناء قويّا ، و الانفلات في الحياة يؤدّي إلى عدم الاستقرار و التّقدم.
إنّ وجود مجتمع تعاوني يعني بالضّرورة وجود مجتمع منظّم، كلّ يعمل وفق قدرته وطاقاته و مؤهّلاته لا يتجاوزها، و الكلّ في العمل عبارة عن خليّة نحل كلّ نحلة تعرف دورها لتنتج عسلا ، و العمل التّعاوني المنظّم كذلك يعطي قيّما و مثلا أفضل و أشفى للنّفس من العسل ، و أستطيع أن أقول ليس أفضل للنّفس و أسعد لها من أن يرى الفرد منّا أن ثمار جهده مع أخيه قد تحقّق و أن هذه الثّمرة يستفيد منها المجتمع.
ونحن عندما نسير في مجتمع تعاوني منظّم ذي جهد مركز متواصل متجدّد يحكمه القانون و الدّين و الأخلاق والعرف و التّقاليد العريقة الأسس التي بناها الأوّلون . إنّما في ذلك نخلق جيلا مخلصا يؤثر مصلحة غيره على مصلحته ، لا ينظر إلى هذا التّعاون على أساس أنّه مكسب مادّي فقط ، بقدر ما هو سعادة له لأنّه يؤدّي دورا و أنّه عضو ذو أهميّة في المجتمع.
إذا فضّلنا مصلحة الغير على مصلحتنا نكون قد بدأنا ببناء مجتمع ترفرف عليه راية التّكافل و التّسامح و المحبّة و الإخاء.و لا نكون أنانيين تحكمنا المصلحة و المنفعة الشّخصية التي تطغى على المصلحة العامّة، هدفنا أن نشبع حاجاتنا مهما كانت الوسيلة ، و أن نحاول أن نقتنص الفرص . و إذا تمكّنا بذلك فإننا سنستنفذ طاقات الوطن الاقتصادية و بالتّالي نعرض الوضع الاقتصادي للخطر.
الاعتدال في الإنفاق و عدم المبالغة فيه من الأسس الصّحيحة لبناء وطن قويّ سعيد، ذي عزّة و منعة. فالمحافظة على الموارد الاقتصادية و خاصة الإستراتيجية مسؤوليّة جماعيّة، و لقد أمرنا ديننا الحنيف بالاعتدال في الإنفاق ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوما مدحورا ) أي بمعنى أن نكون عقلانيين في إنفاقنا ، و وجود حالة توازن ، و نهانا الإسلام عن التبذير و قال جلّ شأنه ( إن المبذّرين كانوا إخوان الشّياطين) .
علينا أن نحافظ على ممتلكات الوطن لأنّها ليست ملكا لجيل واحد، بل لأجيال متلاحقة، و فوق ذلك علينا أن ننمّي هذه الممتلكات و نطوّرها و نعمل على زيادتها، و أن نحتفظ بما يزيد عن حاجتنا، و في ذلك سعادة لنا و لأبنائنا.
إن الاقتصاد الوطني هو أهم عصب في حياة الفرد و المجتمع ، و كلّما كان الاقتصاد مستقرا، ومتقدّما ،و لدينا من الموارد الإستراتيجية ، و قمنا بتنمية مواردنا الذاتية ،و توفير مستلزمات الحياة ، فإننا نكون حفظنا للوطن سمعته و كيانه ، و هيّأنا للأجيال الصّاعدة فرصة أفضل للحياة، نخلق مجتمعا آمنا أمينا ، سالما سليما.
على الجميع أن يأخذ دوره بالعمل بتقديم كل ما هو مفيد لخدمة الوطن و بالتّالي خدمة له ولأسرته.
الأوطان أمانة في أعناق الرّجال المخلصين الشّرفاء و يقول الله تعالى ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)، فالأمانة عهد، و قدرة على تنفيذ هذه الأمانة.
لا نبني الأوطان بالدّعاء ولكن نبني الأوطان بالعناء.الوطن وفاء و محبّة و إخلاص و تضحيّة و تعاون...
فلنتعاون جميعا و نضحّي و نعمل بإخلاص، لتبقى راية الوطن خفّاقة عالية محافظين على العهد، نكون حماة للوطن و الدّرع الواقي له، و لتتضافر الجهود للسّير على طريق الخير و الحرية و التّقدم و العزّة. ليكن شغلنا الشّاغل وطننا عزيزا مهابا كريما.و هذا لا يتمّ إلاّ من خلال العمل الدّءوب و الجهد المتواصل و العمل بصمت و نكران الذّات و الإيثار ، لنبني دون ضجيج .. . لتكن خطواتنا واثقة راسخة، مستلهمين روح العزيمة و الإصرار من السّابقين من أجدادنا لنوصل رسالتهم الناصعة إلى أحفادنا.
وفقنا الله جميعا لخدمة بلدنا العزيز تونس،وكل سنة و جيشنا بخير و تونس بخير.
--------------------------------------------------
* ضابط مهندس محال على التقاعد من الجيش الوطني
No comments:
Post a Comment