رسالة إلى كل تونسي وتونسية بخصوص مسئوليته (ها) في عودة
تونس إلى حالة طبيعية
د. منصف المرزوقي
27-11-2004
إن الذي حدث يوم 24 أكتوبر شبيه جدّا باغتصاب تمّ تحت
الأضواء الكاشفة وبعد انتهاء العملية لبس المغتصب سرواله وأحكم ربطة عنقه وانصرف
راضيا عن نفسه . أما المغتصبة فقد نهضت من فوق الأرض وارتدت ملابسها شاردة الذهن ،
ورجعت إلى مطبخها وكنس المنزل ، بالكاد تفطنت للدم الذي يسيل من بين فخذيها
وأنها أصيبت بالسيدا وحملت بلقيط . أما شهود الحادثة فمنهم من أدار وجهه لا
يعنيه من الأمر شيئا. منهم من صرخ ونطّ واستنجد بأصحاب الضمائر عله
يوقف الجريمة النكراء ... عبثا . ولما انتهى كلّ شيء انصرف الجميع إلى
بيوتهم وعادوا هم أيضا إلى مشاغلهم العادية بمن فيهم من أقام وأقعد الدنيا
بالصراخ .
إن أغرب ما في وضعنا اليوم أننا أصبحنا لا ننتبه لعمق
غرابتنا ، لكوننا أصبحنا بلدا غير طبيعي بكل المقاييس... وليس
فقط بالنسبة لما حدث الأمس في جورجيا وما يحدث الآن في أوكرانيا .
والحالة الطبيعية في الشيء تعرّف بتواترها ،
بتواجدها في كل زمان ومكان ، بانتشارها الواسع ، باتفاق الناس حولها بأنها الحالة
المألوفة والمقبولة . وبمثل
هذه المقاييس نحن اليوم ، سلطة ومعارضة وشعبا شواذّ بكل ما
تحمله هذه الكلمة من معنى.
صحيح أن كل النظم السياسية عرفت وستعرف كل أشكال
الفساد ،أن القضاء في كل دكتاتورية هو الذي يأتمر بأوامر البوليس وليس
البوليس هو الذي يأتمر بأوامر القضاء ، أن هناك أكثر من مكان في
العالم تحكمه عصابات الحق العام ومهمة البوليس فيه حماية
الجريمة المنظمة من المجتمع لا حماية المجتمع من الجريمة المنظمة .
لكن هل تعرفون بلدا أصبحت الكلمات تعني فيه عكس
ما يفهمه كل البشر غير بلدنا لأن نظامها يكذب كما يتنفس ويتنفس كما يكذب أي
بصفة آلية ، مستمرّة ،وإلى آخر يوم ؟من رأى منكم أو سمع بدكتاتورية خارج
تونس تمارس التعذيب والإرهاب البوليسي على أوسع نطاق و تحتفل بالعاشر من
ديسمبر وتعطي جوائز حقوق الإنسان؟
ثمة بلدان اخترعت الدكتاتورية وأخرى اخترعت
الديمقراطية ، لكن تونس اخترعت الدكتاتورية الديمقراطية . ثمة بلدان اخترعت
الملكية الدستورية وأخرى الجمهورية ونحن نعيش في ظل الجملكية، هذا النظام
الذي أخذ من الملكية البدائية كلّ اللب ومن الجمهورية بعض
القشور.
*
أما بخصوص المعارضة ( غير الديكورية بالطبع)
فلا لا يوجد في العالم واحدة كالتي ابتليت بها تونس . والغريب
في الأمر ألا يعاب عليها إلا ما هو طبيعي وعادي ومبتذل وأزلي .
لا تسمعوا من المتحذلقين ومعطي الدروس
بالمجان إلا عن تفرّق المعارضة التونسية وكأن الاختلاف والتنافس والصراع
مسائل لا تختص بها إلا هي . هم لم يفكّروا يوما بمقارنة تشتتها
المزعوم بالوحدة الصمّاء للمعارضة الجزائرية أو السورية أو
المصرية .....أو الفرنسية . ولو فعلوا لاكتشفوا أن المعارضة التونسية لا تقاتل بينها
بالسلاح ، أنها تمضي البيانات مع بعضها البعض منذ عقود وتتظاهر جنبا لجنب وتؤسس
معا المنظمات الحقوقية مثل الرابطة والمجلس . أما العلاقات بين
مناضليها فهي ودية أغلب الوقت والتنافس جدّ هادئ ومؤدّب
بين زعمائها .
وبخصوص هذا المرض الرهيب المسمى '' الزعاماتية
''(المتهم الأوّل طبعا محسوبكم ) الذي اختصّ بشجبه وإدانته أساتذة التعليم السياسي
-النضالي -الأخلاقي القابعون في بيوتهم ، فهو عافانا وعافاكم الله،
مرض مزمن لا يصيب إلا رجال السياسة في تونس . هو غير معروف داخل الطبقة
السياسية الغربية والعربية، فالناس هناك يمارسون السياسة ، بلا طموح
شخصي مثلما يدخلون الجامعات طمعا في العلم لا في الشهادات والمناصب ،
بل ويتزوجون من فرط مثاليتهم حبا في تجديد النسل لا لإرضاء غرائز جنسية
شهوانية مذمومة لا توجد إلإ عند الخاطبين والخاطبات في بلدنا
.
ولو دققت في دوافع من يصرخون أمام ظاهرة هي لبّ
الفعل السياسي في كل زمان ومكان، لاكتشفت أن الناس في أحسن
الأحوال سذّج جهلة لا يفهمون شيئا في طبيعة السياسة وطبيعة
الإنسان، وفي أسوأها منافقون يريدون ضرب خصومهم بالوسائل
السهلة وهم أجبن من أن يصرحوا بطموحهم هم ونرجسيتهم هم خاصة إذا
كان الأمر أكبر من جرمهم .
وفي الوقت الذي تسلط فيه أضواء النقد على ما هو ملازم
، ثابت ، قار ، مهيكل ، أزلي ، غير قابل للتغيير في الفعل السياسي،ترى أغرب القبول
بما هو شاذّ، غير مفهوم ،غير مقبول، غير ناجع .....غير سياسي .
فمنذ خلق الله العالم و عرفت الشعوب السياسة ووظيفة
المعارضة هي السعي لافتكاك السلطة وفرض بدائلها إيمانا
منها بأنها الحلّ الأمثل لمشاكل الدولة والمجتمع .
لكن معارضتنا رفضت دوما ولا تزال ممارسة هذا
الدور الطبيعي لأسباب لا يعرفها إلا خبراء علماء النفس المرضي. فلما جاء الدكتاتور
بانقلابه الطبي ،عوض أن يرفع زعماءها آنذاك المطالب ويسبقوا الحذر
وسوء النية ويقايضوا أي دعم بالقدر الأقصى من التنازلات ، تسابقوا لإمضاء الشيكات
على بياض ، فكان لهذا الموقف الشاذ دوره الهائل في استتباب
الدكتاتورية واستشراسها المتصاعد.
ثم تواصل التخلي عن الوظيفة الطبيعية يوم أعلنت
المعارضة الإسلامية بصريح العبارة أنها لا تريد السلطة . كذلك تزايد الوضع غرابة
والمعارضة العلمانية تنخرط في قواعد اللعبة التي حددتها
العصابات الحاكمة مجاهرة بأنها تريد الضغط فقط لتحقيق بعض المطالب لا
تعويض النظام . حتى التقدّم للانتخابات الصورية ، لم يهدف مرّة لطرح
البديل واستنفار القوى لتحقيقه بقدر ما كان لإظهار التواجد داخل الفضاءات
البالغة الضيّق التي رسم الاستبداد مساحتها وحدودها .
هكذا عرفنا طوال التسعينات أحزابا سياسية مارست في
الواقع دور منظمات حقوق الإنسان ومنظمات حقوق الإنسان لعبت دور
الأحزاب السياسية من منطلق أن الطبيعة لا تحب الفراغ .
وداخل هذه المعارضة الغريبة ولدت '' راطزة'' (
بلغة السوقة وإن شئتم زعنفة بلغة المتنبي ) لا توجد إلا في تونس، وظيفتها تسقّط
الأخبار المفرحة التي تنذر بانفراج قريب يوم 7 ويوم 20 ويوم 9 ويوم 25 المقبل .
وليس من حدود لصبر هذا النوع الغريب من الدجاج
السياسي وهو ينتظر منذ 17 سنة قمح باجة الموعود . هذه'' الراطزة'' هي
التي رأيناها مؤخرا تستبشر وتهنّئ وتصفق وتزغرد لإطلاق سراح بعض
رهائن مبرمجين للإقامة الجبرية والبطالة . وبالطبع هم يفتعلون
عدم فهم الفرق بين الاعتدال الحقيقي والمصالحة الحقيقية
وبين تصرفاتهم المشينة .
ولو دققت النظر في دوافعهم ،لما اكتشفت إلا اغتنام
أقل فرصة لبعث الرسائل بخصوص الاستعداد للتعامل '' البنّاء'' وتقديم الخدمات . إن
وضع الأمور في نصابها من قبل المغتصب عند ما صرّح مؤخرا أنه ليس لنا
سجناء سياسيين لن يفت في عضد مدمني الاستبشار والانتظار وتوسم
الخير.
يا ويلكم من هذه '' الراطزة '' إن
ابتليتم يوما بالسابع مكرر الذي قد تعدّه الحرم المصون وإخوتها الإحدى
عشر.ستجدونهم بالصفوف أمام قصر قرطاج يسبّقون الخير ويثمنون ويأملون
ويتبارون في إظهار حسن النية والاستعداد ...... وأيديهم ممدودة لما تيسّر
من الصدقة .
*
كل هذه المواقف الشاذة لا تفهم خارج الإطار الثقافي
الذي أنتج هكذا دكتاتور وهكذا معارضة ، أي خارج '' الشعب '' الذي نحمل انتمائنا
إليه إكليل غار وإكليل شوك ، يتقاسمنا حبه وكرهه. هنا نأتي لغرابة الطرف الثالث
وهو أهم أطراف المعادلة الثلاثية .
لا يوجد تونسي اليوم لا يعرف طبيعة السلطة وأنها
ساقطة وكذابة وفاسدة وحقيرة وعديمة الهيبة الخ ..... ومع ذلك فإن الموقف الغالب
الذي اتخذوه هو التأقلم مع الوضع والبحث عن أرخص الوسائل ( بالمفهومين
للكلمة) للتعامل معه.
لذلك انطلق ،همسا في البداية ثم بصوت متزايد
الارتفاع، إدانة التونسيين ل'' الشعب'' بخصوص سكوته المشين أمام نهب
ثرواته ومعرّة صمته أمام ما يحدث لأشقائنا في فلسطين والعراق الخ .
وهم بهذا كمن يعيبون على امرأة أن تحيض .
انظروا لتاريخ الشعب الألماني والإيطالي والأسباني واليوناني
والروسي تحت الدكتاتورية وقولوا لي أين هي انتفاضاته الشعبية ؟ربع الشعب
ألمانيا الشرقية تحت حكم الشيوعيين كان مخبرا . طالعوا ما كتبه المثقفون
الروس والألمان والفرنسيون في بعض مراحل تاريخ بلدانهم عن شعوبهم
وستكتشفون بذهول أنهم كانوا يردّدون ما نردّد اليوم عن التونسيين ( أو عن
العرب بصفة عامّة) . لكن جهل الكثير بالتاريخ يجعلهم ينخرطون في
خطاب عنصري–ذاتي وكأن التونسيين هم اليوم أجبن وأحقر شعوب الأرض قاطبة . المضحك في
الأمر استشراء الشيزوفرينا العامة التي أصبحنا عليها .يا للهوة بين ما ننطق
به وما نكتبه. فمن جهة حديث يومي مسترسل تسمعه في كل الأطر ينضح
بعنصرية ذاتية فجّة- نرفضها بعنف عندما يلمّح بها
الأجانب- ومن جهة أخرى كتابات تمجّد وتتغنّي وتشيد وتتضرّع وتتوجه إلى
''الشعب '' المذموم لينهض ويكسر القيود حتى ينجلي الليل وينبلج الصبح.
قلّ من ينتبه أن ما نظهره من حفيظة – منها
حفيظة كاتب هذه السطور- هو تعبير عن خيبة أمل في كائن
جعلنا منه، بغض النظر عن خصائصه الحقيقية، وفي إطار رؤى ايدولوجية
استوردناها مع كل ما استوردنا....إلها.
أليس الشعب في مخيالنا الجماعي كائنا عظيما،
جبّارا، له كل المحاسن والفضائل والقدرات، يجب أن نمدحه ، أن نشكره ، أن نتبتّل
له ونتضرّع ، مقدمين له كل التضحيات وحتى الأضاحي البشرية ، كل
هذا في جوّ من الإيمان الخاشع بقداسة البعبع. الويل لمن لا يؤمن بهذا الشعب –الإله
فمصيره التخوين على شاكلة التكفير في العلاقة بالإله الآخر.
الإشكالية أن مثل هذا الشعب المخيل لا وجود له على
أرض الواقع ، لا في تونس ولا في جزر الواق – الواق. ثمة فقط مجموعات بشرية متنافرة
تخضع لسلطة دولة بالطوع أو بالكره وداخل هذه المجموعات يحتدم الصراع الشرس
والتنافس غير النزيه بين الطبقات والأجيال والجنسين والأفراد. وهذه المجموعات
البشرية التي ألهتها الايدولوجيا الشعبوية تخطئ أكثر مما تصيب ، ترضخ للقوة،
تطاطئ الرأس حقبة طويلة أمام كل باغ معتد ، '' تبوس الكلب من فمّه حتى
تقضي حاجته منّه'' ''ترقد في الخطّ '' ، تتمرّد عندما تحس بضعف النظام
،تنتقم بشراسة ووحشية لكل ما لحقها من إذلال وحيف ، ولما تصوّت ديمقراطيا ،
تحمل أحيانا لسدّة الحكم هتلر و شارون وجورج بوش .
ما نعيبه اليوم على التونسيين إذن هو''
طبيعيتهم '' في الوقت الذي نعمى هنا مجدّدا عمّا يشكل خرقا للمألوف
والعادي في مثل هذه الظروف.
أنظر للسرعة التي انهار بها اتحاد الشغل وتخلي
الجميع عن وظائفهم الطبيعية سواء كان ذلك داخل القضاء أو الصحافة أو في
ميادين الثقافة والصناعة والتربية . انظر للسرعة التي تبخر بها التضامن داخل
المهنة الواحدة ، داخل الجهة الواحدة ، داخل العائلة الواحدة .
لكن أخطر ما في شذوذ التونسيين عن التجمعات
السياسية البشرية الطبيعية التي حافظت على الحدود الدنيا من التضامن
والترابط هو في قرارهم الضمني العيش مع المرض لا مقاومته. انظر إلى امتلاء
الجوامع .إنه ليس الظاهرة الصحية التي يستبشر بها السذّج وإنما
دلالات المرض، لأن من يملئون هذه الجوامع يستنجدون
بالعادل الذي في السماء لمحاربة ظالم في الأرض رفضوا مواجهته وتحمل أعباء
ومخاطر الأمر. نحن أمام مظهر آخر من مظاهر الفرار العام من المسؤولية . ثمة من يفرّ نحو الكحول والمخدرات . ثمة من يفرّ
نحو الاستقالة واللامبالاة . ثمة من وجد الطريق إلى البحر والآخر طريقه إلى
السماء.
وفي الأثناء تواصل العصابات تحت حراسة البوليس
السياسي اغتصاب وطن استقال منه حماة الحمى .
*
ثمة ظروف يجب أن تتوقف الحركة لإعادة التفكير في كل
المسلمات والبديهيات و إلا فالمصير الدوران في نفس الحلقات المفرغة والغرق البطيء
في نفس المستنقعات النتنة .
وأولى المراجعات تنطلق من الظاهرة الأساسية :
كل هذا الصمت وهذا الوهن الذي يظهره '' الشعب''.
من المقولات الشهيرة لسيء الذكر الحبيب بورقيبة
أنه خلق شعبا انطلاقا من غبار الأفراد .
وهذا ادّعاء كاذب لأنه لو خلق شعبا
لوجد من يحميه و ينتصر لتراثه وخاصة لما استطاع خلفه تذرير المجتمع بالسهولة
الغريبة التي عرفناها.
لقد نجح المغتصب إلى حدّ كبير،خاصة وهو التقني الذي
لا يبارى في كل أصناف القمع، في تفكيك كل الروابط وكل العصبيات . لا شكّ أن
أنجح تقنياته تمثلت في تعميم قاعدة 5=5 أي خمسة سنوات سجن لمن يعطي خمس
دينارات لأخيه السجين أو زوجته أو أطفاله الجياع . لقد ضربت هذه القاعدة التي عشنا
عليها طوال التسعينات كل أواصر التعاضد والتكافل وكان الأمر مقصودا ومتعمّدا
حتى لا يواجه الدكتاتور إلا قطيعا من غنم خائفة من الذئب وخائفة من بعضها البعض .
حقا الأمر '' طبيعي '' في كل نظام دكتاتوري لكن ما هو غير الطبيعي سرعة وسهولة
الانهيار وكأن غبار الأفراد الذين أوهم بورقيبة نفسه وحتى التونسيين أنه جعل منهم
شعبا لم يكونوا إلا غبار أفراد افتعلوا طوال حكم '' المجاهد الأكبر'' أنهم شعب
مثلما افتعل السوفيات واليوغسلافيين أنهم أمم متحدة ومتآخية .
إن ما يصنع أي شعب ليس فقط خصائص موضوعية
تتقاسمها جملة من الأفراد كاللغة والدين وعادات الأكل والزواج . تحدّد هذه
الأخيرة فقط المعالم الكبرى للتجمع البشري أي الهوية التي تميزه
.
إنها الشرط الضروري لظهور العصبيات التي
تربط الأفراد لكن الشرط الأساسي لولادة الشعب هو وعي الأغلبية
بارتباط مصالحها ببعضها البعض وبضرورة اضطلاع كل فرد بمسؤوليته في
الدفاع عن هذه المصالح وتعهدها وتطورها . هو في ممارسة ما نسميه الحريات الفردية
والجماعية التي تخلق المواطنة ومن ثمة المواطن . والقانون أنه بقدر ما ينخرط
الناس في الشأن العام بقدر ما تزداد اللحمة بينهم وبقدر ما يتهيكلون كشعب
فاعل فعلي. لكن بقدر ما ينكفئ كل فرد على الشأن الخاص
بقدر ما تتذرّر المجموعة إلى غبار من الأفراد يعيشون في ظل تجاور أنانيات مغلقة
على ذاتها . والقاعدة أيضا أن الدكتاتورية هي النظام الذي لا يعيش إلا بقمع
المواطنين وتعهد الرعايا بينما الديمقراطية هي النظام التي تحاول خلق
اكبر عدد من المواطنين من الرعايا التي ترثهم تركة ثقيلة من عصور التخلف
والاستبداد.
آن الأوان لنفهم الدرس الذي علمنا إياه التاريخ وهو أن هناك فرقا
هائلا بين تجمّع من الرعايا تحكمهم دولة وتجمّع من المواطنين
تخدمهم دولة. أما التجمّع الأول فغبار من الأفراد يجمعهم طبل وتفرقهم عصا. أما
التجمّع الثاني فهو وحده الذي له الحق في صفة شعب . شتان بين من يطالب بحقوق لا
يمارسها وبين من يمارس حقوق لا يطالب بها . شتان بين من روّض دولته وبين من
زال لها عبدا حقيرا . شتّان بين من زال في بداية طريق التحرّر وبين من قطع
أهمّ أشواطه.
والقاعدة أن عملية توسيع رقعة المواطنين وتناقص عدد
الرعايا عملية طويلة النفس تعطلّها الدكتاتورية وتسرع بها الديمقراطية . الهامّ في
الأمر أنها تنطلق دوما من نواة تتشكل كنخبة أخلاقية-فكرية
ترفض الإذلال ولا ينفع معها التضليل . إن مسؤولية هذه النخبة منذ بداية
التاريخ كسر الحواجز الذي تعترض تحرّر الأغلبية . هي بمثابة قوى الاستكشاف
وأحيانا يضحى بها وتضحي بنفسها لفتح الطريق.
الحادث الأول الذي عرفناه في تاريخنا الحديث هو تمكن
نخبة من المواطنين من الدولة بالاستقلال الأوّل ، لكنها
لم فتح باب المواطنة للتونسيين وإنما استرعتهم .
الحادث الثاني الذي نعيشه اليوم هو تخلّي
النخب عن دورها في قيادة عملية الانتقال من مجتمع الرعايا لمجتمع المواطنين ، هذا
من فرط الحياء والاعتدال والوسطية والواقعية الدولية وذاك من فرط الحذر وحتى
الجبن والثالث من فرط الطمع والآخر من فرط الكسل .
لنلخّص: نحن اليوم
شعب مزيف يعيش في جمهورية مزيفة في ظل ديمقراطية مزيفة تلعب فيها معارضة
مزيفة دور شاهد الزور. نحن
غبار من الأفراد -ما عدا بعض الجزر المعزولة من المواطنين نعيش تحت قبضة عصابات
الحق العام صنعت ديكورا من المؤسسات توظفها لإضفاء غطاء من الحداثة والشرعية على
دكتاتورية فاسدة يسندها قمع البوليس السياسي ودعم
العراب الغربي واستقالة شبه جماعية . نحن مرضى لا نبحث عن التعافي وإنما عن
تخفيف الوجع.
كيف الخروج من وضع هو بمثابة انتحار بطيء ؟
*
ما سيتبع ليس وصفة خلاص لأنه لا وجود لشيء من هذا
القبيل. ثم هذه حالة لا ينفع في التعامل معها منقذ أو وصفة رخيصة السعر مضمونة
المفعول . هي تتطلب منقذين بأكبر عدد ممكن ، ينقذوا أنفسهم من احتقار أنفسهم
ومن الاستقالة والإحباط ، ينقذوا مستقبل أطفالهم وأحفادهم ، ينقذوا إخوانا
لهم في الدين والعروبة والشقاء - وإن تخلّوا
و ضعفوا - ، ينقذوا بعضهم من بعض..... وينقذوا
ما تبقى لهذا '' الشعب'' وهذه '' الأمة'' من شرف.
ما سيتبع قائمة غير حصرية بما يتطلبه الوضع
للعودة إلى الحالة الطبيعية وهذه الأفكار رؤوس أقلام لما يجب أن يتشكل كمشروع
جماعي للإنقاذ الوطني يتحمّل مسؤولية إنجاحه كل واحد منكم.
- عدم المهادنة أو المساومة أو المصالحة مع
الدكتاتورية تحت أي حجة وبأي وسيلة كانت واعتبار رحيل الدكتاتور وعائلته وحلّ
بوليسه السياسي وتجمّع الانتهازيين الذي يختفي ورائه وسائل من قبيل التطهير
الصحي العامّ لبلاد أمرضها ودنّسها الاستبداد .
- وضع كل الأطراف السياسية الحالية أمام مسؤولياتها بخصوص
نتائج '' الانتخابات'' الأخيرة . فالقول بعدم شرعيتها يعني عدم الاعتراف بشرعية
السلطة الحالية والتعامل معها إذن على هذا الأساس ...أي التقدّم كبديل
والإعداد لكل ما يتطلبه ما الأمر والاستعداد لما يتطلبه من تضحيات . بصريح العبارة
نحن مطالبون بإنهاء فترة المعارضة للدخول في فترة المقاومة .
- يتطلب هذا شق خطّ فاصل احمر بين
المقاومين (وهم متواجدون داخل أجهزة الدولة وداخل النهضة وداخل الأحزاب العلمانية
وداخل القطاعات الصامتة ) وبين كل من يريد حلا مع الطاعون سواء كانوا من
داخل هذه الجماعات الصامتة أو من داخل الإسلاميين أو من جماعة
''سنشارك في الانتخابات المقبلة - لنتمرّن- ونفتح فروع في الجهات- ونوصل السارق
إلى باب الدار- ونظهر سوء نية النظام - ونفضحه أمام الشعب والعالم أجمعين''.
يكفي ما ضحكوا على أنفسهم وما أضحكوا عليهم العصابات.
- القبول بأن المعركة ستبقى لفترة طويلة مسؤولية
النخب وأن الرعايا لن تلتحق بالوحدات الصغيرة للمواطنين إلا إذا وجدت عندهم خطّا
وخطّة. بقدر ما يكون الخطّ صلبا والخطّة واضحة بقدر ما سيتزايد عدد
المنخرطين في المقاومة . بقدر ما سيتواصل تشويش البعض وتهرب البعض الآخر من
المسؤولية بقدر ما تفقد جحافل الرعايا كل قدرة على التمييز والتجنّد
والثقة في إمكانية تغيير وضعيتها المزرية .
- هذه المقاومة يجب أن تكون سلمية لا استسلامية.إن
الخيار السلمي أصعب الخيارات واضمنها بما يعنيه من طول نفس وتعود على
الخروج للشارع والتظاهر والإضراب القطاعي ثم الإضراب العامّ ، كل هذا في
مواجهة عنيدة مع البوليس السياسي إلى أن ينهار بناء مبني على دعامات قل من
يتصوّر مدى هشاشتها الفعلية .
- الهدف الستراتيجي لهذه المقاومة وشرفها
ومسؤوليتها ألا تخون ثانية مثلما فعلت نخب الاستقلال الأول عندما استرعت
التونسيين. هذه المرّة يجب أن يكون واضحا أن الهدف خلق شعب من المواطنين
بدءا من غبار الأفراد الذين أخصاهم ''المجاهد الأكبر ''وأذلّهم المغتصب وذلك
عبر ضمان وممارسة كل الحريات الفردية والجماعية وعدم التساهل قيد انملة في هذه
الحقوق وفي قضية التداول السلمي على السلطة.
- الهدف التكتيكي أن تكون سنة 2005 سنة
تجمع المقاومين حول هيكل ومشروع حتى يعود الرقاص الذي ذهب إلى أبعد نقط الانهزامية
والاستسلام والخنوع إلى نقطة توازن تعيد للتونسيين احترامهم لأنفسهم.
***
27-11-2004
No comments:
Post a Comment