منذ
انطلاق الانتفاضة في سورية قبل نحو سنتين، لقي حوالى 80 ألفًا حتفهم،
وتشرّد الملايين، وتحوّل معظم البلاد إلى خراب. ومع ذلك، فإنّ الغالبية
العظمى من كبار ضبّاط بشّار الأسد بقيت موالية له.
إنّ استمرار دعم الضبّاط النظام
كان متوقّعًا قبل الانتفاضة، ولم يكن مفاجِئًا لكلّ من كان على معرفة
بالسياسة والمجتمع والمؤسّسة العسكرية في سورية. لماذا؟ صحيح أنّنا عاجزون
عن التنبّؤ متى يمكن أن تنطلق الانتفاضات، إلّا أنّنا نعرف شيئًا مهمًّا
عنها، هو أنها حين تنطلق لا تلبث أن تفشل من دون دعم الجهاز القمعي للنظام،
ولا سيّما الجيش النظامي. إنّ دعم الجيش الثورة، أو على الأقلّ حياده،
شرطٌ ضروري لنجاحها. ما الذي يحدّد إذًا موقف الجنرالات من الثورة؟ وهل
يمكن التنبّؤ بردّة فعلهم على ثورةٍ ما في سياقٍ محدّد؟ إنّ محصّلة
المتغيرات المتفاعلة معًا تحذّر بشدّة من القيام بتنبّؤ قاطع. ولكن، وكما
قلت في مقالةٍ نشرتها في نيسان / أبريل 2013 في مجلّة Journal of Democracy، من الممكن التنبّؤ بافتراضٍ صائب بردّة فعل الجنرالات على الثورة، إذا عرفنا كيف يتوصّلون إلى اتّخاذ قراراتهم.
يعتمد الجيش على أربعة مصادر
معلومات متميّزة في معرض صوغه تعامله مع الثورة؛ ففي المقام الأوّل يقوّم
الجنرالات تماسك القوّات المسلّحة وأوضاعها وتركيبها؛ على سبيل المثال هناك
ألوية عسكريّة ذات توجّهات اثنية - دينية مشتركة تتوزّع على وحدات نخبويّة
وعاديّة في سرايا القوّات المسلّحة. فهل هو جيشٌ يعتمد المتطوّع أم أنّ
أفراده مجبرون على الخدمة العسكرية؟ وثانيها رؤية الجنرالات للنظام وتعامله
مع القوّات المسلّحة وسجلّه في الحوكمة وتوجّهاته نحو العسكر خلال الثورة.
أمّا المصدر الثالث للمعلومات الذي يعتمد عليه القادة العسكريون فهو
المجتمع، ولا سيّما العلاقات بين القوّات المسلّحة والمجتمع وشعبية
الانتفاضة والسمات الرئيسة للاحتجاجات مثل أحجامها وتشكيلات المشاركين
فيها. وأخيرًا فإنّ ردّة فعل الجيش على الثورة تتأثّر بالسياق الدولي
أيضًا، ومسائل أخرى؛ مثل المدّ الثوري وخطر التدخّل الخارجي.
ما من داعٍ للقول إنّ هذه
العوامل التفسيرية وغيرها يُنظر إليها على قدم المساواة؛ فالبعض يولي موقف
القوّات المسلّحة من الثورة أهمّية أكبر؛ إضافةً إلى أنّ المتغيّرات التي
قد تكون أكثر أهمية في حالة خاصّة - مثل الانقسامات الطائفية في داخل صفّ
الضبّاط أو الثوّار في محاولة للتآخي مع الجنود - قد تكون ذات أهميّة ضئيلة
في حالاتٍ أخرى، أو أنّها لا تكون عاملًا حاسمًا على الإطلاق في حالات
غيرها. ومع عدم وجود نموذج واعٍ يمكنه إعلامنا - إذا استخدمنا المتغيّرات
الملائمة - بما على العسكر القيام به، فإنّ الحقائق المتوافرة من الثورات
الماضية تسمح لنا بالتوصّل إلى بعض التعميمات المفيدة؛ مثل أنّ الجيوش التي
تعتمد التجنيد الإلزامي هي أقلّ احتمالًا أن تطلق النار على المتظاهرين من
الجنود المحترفين. وفي نهاية المطاف ليس هناك من مخرجٍ للمأزق الناجم عن
حجم كلّ متغيّر؛ إذ إنّ تحديده رهن بسياقه الخاصّ به. ما من حلٍّ وشيك؛ إذ
ليس هناك بديلٌ من معرفة واعية للحالة الخاصّة التي تعنينا.
في بعض الأحوال، لا يكون
التنبّؤ بدور العسكر صعبًا على الإطلاق؛ فبالنظر إلى الانتفاضات العربية
الأخيرة على سبيل المثال، ما من مطّلعٍ على وضع البحرين يُفاجَأ بوقوف
المؤسسة الأمنية البحرينيّة السنّية مع النخبة الحاكمة السنّية في وجه
الثوّار الشيعة. كان من السهل التنبّؤ بذلك؛ لأنّ الانقسام المذهبي العميق
في البحرين يهيمن على جميع العوامل الأخرى التي يمكن أخذها في الاعتبار. في
المقابل، كان توقّع دعم الجيش التونسي الثورة أصعب، ولكن إذا عرفنا أنّ:
أ. ذلك الجيش المجنّد وهو على قسط عالٍ من الحرفيّة، لم يتعاط السياسة قطّ؛
ب. ذلك الجيش كان مكوّنًا هامشيًّا في مؤسسة بن علي الأمنيّة؛
ج. النظام لم يكن يحظى إلّا بشرعيّة محدودة في أعين الجنود والمواطنين؛
د. الانتفاضة لقيت صدى شعبيًّا واسعًا، وكان الجنود منفتحين على التآخي، ولم يتطلّب ذلك معجزة.
ماذا عن سورية إذنْ؟ لماذا
يتكهّن المطّلعون على شؤونها بأنّ أغلبية ضبّاط الجيش ستقف إلى جانب نظام
الأسد حتّى النهاية المُرّة؟ إنّ التشكّل المذهبي للقوّات المسلّحة
السوريّة كان العنصر الحاسم المؤثّر في قرار القيادة العسكرية في وقوفها
الثابت دفاعًا عن نظام الأسد، ولجوئها إلى ارتكاب أعمال عنفٍ على نطاقٍ
واسع. ومع أنّ آلاف المجنّدين ومعظم الضبّاط الصّغار قد تخلَّوا عن الجيش
أو التحقوا بالانتفاضة - باستثناء حالاتٍ نادرة - فمعظم الضبّاط بقي إلى
جانب النظام. كيف يمكن تفسير ردّة فعل الجيش؟
في البدء - في ملخّصٍ موجز -
كانت القيادة في الجمهورية السوريّة - وربّما أكثر من أيّ جمهورية أخرى -
تتخوّف من خطر سقوطها؛ ففي الفترة الواقعة بين 1949 و1970 جرَت عشرة
انقلابات على الأقلّ في دمشق، غالبًا ما كانت تتصارع فيها فصائل عسكريّة
شتّى. وكان الرئيس حافظ الأسد (1971-2000) والد الرئيس الحالي، وهو جنرال
سابق في سلاح الطيران، قد شارك في ثلاثة منها على الأقلّ (1962، و1966،
و1970)، وتيقّن من ضرورة حماية نظامه من الانقلابات. فما إن تولّى السلطة
حتّى استأثر بالمؤسّسة العسكرية، ووحّد شتّى فصائل الضبّاط، وأسّس عددًا من
تشكيلات الأمن الداخلي - وأشرف عليها جميعها - التي يتجسّس بعضها على بعض
وعلى القوّات المسلّحة النظامية في محاولةٍ منه لضمان ولاء العسكر له. وفي
الواقع، فإنّ آل الأسد كانوا طوال حياتهم يمهّدون لانتفاضة شعبية.
مع أنّ أكثرية السوريّين عرب،
باستثناء أقلّية كرديّة (7-8%)، فإنّ سكّان سورية البالغ عددهم 23 مليون،
منقسمون مذهبيًّا (10-11% علويون، و10-11% مسيحيون، وربّما 5% أقليّات
أخرى، لكن الغالبية سنّة في حدود 60-65%). وكثيرًا ما كان هناك توتّر بين
السنّة والعلويّين، لكن حافظ الأسد تمكّن من التعاطي مع نسبةٍ عالية من
نخبة رجال الأعمال السنّة مانحًا إيّاهم فرصًا لإغنائهم. لم يكن من السهل
الحفاظ على الوفاق المذهبي قبل 2011؛ إذ بقي التهديد القسري عائمًا على
السطح؛ ففي شباط / فبراير 1982 تصدّى نظام الأسد لمعقل الإخوان المسلمين في
صفوف السنّة في مدينة حماة، في حملةٍ عسكرية أودت بحياة عشرات الألوف.
لماذا وقف الضبّاط السوريون إلى
جانب نظام بشّار؟ منذ سنة 1955 على الأقلّ كانت أغلبية الضبّاط من
العلويّين، حين بدأوا السيطرة على الجناح العسكري لحزب البعث. فما إن بدأت
الانتفاضة حتّى اتّضح أنّ مسألة الولاء للنظام ذات انتماء طائفي؛ ذلك أنّ
حوالى أربعة أخماس الضبّاط والمسؤولين عن أجهزة المخابرات المختلفة هم
علويّون. ومع أنّ الطائفة العلويّة لا تسيطر على فئة صفّ الضبّاط، يمسك
العلويون بزمام جميع المناصب الحسّاسة والمهمّة في القوّات المسلّحة. وعلى
سبيل المثال، كان معظم طيّاري القوّات الجوّية السورية سنّة. وفي المقابل،
كانت أغلبية ضبّاط قوّات الدفاع الجوّي المشرفين على الاتّصالات والتعبئة
من العلويين، الأمر الذي حال دون وصول الطيّارين إلى السلطة؛ ففي سورية
حوالى دزينة من القوّات شبه العسكريّة يتولّى قيادتها جميعها أقرباء عائلة
الأسد وتتـألّف من مقاتلين أشدّاء موالين للنظام؛ فماهر الأسد شقيق بشار
برتبة عميد، وهو قائد الحرس الجمهوري إضافةً إلى كونه قائد الفرقة المدرعة
الرابعة النخبوية. إنّ هاتين الوحدتين الخاصّتين تشكّلان إضافة إلى الشّرطة
السرّية السّورية، أساس القوّات الأمنيّة في سورية. وكان آصف شوكت صهر
بشّار رئيس المخابرات العسكريّة، ولاحقًا نائب وزير الدفاع (توفّي مع وزير
الدفاع وقياديّين آخرين في انفجار قنبلة في تموز / يوليو 2012).
حين اندلعت الحرب الأهلية، كان
تعداد الجيش حوالى 300.000. وكان ثلث هؤلاء متطوّعين غالبيّتهم من الطائفة
السنّية. ومع بدء الحرب الأهلية، استاء المجنّدون السنّة من مستوى العنف
الناجم عن تصدّي الضبّاط العلويّين للمتظاهرين، فسارعوا إلى الانشقاق. ثم
انضمّ إليهم مدنيّون سنّة. وفي الحقيقة، تتألّف الأغلبية العظمى من الجيش
السّوري الحرّ من هؤلاء الجنود والضبّاط. وقلّة منهم علويّون. ولم يُطلب من
سرايا تتألّف في معظمها من مجنّدين سنّة، التدخّل لقمع الانتفاضة. وعوضًا
عن ذلك، استعان النظام بالفرقتين الثالثة والرابعة والقوّات الخاصّة
والميليشيا وهؤلاء من يطلق عليهم اسم الشبّيحة، وجلّهم علويّون أو أقلّيات
أخرى تتعاطف مع النظام.
من غير المحتمل أن ينقلب
الضبّاط السوريّون على نظامٍ عاملَهم بالحسنى. وبغضّ النظر عن وجود قوّات
شبه عسكريّة ونخبويّة أخرى، فإنّ القوّات المسلّحة النظاميّة ما كان عليها
قبول مكانة ثانوية مقارنةً بالتشكّلات الأمنيّة الأخرى كما كانت الحال في
ليبيا أو تونس. وبغرض الحفاظ على ولاء تلك القوّات، سمح لها النظام بقسطٍ
من الرخاء الاقتصادي ومنحَها منافعَ أخرى. وكما هو شائع لدى الجيوش في
الدول الاستبدادية، فإنّ الجيش السّوري، بحسب Kenneth Pollack في كتابه "Arabs at War"،
أكثر الجيوش العربيّة تسييسًا؛ نظرًا لتشرّبه العقيدة، إضافةً إلى أنّ
الولاء للنظام غالبًا ما يكون له قصب السبق في الترقية عوضًا عن الجدارة
الحرفيّة. كما أنّ آل الأسد أدخلوا ضبّاطًا متنفّذين في بنى حزب البعث
لزيادة تلاحمهم مع النظام.
يرى كبار العسكر أنّ حكم الأسد
وحزب البعث شرعيّان تمامًا، وأنّهم متأكّدون من أنّ الأسوأ واقع لا محالة
إذا كُتبت الغلبة للمعارضة في نهاية المطاف. ومنذ اندلاع الانتفاضة، تمكّن
الأسد ونخبته السياسية الحاكمة من إقناع العلويّين وبعض الأقلّيات الدينية
الصغيرة بأنّ بقاء النظام مرادف لبقائهم أحياء. إضافةً إلى أنّ تورّط الجيش
في الحوادث الوحشية الأخيرة مثل مجزرة حماة، برهانٌ على أنّه ما عاد سهلًا
على الجيش أن يبدّل موقفه. علاوةً على أنّ الجيش - كما يرى محلّلون -
واثقٌ من أنّ الانتفاضة لا تعبّر عن الإرادة الشعبيّة. وتبعًا لمقالةٍ
كتبها موسى الغربي في ربيع 2013 في مجلّة Middle Fast Policy،
فإنّ أغلبية السوريّين تعارض الثورة أو متردّدة في موقفها. وبعبارةٍ أخرى،
فإنّ العلويّين ومؤيّدي حكم الأسد الآخرين ليس لديهم ما يربحونه، بل لديهم
ما يخسرونه إذا انقلب النظام. وبناءً عليه، فإنّهم ماضون في صراعهم حتّى
النهاية كما أعلنوا على الدوام.
ومع أنّ لسورية أعداء كثيرين في
المنطقة ساعد بعضهم الثوّار، فإنّها أبعد ما تكون عن تلك الدولة الشخصانية
على غرار ليبيا في زمن القذافي. إنّ صلتها الوطيدة بالجناح العسكري لحزب
الله في لبنان، قدّمت لها سندًا عسكريًّا مهمًّا؛ والحرس الثوري الإيرانيّ
ونخبته قوّات القدس لم يدرّبا الجيش السّوري فحسب، بل حاربا إلى جانبه
أيضًا. وقد تعهّد حزب الله والحرس الثوري بمواصلة الصّراع ضدّ الثّوار في
سورية حتّى لو سقط نظام الأسد. امتدّ حكم الأسد لعقودٍ طويلة من الصداقة مع
الاتحاد السوفياتي/روسيا، الذي استمرّ مع إيران في تزويد سورية بالسلاح؛
بما في ذلك نظام جديد للصواريخ المتقدّمة. ولذلك وبعكس الثوّار المصرّحين
دومًا بقلّة السلاح والذخيرة، يبدو أنّ النظام لا يفتقر إليهما.
باختصار، إنّ شريحة الضبّاط
التي يهيمن عليها العلويّون لديها ما يبرّر موالاتها لنظام الأسد. وبالنظر
إلى البديل الذي يتوقّعونه من أعدائهم في حال بدّلوا موقفهم بعد انقضاء
أكثر من سنتين على اندلاع المعارك الوحشيّة، فإنّ تبريره يبدو أصعب بكثير.
وفي الحقيقة كما يرى الغربي، فإنّ الانشقاقات قد توقّفت فعليًّا. وأولئك
الذين يعرفون سورية لا يفاجئهم على الإطلاق ولاء الضبّاط للنظام.
*هذا المقال منشور في نسخته
الأصلية باللغة الإنجليزية، وقد ترجمه إلى اللغة العربية قسم الترجمة في
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. يمكنكم الاطلاع على النسخة الأصلية
على هذا الرابط.
زولتان براني
زولتان براني
No comments:
Post a Comment