و أخيرا تسلم الجنرال الجديد محمد
الصالح الحامدي منصبه رئيسا لأركان جيش البر خلفا للفريق أول المتنحي رشيد عمار
الذي ضرب رقما قياسيا في عدد السنوات المقضات على رأس هذه المؤسسة لأكثر من إحدى
عشر سنة. و أعتقد أن تنحيته من على رأس الجيوش الثلاثة كان نتيجة الصورة المهزوزة
التي ظهر عليها جيشنا الوطني في التعاطي
مع أحداث الشعانبي و غضب و امتعاض العديد من قيادات الصف الأول لقواتنا المسلحة ،
إضافة إلى فشله الذريع في التعاطي مع قضية براكة الساحل التي كان طرفا متواطئا
فيها سنة 92 بترؤسه مجالس تأديب صورية أطرد على إثرها عسكريون كانت قد برأتهم
الأبحاث و المحاكمات ، زد إلى ذلك عدم تطبيقه للقانون برفض تفعيل مرسوم العفو العام المؤرخ في 19
فيفري 2011 و الذي جاء لتمكين ضحايا عهود الإفساد والفساد و الاستبداد من نيل
حقوقهم المسلوبة بالعودة للعمل و التعويض ..
و برأيي فإن الجنرال الحامدي الذي
يحظى بثقة القيادة السياسية المنتخبة و بثقة زملائه في القيادة العسكرية الحالية
تنتظره العديد من التحديات و الملفات الحارقة داخليا و خارجيا.
على الصعيد الداخلي فانه من
الأولوية بمكان إعادة ترتيب البيت من الداخل و العمل و بسرعة على استرجاع هيبة
المؤسسة العسكرية ضمن فسيفساء القوات المسلحة بتقوية أداء جنودها تسليحا و عقيدة، و
تطوير قدراتها العملياتية و الإستخباراتية و عدم الاحتماء مستقبلا تحت مظلة القوى
الكبرى أو التحالف معها ، و ذلك بإعادة النظر في عقيدة الجيش القتالية التي بنيت منذ
الاستقلال على تصور مغلوط للعدو الخارجي المفترض إذ تحولت حدودنا البرية مع أشقائنا
في الجزائر و ليبيا إلى مصادر محتملة للاستعداء.. و لم تعتقد يوما أن الدول
الأوروبية أو الحلف الأطلسي أو الولايات المتحدة الأمريكية هي دول عداء..إذ كانت
القيادات السياسية المتعاقبة قيادات فرنكوفونية علمانية بدون مرجعية قومية عربية
أو إسلامية تحدد على أساسها عدوها التاريخي الافتراضي ، و تدفعها إلى بناء جيش قوي
لحماية كيان دولتنا الصغيرة ذات الموقع الإستراتيجي الهام داخل المشهد الجيوسياسي و الإستراتيجي المتقلب
..و اعتبار التنمية و التقدم و تطور التعليم غير مفصولا عن تطور الجهاز العسكري..
لقد كان أقصى ما يقوم به جيشنا في
السابق هو حماية الحدود مع الجزائر و مع ليبيا ، و اختزال دوره في مهمات لحفظ
النظام عندما تتهاوى الأجهزة الأمنية و تفقد فاعليتها، و في تنمية الصحراء ، و التدخل
أثناء الكوارث الطبيعية ، و المشاركة في بعثات حفظ السلام الأممية..
هذا وقد كانت المؤسسة الأمنية بكل تشكيلاتها
منفصلة تماما عن الجيش طيلة عقود من حكم الرئيس المخلوع، متعالية عنه رغم أن قطاعا
من إطاراتها الكبرى و من ضباطها تخرجوا من الأكاديمية العسكرية و من كلية القيادة
و الأركان و من المعهد الأعلى للدفاع، و كان لوزارة الداخلية اليد الطولى على
الجيش خاصة منها جهاز أمن الدولة أثناء الاعتقالات العشوائية للمئات من العسكريين
الأبرياء في قضية وهمية نسج خيوطها النظام السابق بالتواطؤ مع القيادة العسكرية
العليا آنذاك لتحجيم الجيش و إفراغه من نخبه ذات الكفاءة و الانضباط و الالتزام ..في
ما بات يعرف بقضية براكة الساحل سنة 91 ..
لذلك وجب التنسيق مستقبلا بين
القيادات العسكرية و الأمنية وفق نصوص قانونية و ترتيبية صالحة لزمن الحرب و زمن
السلم و خلال حالات الطوارئ، بعيدا كل البعد عن التنافس بين المؤسستين الذي كان
يشجع عليه النظام السابق إلى درجة حصول كراهية بين السلكين..
أما على الصعيد الخارجي ، فكلنا
يتذكر تلك الزيارة التاريخية الأولى بعد الثورة ، لوزير الدفاع الأمريكي "ليون بانيتا" لتونس ، و التي تضمنت هدايا مؤجلة في شكل شحنات أسلحة
متطورة من أجل إعادة بناء و تسليح الجيش التونسي ..هاته الزيارة طرحت و لا زالت
تطرح العديد من التساؤلات حول خفايا و غايات هذا الاهتمام المتعاظم لتونس سياسيا و
عسكريا ، و ما خلفيات التركيز على المؤسسة
العسكرية تحديدا ؟ و ما هو الدور أو الأدوار التي يراد لتونس و جيشها أن يلعبها في
ظل التحولات التسونامية التي يشهدها المشهد الجيوسياسي و الجيواستراتيجي العربي و
العالمي؟ ثم وهو الأهم ، ما تداعيات كل ذلك على استقلالية و سيادية القرار التونسي
أولا و على الأمن القومي العربي و الإفريقي عموما.. ؟
لقد ذكر الناطق
الرسمي باسم وزارة الدفاع الأمريكية أن "بانيتا" كان يهدف من خلال
هذه الزيارة رسم خارطة طريق للعلاقات العسكرية المقبلة بين تونس و واشنطن بإعادة ترتيب
الأدوار في ظل المتغيرات الإقليمية و العالمية لتتناغم و الإستراتيجيات العسكرية و
الأمنية و الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية ..
هذا إذا المعلن من هذه الزيارة أما
ما يخفيه "بانيتا " و من ورائه الإدارة الأمريكية فهو العمل على إعادة الاعتبار
للمؤسسة العسكرية التونسية و توجيهها من خلال الدعم المادي و برامج التدريب و
طبيعة المهمات و مسارح العمليات ، و العمل على محاولة تشكيل عقيدة عسكرية جديدة
للجيش التونسي بما يضمن توظيفها لتأمين المصالح الحيوية و الإستراتيجية الأمريكية
، و ربط تونس و المغرب العربي بالمنظومة العسكرية و الأمنية و الإستخباراتية
الأطلسية و تحديدا ما تشرف عليه أفريكوم ( القيادة الإفريقية ) حاليا، مع تأطير
الجيوش المحلية و الإقليمية لكي تخوض بالوكالة حروب الولايات المتحدة المستعرة و
الكامنة ضد تنظيم القاعدة في بلا د المغرب و في مالي .. بما ينسجم و مقاربة المنظومة
الأطلسية..
هذا إذا ما تخفيه زيارة "
بانيتا " إلى تونس و على القيادة السياسية و العسكرية في تونس ما بعد الثورة البحث
عن أيسر السبل للمناورة الجيدة و المقاربة الأخف ضررا للمحافظة على مصالح تونس
الإقليمية في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها بلادنا ، علما و أن النموذج الوليد
في الحكم بعد الثورة ( الترويكا ) لا يحتمل أعباء تحالف استراتيجي مكلف في ظل ما
تعيشه منطقة المغرب العربي من انفلات أمني و فوضى سلاح و أقطار فاشلة .. مع الانتباه
لمضاعفات أي دور محوري على علاقات تونس بدول الجوار، خصوصا الجزائر التي يتربص
بها...
إن النفاذ نحو المؤسسة العسكرية لا
يشكل حظرا على عقيدة أبنائها فحسب ، بل و يصادر على استقلالية و سيادية القرار
الوطني.صحيح أن الوضع التي تمر به تونس دقيق وعلى غاية من الحساسية ، مما يقتضي
الحكمة و عدم استعداء من لهم مصلحة في إجهاض الحراك الثوري جنينا ، و لكن ذلك لا
يبرر مطلقا أن نمارس نفس نهج نظم مرتهنة و غير شرعية تدين لهم ببقائها و مستعدة للمقايضات
لمجرد الاستمرار بالحكم !
الإدارة الأمريكية لا عهد لها و لا
ميثاق سوى مصالحها، و كل الذي يحركها أطماعها الإمبريالية..متخفية وراء شعارات دعم
" الانتقال الديمقراطي " و أكمة حروب " مكافحة الإرهاب " و
فزاعة السلفية الجهادية ..من أجل تحقيق استراتيجيات إمبراطوريتها الكبرى عبر
العالم و سعيها المحموم للسيطرة على الموارد الطبيعية و إحكام قبضتها على المنافذ
المائية و المناطق ذات الأهمية الجيوستراتيجية الحيوية ..فهي لا تقدم إكراميات و
لا هدايا حبا في تونس..بل تقدم مساعدات في تناغم تام مع إستراتيجية بلادها
السياسية و العسكرية .. فماذا عن إستراتيجية بلادنا نحن يا ترى ؟
---------------------------------------
* نقيب مهندس / أستاذ العلوم
العسكرية بالأكاديمية العسكرية سابقا
No comments:
Post a Comment