مقدمة
هدف البحث هو خطوة تابعة لمحاولة (essay) قمنا بها حول ضرورة إعادة النظر في أسس التحليل الاقتصادي لما وجدنا من إخفاقات في النظرية الاقتصادية الوضعية الكلاسيكية والنيوكلاسيكية وحتى في النظرية الاقتصادية الحديثة سواء كانت من مدرسة جون مينارد كينز أو من مدرسة ميلتون فريدمان لإيجاد حلول للمشاكل التي تواجها المجتمعات سواء صّنّفت بالمتقدمة أو بالناشئة. فكلنا بشر، والتمييزات التي فرضتها أدبيات مغرضة سواء كانت غربية أو عربية إسلامية والتي تؤكد على التمايز في كل شيء ليست إلاّ تبريرات لسياسات هيمنة وسيطرة لنخب حاكمة أو طامحة للحكم هنا أو هناك. لست هنا في إطار تفكيك تلك الأدبيات المغرضة التي تميّز الشرق عن الغرب فهناك مؤلفات قيّمة جدا قامت بذلك التفكيك ولا داعي للتكرار. لكن ما يهمنّا هو البحث عن أدوات تحليل جديدة تمكننا من معالجة المعضلات الاقتصادية المزمنة كالبطالة، والتنمية غير المتوازنة في كافة المجتمعات، والفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين فئة قليلة تمركزت بيدها الثروة وسائر الشرائح التي ترزح تحت وطأة السعي إلى لقمة العيش بكرامة ومكافحة الفقر، ناهيك عن الجهل الممنهج السائد لكافة شرائح المجتمع بواسطة الفضائيات التي تروّج ثقافة استهلاكية وترك العقل النقدي الذي ميّزنا عن الغير في العصر الذهبي والذي أنتج المعرفة التي نُقلت إلى الغرب. وليست هذه القائمة من الأهداف كل الأهداف بل ربما أبرز ما يتّم طرحه في المنتديات الفكرية والسياسية والاقتصادية.
وإذا كنّا وصلنا إلى نتيجة هي ضرورة إعادة النظر في أدوات تحليل لا تصلح لحل المشكلات الاقتصادية فكان لا بد من إما ابتكار أدوات جديدة أو البحث في آماكن أخرى عن أدوات تمكننا من معالجة القضايا المطروحة. إن ما لفت نظرنا في مختلف الأبحاث التي قمنا بها هو وجود بنك أو مخزون معلومات هائل وأفكار مثيرة وغنية في كتب التراث العربي الإسلامي. وهذا التراث الفكري الاقتصادي مهمّش ومغيّب عن كافة مناهج التعليم في مدارسنا وجامعتنا وحتى في الغرب الذي كان يدّعي الموضوعية ومازال. وتبيّن لنا أننا مع سائر الزملاء الاقتصاديين بل المثقفين العرب ما زلنا نرزح تحت هيمنة الغزو الفكري والثقافي الغربي. فمعظم آليات التفكير التي نستعملها هي من صنع الغرب وكأنها صاحبة المعرفة الحقيقية أو الوحيدة وهذا غير دقيق. فتاريخ البشرية المدوّن يتجاوز خمسة آلاف سنة حيث كانت المعرفة مستطونة في الشرق (الصين، الهند، بلاد فارس، بلاد الرافدين والشام، ومصر). غير أن المعرفة في الغرب لم يتجاوز عمرها الثلاثة مائة سنة وهي الآن في إطار العودة إلى الشرق (الصين والهند في الوقت الحاضر). وبات من الضروري التركيز على إنتاج معرفة عربية وإن أدّت إلى إنقطاع العلاقة مع المعرفة الغربية لتكون رسالتنا للبشرية. أما نحن العرب في واقعنا الحالي فيمكن القول أننا مثقفون غربيون ناطقون باللغة العربية!
لذلك ندعو إلى مراجعة شاملة لمنظومتنا المعرفية. فالبداية تكون في إعادة قراءة التراث الذي نجهله للأسف بسبب الغزو الفكري الذي تعرّضنا له وما زلنا خاضعين له. كما علينا أن نتحرر من قراءات مغلوطة للتراث من قبل الذين انتحلوا صفة المعرفة بالتراث وفقا لأجنتدهم السياسية. وفي إطار التغييب الممنهج لتراثنا الغني في الفكر الاقتصادي، بل أكثر من ذلك، هناك محاولات لتسخيفه ولتحقيره عند استحالة تغييبه. والأنكى من ذلك هو تنطّح بعض "المثقفين" العرب المعاصرين لحقبة الهزيمة للدفاع عن الفكر الغربي كممثل للحداثة التي تفتقرها المجتمعات العربية والمسببة لتخلّفنا على حد زعمهم واتهامهم نقد الحداثة كتحالف موضوعي مع "الظلامية والتقليد"! من ضمن ذلك التراث، الفكر الاقتصادي العربي الإسلامي الذي اعتبره جوزيف شومبتر غير موجود بالأساس في حضارتنا، حتى أنه قال: "أما في ما يتعلّق بموضوعنا (يقصد تاريخ الفكر الاقتصادي البشري)، يمكننا بكل آمان القفز فوق خمس مائة عام حتى زمن القديس توما الأكويني (1225-1274)، حيث مؤلفه الجامع الديني (Summa Theologica) يمثل خلاصة الفكر البشري". أي هناك فراغ كبير في الفكر الاقتصادي البشري امتد منذ نهاية الحقبة اليونانية حتى فكر أكويناس، متجاهلا عن قصد أو غير قصد المساهمات العديدة العربية الإسلامية في الاقتصاد وخاصة المالية العامة لكل، على سبيل المثال وليس الحصر، من ابن المقفع (720-756)، وأبو يوسف الدمشقي (المتوفي عام 798)، وابو بكر الطرطوشي (1049-1126) الوزير في الدولة الفاطمية، والماوردي (972-1058)، والغزالي (1058-1118)، وطبعا ابن خلدون (1332-1406). أما في مجال الدورات الاقتصادية ((business cycles فهناك مساهمات البيروني(973-1048) وابن مسكويه (932-1030)، والطرطوشي مجددا والعلامة ابن خلدون أيضا. أما فيما يتعلق بنظرية النقد والأسعار نعود أيضا إلى الغزالي وابن القيّم (1292-1406) والمقريزي (1363- 1442). لايسعنا في هذا البحث التحدّث بالتفصيل عن تلك المساهمات يكفي أن نقول أنها سبقت بعدة قرون مساهمات الاقتصاديين الوضعيين الكلاسيكيين من منتصف وآواخر القرن الثامن عشر حتى مطلع القرن العشرين. كل ذلك للتأكيد أنه يوجد في تراثنا أدوات التحليل المناسبة للواقع الاقتصادي العربي وما علينا نحن الاقتصادييون العرب إلاّ تجديد وتطوير ذلك الفكر.
هذا الموقف الصريح لتغييب الفكر الاقتصادي في التراث العربي الإسلامي طغى وما زال على النخب الاقتصادية العربية التي تهيمن على الجامعات العربية والمنتديات الفكرية الاقتصادية في الوطن العربي. ونعتبر أنه من واجبنا الدعوة إلى إعادة النظر في كل ذلك خاصة وأنه بإمكاننا تبنّي نموذج ترشيدي (paradigm) مختلف عن النماذج والأنماط الفكرية التي تشكّل قاعدة الاقتصاد الوضعي الكلاسيكي والنيوكلاسيكي وحتى الكينيزي وما بعد الكينيزية. أما موضوع بحثنا فهو محاولة لإستشراف معايير جديدة للتحليل الاقتصادي والمقصود هنا هو دور الأخلاقية (ethics) كضابط أساسي للتعامل الاقتصادي بدلا من النفعية (utilitarianism) المتجلية في السعي إلى الربح الأقصى للفرد أو الإستهلاك الأقصى كدليل على اللذة المنشودة وإن كان كل ذلك على حساب مصلحة المجتمع. فالجشع المادي حلّ مكان السعي إلى الربح المشروع وأصبح قاعدة لمشروعية الربح المطلق. نشير هنا إلى الفيلم القيّم للمخرج الأميركي اوليفر ستون "وال ستريت" حيث يقوم أحد أبطال الفيلم بمخاطبة جمعية المساهمين لإحدى الشركات ويقول لهم بكل بساطة أن الجشع قيمة جيّدة (greed is good)، وثم في تابعة الذلك الفيلم يقول نفس البطل أن اليوم أصبح الجشع قانونيّا! وسلوك المؤسسات المالية الكبيرة في الولايات المتحدة خير دليل على تبنّيها لتلك القيمة المنحرفة للنشاط الاقتصادي وما آلت إليه من أزمات وانكماش أو كساد اقتصادي يهدد ليس فقط تماسك المجتمع الأميركي بل أيضا المجتمع العالمي. وبالتالي يمكن القول أن هناك تلازم بين الاقتصاد والأخلاق. "فمن المنظور الإسلامي، يعد الاقتصاد والأخلاق موضوعا لا يتنازع حوله، حيث لا اقتصاد بدون أخلاق. أي بمعنى آخر، إن الاقتصاد الإسلامي تفريع على كل قيم الإسلام، وهي قيم إنسانية بامتياز، لذلك هو اقتصاد قيمي مقابل الإقتصاد الوضعي الموجود في التراث والفكر الغربي.
ملاحظات تمهيدية
كنّا قد أشرنا في بحث سابق أن الاقتصاد ليس علما قائما بحد ذاته بل هو أقرب إلى السياسية إن لم يكن السياسية ولكن بلغة الأرقام. وإذا أردنا التعمّق في ذلك نجد أن الاقتصاد الوضعي وإن كان يحاول شرح وتفسير الحياة الاقتصادية وربط الأحداث والظواهر بالأسباب العامة التي تتحكم فيها إلا أن الإخفاقات التي منيت بها النظرية في التنبؤ ومعالجة الأزمات الإقتصادية تشير إلى عدم دقة ذلك "العلم" مما يفرض علينا البحث عن معايير مختلفة. فالنظريات الاقتصادية السائدة والمبنية على خلفيات دينية وفلسفية وسياسية ليست في آخر المطاف إلاّ وجهات نظر فقط لا غير أو "طرق" في إنتاج وتوزيع الثروة. من هذا المنطلق يمكن التكلّم عن "المذهب الاقتصادي" بدلا من "العلم الاقتصادي". ف"العلم الاقتصادي" يزعم إبراز قواعد إنتاج الثروة ولكن يخفق في تحقيق القاعدة النظرية المستقلّة عن الإنتاج لتوزيع تلك الثروة لأن فرضيات الإنتاج تتحكم بنظرية التوزيع في الإقتصاد الوضعي الكلاسيكي والنيوكلاسيكي. إضافة إلى كل ذلك فإن فرضيات الإنتاج وفقا للمنهج الكلاسيكي أو النيوكلاسيكي أو الكينزي أو ما بعد الكينزي، فرضيات إما خاطئة أو غير دقيقة أو غير واقعية. ومن تداعيات النظرية الاقتصادية الوضعية الكلاسيكية والنيوكلاسيكية بما فيها الاقتصاد الكينزي أو الفريدماني تمركز الثروة بيد القلّة وعلى حساب المجتمع بأكمله. أما المذهب فهو الطريقة للحياة الاقتصادية ومهمته الأساسية هي توزيع الثروة وفقا لمعايير أخلاقية غير موجودة في الاقتصادي الوضعي أو "علم الاقتصاد" أو حتى في الاقتصاد السياسي. لذلك يمكننا القول أن الحضارة العربية الإسلامية بلورث ثقافة متقدمة جدا لتوزيع الثروة غير أنها لم تركّز على ثقافة إنتاج الثروة وإن كانت الأخيرة موجودة في التراث. لكن ما يميّز هذه الحضارة هو ثقافة التوزيع المستقلّة عن ثقافة الإنتاج بينما ثقافة التوزيع تابعة لثقافة الإنتاج في الفكر الاقتصاد الغربي. لذلك إن هدف هذا البحث إلقاء الضوء على أهمية الأخلاق في الاقتصاد الإسلامي الذي هو مذهب أكثر مما هو علم وخاصة في ما يتعلّق بنظرية توزيع الثروة.
وهنا بيت القصيد. الإنتاج هو جزء من المعادلة التي تواجه المجتمعات. غير أن إنتاج الثروة وفقا للمبادئ التي بلورتها النظرية الاقتصادية الوضعية مبنية على خلفية فلسفية وسياسية هدفها إعطاء الفرص للطاقات البشرية المنتجة لتحقيق ما تعتقده من الرفاهية وسعادة الإنسان. لكن مبدأ الفردية والأولولية في ضرورة توفير كافة الإمكانيات لتحقيق النتائج الأمثل يؤديان في آخر المطاف إلى تمركز الثروة بيد القلّة. كما أن نظريات التوزيع في الاقتصاد الوضعي الكلاسيكي والنيوكلاسيكي وحتى الكينزي وفيما بعد الفريدماني (أي النيوليبرالي) وُجدت لتخفيف الفجوات الناتجة عن التركيز على إنتاج الثروة وهي غالبا ما تكون على حساب المجتمع. لذلك يصبح البحث في قوانين الإنتاج "علما" بينما يصبح البحث في التوزيع "مذهبا". أما فيما يتعلّق بثقافة إنتاج الثروة في المنطقة العربية والإسلامية فجذورها تعود إلى ما قبل ظهور الإسلام حيث كانت الغنيمة أساس الثروة (وما زالت حتى الآن سواء في التبادل التجاري أو وفي شكل الدخل الريعي). والغنيمة ليست إلا محصلّة اقتناص مجهود الغير سواء عبر الغزو أو عبر التبادل التجاري. ولنا في ذلك الموضوع أبحاث نفصّل فيها بنية الاقتصاد الريعي وجدوره في الوطن العربي والثقافة المدمّرة الناتجة عنه.
ملاحظة حول "وضعية" الفكر الاقتصادي الغربي
ذكرنا في مطلع البحث أن الفكر الاقتصادي الغربي يوصف بشكل عام ب"الوضعية" وذلك تمييزا عن الفكر الاقتصادي الموجود في التراث العربي الإسلامي. و"الوضعية" ناتجة عن فلسفة للحياة أوجدها الفيلسوف الفرنسي أوغوست كونت في القرن التاسع عشر (1798-1857). و"الوضعية" مقرونة عادة مع العلم أو العلوم والمقصود هو العلوم الاجتماعية الوضعية، ومنها الاقتصاد، تلك العلوم التي تستوحي قوانينها من الوقائع المادية الملموسة والتي يمكن قياسها خلافا لتلك القوانين أو الإرشادات الدينية أو الغيبية. ونلفت النظر أن أوغوست كونت كان صديقا للفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت ميل (1806-1873) مطوّر المذهب النفعي (utilitarianism) في تفسير السلوك الاقتصادي للمجتمعات. فذلك المبدأ أوجده أستاذه الفيلسوف الإنكليزي جيريمي بنتهام (1748-1832) الذي اعتبر أن السياسة التي تحقق أكبر نصيب من السعادة هي السياسة الصائبة. وهو الذي حاول قياس السعادة أو اللذة والألم لتحديد المرتبة الأخلاقية لأي سياسة. أما ميل فكانت مساهمته في النفعية للتمييز بين مختلف أنواع السعادة. أي بمعنى آخر أتت الفلسفة الوضعية لتلقي ظلالها على العلوم الإنسانية ولتميّزها عن العلوم الدينية والفلسفة بشكل عام. لذلك نرى الجنوح في الغرب إلى وصف الاقتصاد ب"علم" لأن منطلقاته مادية و"علمية". لكن ما نريد أن نألفت النظر إليه هو أن تلك المنطلقات للفكر الاقتصادي الغربي الموصوفة ب"العلمية" أو "الوضعية" هي منطلقات دينية وفلسفية برّرت السلوك الاقتصادي والسياسات الاقتصادية. فمؤلف ماكس ويبر (1864-1932) حول صعود الرأس المالية يعود في رأيه إلى الأخلاقية البروتستنتية! كما أن الفلسفة النفعية لجيريمي بنتهام وجون ستيوارت ميل ليست إلا استنتاجات لمبادئ فلسفية لا تخلو من البعد الديني. لذلك نعتبر أن التمييز في "وضعية" الفكر الاقتصادي الغربي و"دينية" الفكر الاقتصادي في التراث العربي الإسلامي تمييزا غير دقيق هدفه فقط إسقاط القيمة "العلمية" عن الأخير. غير أننا نستعمل الوصف المذكور تسهيلا للتمييز بين الفكرين دون تبنّي الأبعاد لذلك التوصيف.
من جهة أخرى هناك من يرى أن الأحكام في القرآن لها طابع رياضي ومحاسبي كما أشار توري: إن مجموعة العقيدة القرآنية رياضية بامتياز. "فالعلاقات المتبادلة بين الله والإنسان طبيعتها "تجارية" محضة. أدخل الله العالم كله في سجل الحسابات. كل شيء محسوب، كل شيء مُقاس. أوجد كتاب المُحاسبة والميزان ونفسه كالمثال الأعلى للأعمال الصادقة. الحياة معاملة يُمكن فيها الربح ويُمكن فيها الخسارة. إن من يقوم بالعمل الصالح أو غير الصالح (أي يربح الحسن أو السيء) يستوفي كاملا حقه حتى في هذه الدنيا. بعض الديون تُعفى لأن الله ليس قاسيا دون رحمة (كتب على نفسه الرحمة). المسلم يقرض الله قرضا حسنا ويدفع سلفا لدخول الجنة. يبعيه روحه وهذه تجارة رابحة. الكافر باع الحقيقة الإلهية بثمن بخس. كل نفس رهينة للدين الذي تعاقدت عليه. يحاسب الله الناس في يوم القيامة . جميع أعمالهم مدوّنة في الكتاب الكبير وتُوزن. الكل يأخذ حقه ولا يُظلم. يأخذ كل من المؤمن والكافر أجره. أما المؤمن فيأخذ كفاءة إضافة للأجر المضاعف". ويضيف ماكسيم رودنسون أن الرياضيات تفرض العقلانية بامتياز فمساحة العقلانية في القرآن واسعة. هذه الملاحظة تدّل على أن التمييز بين "الوضعية" في الغرب و"الغيبية" في دار العرب والإسلام تمييز غير دقيق. فهناك قراءات "علمية" للقرآن وتعاليمه تلغي التمايز المصطنع.
المقطع الأول: القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي
1. 1- محورية الإنسان في القرآن الكريم
هناك انطباع خاطىء في الغرب وحتى عند بعض المثقفين العرب يركّز على شمولية الإسلام على حساب الفرد. وإذا كنّا نتحفّظ على ذلك الوصف غير الدقيق سواء عن مفهوم الإسلام أو عن تغييب الفرد وجدنا من المفيد أن نلحظ أن الإسلام كعقيدة واضح ومفهوم من مجموع المسلمين الذين يبلغ عددهم حوالي مليار وثلاث مائة مليون أي ما يوازي تقريبا ربع البشرية. إلا أن الإجتهاد في الإسلام لمختلف القضايا الحياتية والاجتماعية أوجد تفسيرات عديدة ومختلفة تتنافى مع النظرة إلى الإسلام ككتلة واحدة وجامدة. وبالتالي يمكن القول أن هناك أكثر من موقف في مختلف القضايا التي ليست مرتبطة بالعقيدة تنذر بأنه لا يمكن وصف موقف معين بأنه موقف الإسلام ككل. من هذا المنطلق نبدي تحفظنا على كل نظرية تبدأ بالقول : "إن موفق الإسلام من القضية الفلانية هو كذا أو كذا..."
أما التحفّظ الثاني هو الإنطباع أن دور الإنسان مهمّش أو غير مهمّ والدور الأساسي هو للجماعة. نعتقد أن هذا المفهوم خاطئ لعدة اعتبارات أهمها تركيز القرآن الكريم على دور الإنسان ومسؤوليته في تحقيق مصيره. جاءت في القرآن عدة آيات توصف الإنسان الذي خلقه الله من تراب وبثّ فيه من روحه، أي هناك شيء من الألوهية في الإنسان وفقط فيه، أنه مسؤول عن أعماله وذلك بمشيئة الله. فالآيات عديدة تؤكد مسؤوليته في اتخاذ قراراته وتحمّل نتائجها. لا داعي لنا للخوض في السجال الذي قام به المعتزلة حول القدرية والجبرية إلا أن ما نريد تأكيده هو أن الإنسان في فهمنا للنصوص القرآنية سيّد نفسة وسيتحمّل نتائج عمله سواء في هذه الدنيا أو في الآخرة. وتأتي قصة آدم في القرآن الذي علمّه الله "الأسماء" وأعطاه الحواس للإدراك والتمييز (القلم وما يسطرون) تشير إلى ميله للضعف والاستماع إلى همسات الشيطان الذي جعل هدفه الأساسي دفع الإنسان إلى الهاوية. وإذا كتب الله على نفسه الرحمة وغفر لآدم إلاّ نه حكم عليه أن يكون دائما عرضة لإغراءات مختلفة تحيده عن الصراط المستقيم كما أنه في حالة امتحان دائم وحالة البلاء. جاء في اللسان العربي أن فعل "بلا يبلو بلوا وبلاء" بمعنى إختبر وجرب وامتحن. لذلك جاء في القرآن: "ونبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس" (البقرة 155)؛ "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم" (المائدة 48). فالإنسان ضعيف للغاية فلا بد من إرشاده: " إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسّه الشرّ جزوعا* وإذا مسّه الخير منوعا*" (المعارج 19-21). ويحب المال حبّا جمّا (الفجر 20)؛ وكافة مظاهر الثراء من قصور مقنطرة وألبسة ثمينة ومجوهرات وخيول مسوّمة (اليوم أضيفت السيارات والطائرات واليخوت إلى الخيل عند الأثرياء!) فقد جاء في القرآن : "زين للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا (آل عمران 14). هنا لا بد لنا من التوقف بعض الشيء على السرد في تلك اللائحة للشهوات. نرى أن في رأس قائمة تلك الشهوت "النساء" وكأنهن من الأصول المملوكة أو المتداولة للرجال! غير أن تعريف النساء في اللسان العربي يعطي معنى آخرا إضافة للمعنى المتعارف عليه وهو أن "النساء" جمع "نسيء" وليس جمع "إمرأة". و"النسيء" هو التأخير أو ما يأتي مؤخرا كآخر الإختراعات أو "الجادجت"! وربما قصة خلق حواء في العهد القديم والإنجيل توحي بأن المرأة خلقت بعد الرجل غير أن القرآن لم يقرّ بذلك بل يقول أن خلق آدام أي الإنسان من تراب وصلب وماء دافق (الطارق 6 و7) دون تحديد الجنس ومن بعده خلق زوجه الذي يمكن أن يكون رجلا إذا كان الإنسان أو آدم إمرأة! فكلمة آدم لا تعني بالضرورة أنه اسم رجل بل صفة! أما البنون فيمكن فهم المصطلح كجمع أبنية وبهذا التفسير نرى أن النص القرآني كما أنزل للرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن ليقلّل من قيمة المرأة أو الأبناء ك"سلع" يشتهيها الإنسان!
هذه اللائحة من الشهوات اللامتناهية إضافة إلى ضعفه البنيوي تجعل الإنسان في حالة توتر دائما يشتهي ما يُعرض عليه ويعمل لإشباع تلك الرغبات مهما كلّف الأمر وإن كانت على حساب مسؤولياته الإجتماعية. وهذا هو هدف الدعاية التجارية في عصرنا التي تخلق حاجات استهلاكية لم تكن موجودة في الأصل. والضغط الدائم على تنمية الشهوات تخلق في آخر المطاف الندرة بحيث الطلب يفوق العرض. كما أن الندرة تنشأ من قبل الذين يعرضون السلع والخدمات عبر تحكّمهم بالكميات والأسعار ولكن هذا حديث آخر. وبالتالي يمكن القول أن الندرة نسبية بشكل عام ومن صنع الإنسان بسبب اللاتوازن بين شهواته الناتجة عن طبيعته وإمكانياته المحدودة.
لذلك أنزلت آيات عديدة تنّظم وتضبط وتكبح نزوات الإنسان. وبما أن أرض الله واسعة وأن نعمة الله لا تحصى وما على الإنسان إلاّ السعي تصبح قضية امتلاك الثروة قضية مسؤولية وواجب في الإنفاق وفقا لأولويات حددّها القرآن. فالمسلمون أمة الوسط أي أمة تبتعد عن كافة أنواع التطرّف في السلوك والمواقف. فالأخيرة لا يمكن إلا أن تكون مبنية على العدل بمعنى القصد في الأمور أو عبارة عن الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط، فالعدل بين الأفراد أساس الملك. لذلك يمكن القول أن القيمة الأساسية في في الاقتصاد الإسلامي هو الإنسان والضابط الأساسي لحركته وسلوكه هو العدل. هذا ما سيتّم بحثه في الفقرات التالية.
1. 2- العدل محور "المذهب" الاقتصادي في الإسلام
الأدبيات العربية والإسلامية والدولية حول محورية مفهوم العدل في الإسلام كثيرة وكثيفة. وبالتالي لا نجد أي حرج في التذكير لأهم ما أتت به. في هذا السياق لا بد من التنوية بالمؤلف المفصلي للسيد محمد باقر الصدر "اقتصادنا" الذي منهج كافة الأفكار المتعلقة بالعدالة في الإسلام. نشير أيضا إلى المؤلف القيّم للأستاذ العلوم السياسية الكبير المغفور له ماجد خدوري حول مفهوم العدالة في الإسلام. من جهة أخرى لا يمكن أن ننسى مؤلف سيد قطب المفصلي حول "العدالة الاجتماعية في الإسلام" كجزء من منظومة فكرية متكاملة وفقا لرؤية المؤلف. وكذلك الأمر لرئيس اتحاد العلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي ومؤلفه المذكور أعلاه بعنوان: "دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي".
1. 1- مصطلح العدل، والقسط، والميزان
قبل المباشرة بالتحليل في أسس الأخلاقية في التعاطي الاقتصادي كما جاء في القرآن الكريم من المفيد أن نتبيّن ما هو مفهوم العدل. جاء في "لسان العرب" في حوالي ثماني صفحات تحديدا وتعريفا لمختلف مفاهيم ومضامين مصطلح "عدل". فالمفهوم الأول هو " ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجوار". كما أن في أسماء الله: "العدل، هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل مصدر سُمّي به فوضع موضع العادل". كما "أن العدل: حكم بالحق". أما فيما يتعلّق بمصطلح "العدالة، والعدولة والمعدلة (بفتح الدال)، كله: العدل". ويذكر ابن منظور عن لسان سعيد بن جبير عن العدل فيجيب: إن العدل على أربعة أنحاء: العدل في الحكم، قال الله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" (النساء 58). والعدل في القول، قال الله تعالى: "وإذا قلتم فاعدلوا" (الأنعام 152). والعدل: الفدية، قال الله عز وجل: "لا يقبل منها عدل" (البقرة 48). والعدل في الإشراك. ففي موضوع الإشراك قال الله عز وجل. "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (الأنعام 1)؛ والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون (الأنعام 150)؛ أاله مع الله بل هم قوم يعدلون (النمل 60). أما في موضوع الفدية فقال: "ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل" (البقرة 48)؛ "ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة" (البقرة 123)؛ "وإن تعدل كل عدل لا يؤخد منها" (الأنعام 70)؛ "عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره" (المائدة 95).
هذه التعريفات المتقاربة للمصطلح جاءت في القرآن الكريم في 28 آية مختلفة كما أحصاها محمد فؤاد عبد الباقي. لكن لم يأت هذا المصطلح منفصلا عن مصطلحات أخرى ك: القسط، والميزان، والحق. فالآية الكريمة : "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" (الحديد 25) والآياتان التاليتان: "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" (الرحمن 9)، و"أوفوا الكيل والميزان بالقسط" (الأنعام 152). والقسط ليس العدل وإن تشابهت المعاني وإلا لما وُجد المصطلحان في آية واحدة : "فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل والقسط وأقسطوا إن الله يحب المقسطين" (الحجرات 9). وكما اشار الدكتور محمد شحرور مستندا إلى أعمال اللساني جعفر دك الباب والعالمين الجرجاني وابن جني فإن القرآن الكريم خالي من الترادف في ألالفاظ. إذا، فإن لمصطلح "قسط" معنى مختلفا عن "عدل" وإن تقاربت المعاني. ويقول الإمام محمد بن أبي بكر الرازي في كتابه "مختار الصحاح" أن القسط، بالكسر هو العدل كما أن القسط أيضا هو الحصة والنصيب. أما القسطاس بضم القاف وكسرها فهو الميزان. لذلك يمكن القول أن العدل هو في الحقوق المعنوية بينما القسط هو في الحقوق المادية. ويضيف بعض المعلّقين أن "ارتباط لفظ القسط في كثير من الآيات بالميزان يرجح هذا المعنى، وكذلك تكرار لفظ أن الله يحب المقسطين ربما على اعتبار أن العدل في الحقوق المادية أصعب وأشق على النفس من العدل في الحقوق المعنوية". ويذهب المعلّق أبعد ويقول: "والنظر في الآيات المتضمنة لمشتقات الفعل الرباعي ‘أقسط’ مما يرجح ذلك المعنى، فقد وردت آيات القسط في عدد من أصناف المعاملات بين الناس".
وهنا ربما من المفيد الإستطراد بعض الشيء حول ذلك المفهوم. إن اللسان العربي يعكس العقل العربي الذي يتميز بالتجريد. ففي دراسة قيمة للدكتور اسكندر عبدالنور حول العقل العربي يقول فيها أن العقل العربي من بين مختلف العقول التي عرفها الإنسان عقل يتمتع بقدرة التفكير المجرد. ومن ميزات التفكير المجرّد (الذي أنتج كل المعرفة العلمية والفلسفية في العصر الذهبي والذي أنتج أيضا ذلك الأدب الرفيع الذي لا مثيل له) للعقل العربي وجود أكثر من بعد واحد في التفكير. وبالفعل فإن العقل العربي متعدد الأبعاد مما يمكنّه من إعطاء أكثر من بعد واحد للمفهوم. يقول عبدالنور في مفهوم "العدل" أكثر من مفهوم واحد كالتي تعطيه التعريفات المختلفة. فالحكم العدلي مثلا هو ظاهرة وتجسيد للعدل وليس بديلا عنه. لذلك جاء في القرآن مصطلحات تضيف وتُوضح المفهوم منها القسط والميزان فأقتضى التنويه.
ومصطلح "العدل" يأتي دائما كحد مستقيم بين طرفين كما جاء في الآية: "وليكتب بينكم كاتب بالعدل" (البقرة 282)؛ وفي الآية 58 من سورة "النساء": "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"؛ أيضا: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" (النساء 129)؛ وفي سورة "الشورى": "وأمرت لأعدل بينكم" (15)؛ والآية المذكورة أعلاه: "فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل". غير أن قبل كل ذلك، يأمر الله عزّ وجلّ : "إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى" (النحل 90).
والعدل يكون بين الناس في جميع الأمور : "وأمرت لأعدل بينكم" و"وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" (الأعراف 181). فالعدل قيمة تستصحب في جميع الأمر وتستحضر دائما الحق معها، حتى في حال الكراهية: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا" (المائدة 8) ، وفي الحكم بينهم: "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين" (المائدة 42).
أما في ما يتعلّق في الميزان فقد جاء في القرآن عدد من الآيات (23) تعطي البعد المادي للقسط وذلك عبر الميزان. فالذي يوازن بين الشيئين هو الذي يساوي ويعدل بينهما. والميزان هو الآلة التي تُوزن بها الأشياء وتُستعمل بمعنى العدل والقسط والأحكام. فقوله تعالى: "والله أنزل الكتاب بالحق والميزان" (الشورى 17). والملفت أن هذه الآيات تتعلق بالتداول والمعاملات بين الناس: ك "ولا تنقصوا المكيال والميزان" (هود 85)؛ وك "فأوفوا الكيل والميزان بالقسط" (الأنعام 152)؛ وك "فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم" (الأعراف 8)؛ وك "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" (الرحمن 9)؛ وك "وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" (الحديد25). هذه الآيات الكريمة تضبط إيقاع العمل في التبادل والمعاملات بين الناس.
1. 2- العدل في الفكر الاقتصادي الإسلامي
هناك نوع من الإجماع عند المفكرين العرب والمسلمين في العصر الذهبي حول مركزية العدل في التعامل الاقتصادي. لقد أشار ابو يوسف للخليفة هارون الرشيد أن العدل جزء أساسي من التنمية وإزالة الظلم يساهم في تسريع عملية التنمية. أما المواردي فقال أن العدل الشامل يؤجج التضامن، وحفظ القانون، وتنمية الأمصار، وتزايد الثروة، وزيادة السكان، وأمن البلاد والمجتمع. (أليس ذلك الأمر جوهر خطابنا النهضوي الوحدوي التنموي المعاصر؟). وليس هناك من شيء يساهم في تدمير المجتمعات وضمير الناس والعالم كالظلم. أما العلامة ابن خلدون فيجزم أن لا تنمية بدون عدل. فالاستبداد يؤدي إلى إيقاف النمو وإلى تراجع الثروة. هذا التأكيد على العدل في التعامل الاقتصادي يميّز الفكر الاقتصادي في التراث العربي الإسلامي عن الاقتصاد الوضعي الذي ينفي القيم والحاجة ويعتمد فقط على ما يعتبره قانون السوق من العرض والطلب.
في الفكر الاقتصادي الإسلامي المعاصر إضافات لذلك المخزون الكبير من الأفكار الاقتصادية كالتمييز الذي جاء به الشيخ يوسف القرضاوي في مؤلفه عن القيم الأخلاقية في الاقتصاد الإسلامي. فبالإضافة إلى ما كل ما سبق أعلاه يحرص القرضاوي على التنبية أن العدل ليست المساواة. فالعدل في نظره هو التوازن بين قوى الفرد وطاقاته الروحية والمادية، وهو التوازن بين الفرد والمجتمع ولا سبيل إلى تحكيم ذلك التوازن إلا بشريعة الله. "فليس معنى العدل المساواة المطلقة، فإن المساواة بين المختلفين كالتفريق بين المتماثلين، كلاهما ليس من العدل في شيء، فضلا عن أن المساواة المطلقة أمر مستحيل، لأنه ضد طبيعة الإنسان وطبيعة الأشياء". وبالتالي، تكون المساواة العادلة مساواة في الفرص والوسائل التي تفسر التفاضل في الأرزاق وتكافؤ الفرص كقوله تعالى: "ولله فضّل بعضكم على بعض في الرزق" (النحل 71). وفي تفسير مبدأ تكافؤ الفرص يسرد القرضاوي قصة من سيرة عمر بن عبد العزيز: يُروى أن ابنا للخليفة الراشد طلب إليه أن يزوّجه وأن يدفع صداقة من بيت المال- وكان لإبنه إمرأة- فغضب الخليفة وكتب إليه: "لعمر الله، لقد أتاني كتابك، تسألني أن أجمع لك بين الضرائر من بيت مال المسلمين، وأبناء المهاجرين لا يجد أحدهم إمرأة يستعف بها، فلا أعرفنك ما كتبت بمثل هذا".
من جهة أخرى إن التفاضل في الأرزاق لا يعفي المجتمع من مسؤولية تقريب الفوارق بين أفراده وذلك وفقا لمفهوم العدل، ولتحقيق التوازن وإطفاء لنيران الحسد والبغضاء وتفاديا للتصادم بين الأفراد والطبقات. وهذا هو فحوى الفقرات التالية.
1. 5- من العدل إلى العدالة الإجتماعية
النتيجة الموضوعية للعدل كقيمة أخلاقية تضبط سلوك الإنسان، وليس فقط العرض والطلب، هي إقامة مجتمع عادل. وإذا كانت العلاقات البشرية مبنية على أسس مغايرة للعدل والقسط نتج عنها الظلم والفساد، فما هو إذا مفهوم ذلك المجتمع العادل وما هي الأسس التي تبنى عليه؟
أولا- المنطلقات العامة
يمكن استخلاص عدة منطلقات لإقامة مجتمع عادل يكون الاقتصاد الإسلامي آلية لتحقيقه نستخلص منها منطلقات خمسة. فالمنطلق الأول هو في آلية الملكية. غير أن الملكية هي لله سواء كانت في الأصول الثابتة أو المنقولة أو الدخل أو الرزق أو المال أو كل ما يشكّل ثروة كقوله تعالى: "ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" (البقرة 107). والإنسان مستخلف بملكية مُوقتة بحياته كقوله تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة 30) وكقوله: "ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات" (نوح 12) وقوله: "تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء" (آل عمران 26) و قوله: "الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر" (العنكبوت 62). كما أن كسب المال وإنفاقة مضبوط بأحكام وطرق محددة في ما هو معروف بالشريعة كي تضمن العدالة. المصطلح الغربي الحديث لذلك المفهوم عن الملكية هو مفهوم الرعاية الطويلة الأجل أو ( leasehold ownership) أي حق الإنتفاع وتنمية الملكية دون أن تكون الملكية مطلقة. والقرآن كان واضحا في آيته الكريمة: "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" (الذاريات 19) أي بمعنى أن الملكية ليست مطلقة للفرد وأن هذه الملكية هي حق رعاية ومقرونة بواجبات ومسؤوليات منها تنمية تلك الأموال ومنها إعادة توزيع الثروة وفقا لمعايير حددها القرآن والتي ستبحث في فقرة لاحقة.
ويجتهد العلماء في ذلك الموضوع للوصول أن الملكية في الإسلام متعددة الأشكال. فهناك الملكية الخاصة للفرد، والملكية العامة للمجمتع، والملكية العامة للدولة. وبالتالي يتميّز الاقتصاد الإسلامي عن كل من الاقتصاد الرأس المالي والاقتصاد الإشتراكي في نظرته للملكية . غير أن التمييز بين ملكية الدولة وملكية المجتمع مسألة فيها بحث لأن ليس هناك من نص يحكم بذلك وإن كانت القرائن التاريخية قد تؤيد ذلك التمييز. فبيت المال الذي أنشأ عند بداية الفتوحات العربية هي أول إشارة إلى ملكية الدولة. ولكن هذا البيت هو للمسلمين أجمع فأين حدود الدولة وأين حدود المجتمع؟ هذا ما لم ينص عليه القرآن وبات مدخلا لمختلف الاجتهادات التي لا يمكن أن يطغى عليها طابع القدسية لأنها من صنع البشر وإن كانت مشروعة ومقبولة عبر الزمان. وإذا استطردنا بعض الشيء نرى أن مفهوم الدولة في التراث العربي الإسلامي قد يختلف عن المفهوم في الفكر والتراث الغربي. ليس هناك من نص قرآني يتكلم عن الدولة أو أحكماها. عالج القرآن قضايا المجتمع وسلوكه. لذلك المجتمع اقوى من الدولة في التراث والتقاليد العربية الإسلامية. أما فيما يتعلق بالسياسة والسلطة فهناك أحكام اجتهد بها وفيها عدد من العلماء كالمواردي في "الأحكام السلطانية". يبدو لنا أن مفهوم الدولة بالمنطق الغربي ليس ضروريا في تراثنا ولا ندري لماذا نتبنىّ دون تمحيص وتدقيق ذلك المضمون والمنطق وكأنه علم اليقين؟!!! من جهة أخرى إن مصطلح الدولة في اللسان الغربي له مدلول الثبوت بينما مدلوله في اللسان العربي التغيير. نعتقد أن المقصود هو تداول السلطة بين السلالات القبلية أو العشائرية في تلك الأزمان أما اليوم فهو بين الأفراد أو القوى والأحزاب. على كل حال هذا بحث يستحق النقاش ولكن في مكان آخر!
أما المنطلق الثاني لإقامة مجتمع العدل فهو الحرية الفردية للإنسان لكن القيود التي تفرض عليها هي لضمان عدم تعدّيه حقوق المجتمع. وهنا نرى أيضا التمايز بين كل من الاقتصادين الرأس المالي والإشتراكي من جهة والاقتصاد الإسلامي من جهة أخرى. فحرية الفرد تكاد تكون شبه مطلقة، نظريا على ما يُزعم في الاقتصاد الرأس المالي، بينما تصادرها الدولة في الاقتصاد الإشتراكي. والحقيقة أن الحرية في الاقتصاد الرأس المالي يصادرها رأس المال خلافا لما يتمّ ترويجه في الجامعات والإعلام والمنتديات الغربية والتابعة لها. فالحرية في كل من النموذجين لما يُسمّى بالاقتصاد الوضعي مصادرة بشكل أو بآخر. الفرق بينهما هو طوعية تسليم الحرية في الاقتصاد الرأس المالي لرأس المال بسبب القوة الدعائية الترويجية لبعض القيم كحرية الاختيار وعقلانية الإنسان وضرورة ترشيد القرار وأن التنافس يساعد في كل ذلك. بينما المصادرة في الاقتصاد الإشتراكي قسرية بسبب لما تعتبره النخب الحاكمة من مصلحة المجتمع وفقا لرؤيتها العقائدية. أما القيود التي تفرضها الشريعة الإسلامية بأحكامها على حرية الفرد فهي الحدود الناتجة عن القيم والمثل التي تُقلّم الحرية وتُصقلها وهي التي تشكّل قاعدة درء الظلم عن الأفراد والمجتمع. فالعدل هو الذي يقوّض الحرية المطلقة. هنا نرى إحدى معالم الوسطية في الإسلام فهي تجسد محصلة التجربة الإنسانية منذ بداية التاريخ حتى اليوم.
هنا نود أن نستطرد بعض الشيء فيما يتعلق بالوسطية. حاول الاقتصاد الوضعي في القرن العشرين أي يأتي بنظرية متكاملة حول التوازن بشكل عام أو نظرية متكاملة تفسّر سلوك المجتمع. لذلك كانت محاولة كارل ماركس (1818-1883) وتنظيره للمجتمع الشيوعي عبر تحليل وتفكيك الرأس المالية. المحاولة الثانية لنظرية متكاملة تتضمن التوازن هي نظرية جون مينارد كينز (1883-1946) ونظريته عن الاستخدام والنقد والفائدة وكانت تلك النظرية أساسا لسياسات اقتصادية ومالية في دول الغرب أنقذت المجتمع الرأس المالي الغربي من الإندثار إبان الكساد الكبير في الثلاثينات من القرن الماضي. أما فيما يتعلق بنظريات التوازن الصرف فكانت محاولات الفرنسي والراس (1834-1910) في القرن التاسع عشر والذي يعتبر الأب الروحي لنظريات التوازن الاقتصادية الحديثة والأميركي جون ناش (1928-) بعد الحرب العالمية الثانية. اصطدمت كافة المحاولات النظرية لبلورة مفهوم متكامل للتوازن بالواقع ولم تأت على ثمار. أصبح هدف التوازن في الفكر الغربي نوعا من الهدف المثالي الذي يصعب تحقيقه وخاصة فيما يتعلق بتحقيق الإستخدام الكامل فلا داعي إذا للإنفاق عليه! وكيف يكون غير ذلك؟ فالفرضيات التي تبنى عليها تلك النظريات إما خاطئة أو غير واقعية وبالتالي نتائجها غير صحيحة بشكل عام. كما محاولات وضع سلوك الإنسان في معادلات رياضية محكومة بالفشل مسبقا. فالإنسان لا يتصرّف وفقا للفرضيات غير الواقعية أو حتى غير الصحيحة التي تتحكم بذلك الفكر. أما في التراث العربي الإسلامي فكان التسليم بأن سلوك الإنسان مبني على نزوات يجب تقليمها وتهذيبها وفقا لمبادئ أخلاقية يقرّها المجتمع طوعا وليس قسرا. الوسطية في السلوك هي الضمان للتوازن والعدل هو آلية ذلك التوازن. الملاحظ أن النظريات الغربية لا تعطي أي دور للعدل أو أي من القيم في تحقيق التوازن الذي تحدّده آليات السوق. النتيجة كانت وما زالت شبه كارثية على المجتمع البشري! الوسطية في القرآن وفي الإسلام تجسيد للتوازن في سلوك الإنسان ومن مكوّنات العدل والعدالة الإجتماعية.
لكن لا بد لنا من لفت النظر أن مصطلح الحرية في القرآن لم يرد بشكل واضح وصريح. فالحرية في التراث الإسلامي والعربي هي ضد العبودية. غير أن المضمون للحرية جاء في المسؤولية التي تقع على خيارات الإنسان بين الإيمان والكفر وبين الصراط المستقيم والإنحراف أو فيما يسميه الدكتور محمد شحرور جدل الإنسان وعبر الحدود المنزلة لضبط سلوك الإنسان. نستذكر هنا ما جاء في القرآن الكريم:"وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا* إقراء كتابك كفى بنفسك حسيبا" (الإسراء 13-14). فلا يمكن أن يكون الإنسان مسؤولا إن لم يكن حرا وهذا كان يقين الجدل عند الفرق الكلامية ونظريات المعتزلة. أما فيما يتعلّق بسلوك الإنسان فإنه خُلق ضعيفا أمام الشهوات والإغراءات والميل للجموح (النساء 28) ولذلك أوجدت القيود أو الحدود التي تكبح جموح الإنسان الناتج عن سلوك يُسيء استعمال الحرية دون أن يتناولها بشكل مباشر. لذلك لا يمكن أن تمارس الحرية إلاّ ضمن مرجعية معرفية، أخلاقية، جمالية، وعرفية. وربما هنا تكمن ضرورة معالجة قضية الحرية في الفكر العربي والإسلامي كقيمة قائمة بحد ذاتها أو كوسيلة لتحقيق سعادة الإنسان. أما فيما يتعلق بالمرجعية المعرفية يجتهد العلماء والباحثون بأن التشريعات تحتاج لبيّنات كالبحث العلمي والمعارف الطبيعية التي تشكل الأرضية المعرفية للمجتمعات. وهذه المعرفة تحدّ من حرية الإنسان بمعنى أنها تبثّ في وعيه معرفة المخاطر لخياراته. أما بالنسبة للمرجعية العرفية، فالمقصود العادات وأعراف المجتمع وتقاليده التي تؤثر في صياغة التشريعات التي تحد من الحرية التي يتمتع بها الإنسان. والمرجعية الجمالية هي التي تعبر عن القيم الجمالية في المجتمع (aesthetics). فإختيار اللباس لا يكون فقط من باب الشرع لستر العورة بل أيضا من باب اللياقة والأناقة. أما المرجعية الأخلاقية فهي أهم مرجعية على الاطلاق كما قال الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والأخلاق كما جاء في القرآن الكريم قسمان: "الأول هو الفرقان أو الحد الأدنى الملزم من القوانين الأخلاقية التي افترض التنزيل وجودها في الإنسان وفصلتها الآيات الثلاث 151، 152، 153 من سورة الأنعام، والثاني فضائل إضافية أخرى انبثت في سور التنزيل وآياته". ففي الاقتصاد الإسلامي هناك فضيلة الوسطية بين البخل والتبذير التي وردت في قوله تعالى:"ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا" (الإسراء 29)". وخلاصة القول أن هذه القيم التي يجب أن يتمسك بها المجتمع هي مثل عليا لا يمكن فرضها بالقوانين ولا يتمّ الإلتزام بها إلاّ من خلال التربية. وبما أن هذه القيم قيم إنسانية ذاتية، فهي ضعيفة بذاتها ويمكن خرقها بسهولة، وإلتزام الإنسان بها غير ممكن إلاّ إذا تحوّلت إلى قيمة اجتماعية راسخة. وهذه القيم لا تخضع للرأي والرأي الآخر لأنها موضع إتفاق الجميع. ويضيف محمد شحرور أن أهم صفات المرجعية الأخلاقية أنها ثابتة نهائية لا تخضع للتطور وهي تختلف عن الأعراف والمعارف التي تتطوّر بشكل مستمر.
لكن هذه وجهة نظر يختلف عليها الفقهاء المعاصرون. فالشيخ القرضاوي يتكلم عن إلزامية تطبيق تلك القيم بواسطة الدولة. ويستشهد في ذلك بحوادث وقصص الأسلاف الذين برّروا تدخّل السلطة في تطبيق القيم وخاصة فيما يتعلق بتقريب الفوارق. نعتقد أن الأمر يستدعي نقاشا معمقا غير أننا نعتقد أنه بإمكان تطبيق مبدأ الوسطية إذا كانت التربية والتنشئة صحيحة ومبكرة. هناك أمور تتطلّب تدخّل السلطة المركزية وهناك أمور ليس من الضروري زجّها فيها. ولكن يبحث ذلك الأمر في بحث منفصل.
المنطلق الثالث ينبثق عن المنطلق السابق وهو قوامة المجتمع على الفرد. فإذا تجاوز الفرد حدّه وظلم يقوم المجتمع بما يلزم لحمل الفرد على الإلتزام بحدوده. من هنا نفهم أن الملكية الفردية والملكية الاجتماعية والملكية العامة توظف لتحقيق توازن بين مصلحة الفرد والمجتمع. وأحكام ذلك التوازن تتغير حسب المكان والزمان والظروف. وهنا اختلاف كبير مع فكرة رئيسة الوزراء البريطانية مارغاريت ثاتشر التي نفت وجود شيء اسمه "مجتمع" بل مجموعة أفراد فقط. فقوامة الفرد على المجتمع هي الأساس وفقا لتفكيرها ولما تمثله من ذروة الإنحراف الفكري والأخلاقي.
المنطلق الرابع هو التكامل بين الفرد والمجتمع، وليس التضاد. فإذا كانت الحرية رأيا وتعبيرا فإن آلية تحقيق ذلك تكون عبر الشورى. فهي ممارسة تاريخية فُرضت على النبي (صلعم) ليشاور الناس في أمور لا تتعلق بالوحي. من هنا نفهم الآية: "وأمرهم شورى بينهم" (الشورى 38). الفرد يحتاج إلى المجتمع ليحميه والمجتمع يحتاج إلى الفرد في تحقيق وحدته وصيانة تماسكه.
هذا التكامل يؤدي إلى المنطلق الخامس ألا وهو التكافل الاجتماعي. فالفرد أولا والمجتمع عبر الدولة ثانيا مسؤولان عن تحقيق ذلك التكافل عبر ثلاث مؤسسات: الزكاة، والوقف، والإنفاق التطوعي. نلاحظ أن هذه المنطلقات متكاملة مع بعضها وتعطي طابعا رياضيا لمجموعة النظم التي تحدد النموذج الإرشادي في الإسلام (paradigm). ونرى هنا أن القرآن استفاض في بلورة ثقافة التكافل التي ورثها من المجتمع القبلي ما قبل الإسلام وطوّرها لتشمل الأمة. ومن أهداف ذلك التكافل الحد من طغيان المال وواجب إعادة توزيع الثروة.
أولا- الحد من طغيان المال
جاء في القرآن الكريم الكثير من الآيات حول المال. فمن جهة المال زينة كقوله تعالى:"المال والبنون زينة الحياة الدنيا" (الكهف 46) وحق كقوله تعالى:"والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم (المعارج 24و25). ولكن بالمقابل هناك آيات أخرى تحدّ من طغيان المال كقوله تعالى:"واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (نوح 21) و:"شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا (الفتح 11) و:"يحسب أن ماله أخلده (الهمزة 3) و:"يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله (المنافقون 9). إن قصة قارون توضح كيف كان يتصرّف في ماله استهلاكا وإنفاقا وادخارا غير أن القرآن سجّل عليه عدة انحرافات منها: التعالي عن الناس وعدم مساعدةالمحتاجين والفقراء والمساكين واستخدام المال من أجل الطغيان وقهر الناس والسيطرة على البلاد. لذلك جاء في القرآن ما كوّن أسس الشرع الإسلامي الذي أحاط وضبط طرق جني المال والحفاظ عليه. فالمال أولا فتنة واختبار للناس :"واعلموا أن أموالكم وأولادكم فتنة" (الأنفال 28). وهو أيضا ابتلاء من الله :"أما الإنسان فإذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمني * وإذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني" (الفجر 15 و16). فالمال لا يُمدح ولا يُذمّ لذاته بل يُذمّ حين يؤدي إلى غرور مالكه وطغيانه على الآخرين.
هنا تبرز قضية هامة تثير الجدل بين المسلمين فقهاء ومسؤولين ومؤمنين ألا وهي قضية الفائدة التي تعطيها المصارف والمؤسسات المالية للمودعين والتي تفرضها على المقترضين أو الربا كما يصفها الفقهاء والباحثون الإسلاميون. المشكلة تقع في تعريف الفائدة. فإذا تمّت المرادفة بين الفائدة والربا فإن الفائدة من المحرّمات. أما إذا كانت الفائدة شيئا آخرا غير الربا فإذا هي مقبولة. لسنا هنا في وارد الاجتهاد في ذلك الموضوع ولكن من الواضح أن في مفهوم الربا مفهوم الزيادة دون مقابل وهذا ما يتنافى مع مجموعة القيم التي تمّ سردها خاصة فيما يتعلّق بالعدل. والربا قريبة من مفهوم الريع الذي فصّلناه في دراسة ذكرناها من قبل فهو مردود يجنيه المرء دون بذل أي مجهود بالمقابل أو مجهود صغير للغاية لا يتناسب مع حجم المردود. غير أن الريع لم يُحرّم في القرآن. أما الغنيمة فهي استيلاب مجهود الغير بالقوة فهي مقبولة خاصة إذا كان ذلك المجهود في سبيل الله. والتجارة هي أيضا القبض على مجهود الآخر ولكن بالتراضي وهي أيضا مقبولة. ولكن هناك ضوابط للتبادل التجاري كما جاء في سورة "المطفيفين": "ويل للمطفيفين* الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون" (1-3). فالويل تهديد مباشر بمعاقبة شديدة من يبخس حق الآخر وهذا ما يؤكد مرة أخرى ما أتينا به في مركزية ومحورية العدل في التعامل الإنساني ومنه الاقتصادي والمالي. أما الاحتكار فهو غير مقبول وفقا لما جاء في الاجتهادات الفقهية في غياب نص واضح في القرآن. يستشهد القرضاوي في مؤلفه حول دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي بالأحاديث النبوية التي تتكلّم بصراحة عن الاحتكار ونبذه. ف"الاحتكار مبعثه الأنانية والقسوة على خلق الله به، لأن المحتكر يريد أن يوسع ثروته بالتضييق على خلق الله". ونلفت النظر أن الإحتكار غير مقبول أخلاقيا في الغرب وإن كانت بعض القوانين تشرّعه. لكن مساوئ الاحتكار تلغي محاسنه إذا وجدت أصلا! وبالتالي يكون من الظواهر التي ترفضها المجتمعات البشرية.
وأخيرا لا بد من لفت الإنتباه أن الربا وإن كان في مضمونها الزيادة والنمو غير أن ذلك النوع من النمو غير مقبول بل محرّم في القرآن بشكل واضح:" وَمَآ ءَاتَيْتُم مِن رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِندَ اللَّهِ وَمآ ءَاتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (الروم 39) وفي سورة البقرة "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ اِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِاَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَاُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوْا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَاتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَآ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ* فإِن لَمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ " (275-280). إذا ما قارنّا تلك الآيات مع آيات تحريم أخرى نرى أن آيات تحريم الربا أكثر من غيرها صرامة وأكثر توضيحا خاصة بالنسبة لعقاب النار الذي سيطال المرابين. كما أن الربا تبرّر شنّ الحروب على المرابين. من جهة أخرى تحفظ الآية حق رؤوس الأموال فقط وليس المردود الناتج عن القرض. أما التفسيرات لذلك التحريم عند الفقهاء والباحثين المسلمين فهي عديدة نستذكر منها مسألة البعد الزمني. الفائدة في الاقتصاد الوضعي هو ثمن الزمن أو الوقت. فالتبرير لفرض الفائدة هو امتناع القارض عن الإنتفاع الفوري من ماله وتأجيله للمستقبل وبالتالي هناك ثمن للتأجيل. غير أن في العقيدة الإسلامية الزمن هو ملك الله وأن ما يحقّ للإنسان هو تثمين وتسعير الزمن الذي مرّ فقط. من هنا يمكن فهم التحفّظ الإسلامي على عملية التأمين الذي هو يقين تسعير المستقبل أو الزمن. أما "ثمن" أو "سعر" الزمن في المستقبل فهو من حق الله ولا يجوز للمسلم التعدّي على ذلك الحق الإلهي. من جهة أخرى تؤكد الآيات أن حقوق الرأس المال محفوظة فقط لا غير. فرأس المال لا يمكن أن يجني أي مردود بدون مجهود وتحمّل المخاطرة مع المقترض. من هنا نفهم مبدأ المشاركة في المبادرات والمخاطر في المنتجات المالية في المؤسسات المالية الإسلامية.
مسألة الربا مسألة في غاية الأهمية. فبالإضافة إلى بعدها الأخلاقي هناك بعد آخر لا بد من التوقف عنده. الحجر الزاوية للإقتصاد الوضعي هو الإئتمان (credit) وثمن الإئتمان هو الفائدة. لذلك إذا أخرجنا الفائدة من المعادلة فهل الإئتمان ممكن؟ وإذا أخرجنا الإئتمان من المعادلة الاقتصادية فهل نمو نشاط العملاء الاقتصاديين (economic agents) ممكن؟ فإذا كانت الإيجابة على تلك الأسئلة نعم فإن نموذجا إرشاديا مختلفا يصبح قائما. هل بإمكاننا أن نتصوّر دورا مختلفا كلّيا للمصارف والمؤسسات المالية القائمة؟ هل بإمكاننا إستعادة حق إنشاء الكتلة النقدية من النظام المصرفي وحصره في الدولة. من المعلوم أن الكتلة النقدية في التدوال من حق وامتياز الدولة التي تصكّ العملة. ولكن تلك الكتلة النقدية جزء بسيط من الكتلة النقدية الإجمالية التي تنشئها المصارف والمؤسسات المالية القائمة على نظام الإئتمان والفائدة. وبالتالي تكون الدولة قد تنازلت عن ربما أهم مزايا السيادة لمصلحة فئة من المجتمع تعمل على زيادة أرباحها وليس بالضرورة على المنفعة العامة للمجتمع. لذلك إعادة النظر بدور النظام المصرفي والمؤسسات المالية في إنشاء الكتلة النقدية وحصرها بيد الدولة قد تكون من الأمور التي يجب بحثها. لذلك ندعو الإقتصاديين العرب والمسلمين للتفكير في نموذج إرشادي مختلف عن النموذج المتعارف عليه. قد يقول الإسلاميون أن تلك المعضلة قد حُلّت في هيكلية ونظام الإقتصاد الإسلامي. ربما الأمر يكون ذلك وقد يستحق نقاشا خارجا عن إطار بحثنا هذا. من هنا دور هذا البحث الذي نتوخى منه أن يكون خطوة في الطريق المطلوب.
ثانيا- قاعدة توزيع الثروة
بما أن الملك لله والثروة ألتي أوكلت لخليفته – أي الإنسان- تحمل في طياتها مسؤوليات عدة على صاحبها لذلك كان مبدأ إعادة توزيع الثروة مترسخا في القيم والتراث العربي الإسلامي. في هذا المعنى سبقت الحضارة العربية الإسلامية الحضارة الغربية في مبدأ توزيع الثروة بحوالي ثلاث عشر قرن! غير أن مبدأ التوزيع في التراث العربي الإسلامي منبتق عن منظومة قيم يقوم بها المجتمع طوعا وإن كان له الطابع الإلزامي بينما في الغرب هو فقط لدرء مساوئ تمركز الثروة بيد القلة بسبب النظام الاقتصادي القائم. من جهة أخرى يقوم المجتمع في البيئة العربية الإسلامية بمهام إعادة توزيع الثروة بينما تقوم بها السلطة المركزية- أي الدولة- في الغرب بتلك المهام مما يعطيها طابع القسرية التي يرفضها الإنسان من باب الفطرة. لكن لا بد من الإقرار أن في المجتمعات الغربية مؤسسات خاصة تقوم بتوزيع التبرّعات لجهات عديدة من باب الحرص على التوازن والإستقرار الداخلي وأيضا من باب المنفعة الخاصة إذ أن التبرّعات تخصم من ضريبة الدخل!
هنا لا بد من وقفة إيضاحية هامة. إن التطوّرات العلمية والتكنولوجية تنعكس على كفاءة وإنتاجية وسائل الإنتاج وتؤدي إلى تغييرات في العلاقات الإجتماعية وفقا لمفاهيم الاقتصاد الغربي بشقيه الليبرالي والماركسي. غير أن التوزيع في التراث العربي الإسلامي عملية منفصلة عن الإنتاج وبالتالي لا يتغير مع التغيير الدائم الذي يرافق التطوّر التكنولوجي في علاقات الإنتاج والمجتمع. "ليست الحياة الإجتماعية نابعة من الأشكال المتنوعة للإنتاج، وإنما هي نابعة من حاجات الإنسان نفسه، لأن الإنسان هو القوة المحرّكة للتاريخ لا وسائل الإنتاج، وفيه نجد ينابيع الحياة الإجتماعية". وإذا ما تُرك الإنسان لنفسه فلن يقوم بأي توزيع. فالإنسان يحب الذات وعلى حب الخير لشديد كما جاء في القرآن (العاديات 8). طبيعة الإنسان هي البخل أو القتر كما جاء في قوله تعالى:"قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا" (الإسراء 100). لذلك كان لا بد من إيجاد مجموعة قيم تضع الإنسان على الطريق الصحيح. وإذا كان المجتمع الإنساني يعطي أهمية بالغة لقيمة الثروة فكان لا بد من استبدالها بقيمة أخرى حيث القيم الاقتصادية أقل درجة من القيم الأخرى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات 13) وقوله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" (المجادلة 11). هنا قد يكمن محور للبحث عن نموذج إرشادي مختلف عن النموذج الغربي القائم على مبدأ المنفعة الشخصية والندرة.
حدّد القرآن الكريم في آيات عديدة الجهات التي يحقّ لها أن تستفيد من التوزيع. في البداية هناك ما يشابه الحق العام إن لم يكن يقين الحق العام: "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" (الذاريات 19)، و"وفي أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم" (المعارج 24و25). ولم يكتف القرآن بالتوصية العامة بل حدّد من يستفيد وأمر المؤمن :"فأت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل" (الروم 38)؛ أيضا: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل كي كلا يكون دولة بين الأغنياء منكم"(الحشر 7). فهذه الآية تحثّ على توزيع الثروة كي لا يكون تمركز لها بيد القلّة. وحتى عند الموت فوصّى: "إذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه" (النساء 8). كما أن أحكام الإرث تحافظ على الثروة وتحدّد الجهات والقيمة العائدة لها. ولكن هناك من يتسائل عن الإنصاف في توزيع الإرث خاصة للأنثى التي حصتّها نصف حصّة الذكر. نشير هنا إلى اجتهادات الدكتور محمة شحرور في فقه المرأة كمحاولة للتوفيق والتناسق بين مفهوم العدل كما يفهمه الناس في القرن الواحد وعشرين وبين صحة ما أتى به القرآن الكريم في حق المرأة. وشدّد القرآن على عدم الإكتناز بل وعد الذين يكتنزون المال بعذاب أليم: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولاينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" (التوبة 34). إذا التوزيع للثروة إلزامي وطوعي وليس هناك من سلطة دنيوية تجبر المؤمن عليه وإن أجتهد بعض الفقهاء عكس ذلك. هذا لا يعني أننا نعترض على دور الدولة في توزيع الثروة ولكن هذا بحث آخر يخرج عن إطار بحثنا هذا لأننا نركّز هنا فقط على الأخلاق (ethics) في التعامل الاقتصادي كما جاء في القرآن.
ثالثا- الزكاة
يتمّ توزيع الثروة عبر الزكاة. وآيات الزكاة ثلاثون. جاء في "لسان العرب" أن أصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح. ويقول الواحدي وغيره أن أصل مادة "زكا" الزيادة والنماء. وتعني أيضا الطهارة والبركة. وفي المعجم الوسيط هي مصدر لفعل "زكا الشيء" أي نمى وزاد (المعجم الوسيط 1/398). من هنا يمكن أن نفهم أن الزكاة هي عكس الربا. فالزكاة محمودة بينما الربا محرّمة وإن كان في مضونها الزيادة! واجتهادات الفقهاء من الزمخشري وابن تيمية والأزهري والظاهري تصّب في نفس الاتجاه. أما الصدقة فليست الزكاة وإن تشابهت كما يقول الزمخشري في الفائق (1/536)ط.أولى: "الزكاة فعلة كالصدقة". فالقرآن الكريم خال من المرادفات. هناك آيات تتكلّم عن الصدقة وهناك آيات تتكلّم عن الزكاة. الصدقة قد لا تكون إلزامية بل توصية ومحبّبة أما الزكاة فهي إلزامية وتعتبر من أركان العقيدة. إن ما يهمنّا هنا هوالتشديد على القيمة الأخلاقية للبعد النمائي للزكاة أي الزيادة في الإمكانيات المادية لسد حاجات من لا يستطيع أن يعيل نفسه. فمن يعطي يزيد في الطهارة ويسهام في نمو العجلة الاقتصادية بالإضافة إلى النمو المعنوي عند المستفيد من عملية العطاء. والزكاة هي تمويل الفقير برأس مال نقدي يعمل به كثمن آلة حرفه ولا يستهلكه. وهذا النوع من التمويل شبيه بالتمويل الجزئي أو المصغّر (microfinance). كما تساهم الزكاة في شراء أصول ثابتة وتوزيعها على الفقراء وتدريبهم على المهارات المختلفة.
الهدف من الزكاة المساهمة في تقليل الفجوة الاقتصادية بين فئات المجتمع. وهناك العديد من الباحثين يتفقون أن للزكاة أثر مباشر في تحقيق عدالة توزيع الثروة والدخل من خلال كونها أداة دورية تعمل على إعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء كل عام، من خلال اقتطاع جزء من دخول الأغنياء وثرواتهم وإعطاؤها للفقراء. وهناك دراسات عديدة لباحثين اقتصاديين من العرب والمسلمين تصبّ جميعها في شرح الدور الإنمائي والتنموي للزكاة فلا داعي لتكرار ما جاءوا به لضيق المساحة في هذا البحث خاصة أن المحور الأساسي هو إبراز القيم والأخلاق فيما يسمّى بالنموذج الإرشادي الإسلامي أو كما يعرّف في الغرب بمصطلح "باراديغم" (paradigm).
رابعا- التكافل الإجتماعي
جاء "في آية رقم 2 في سورة "المائدة حثّ المؤمنين على التكافل: "وتعاونوا على البرّ والتقوى ولاتاعونوا على الإثم والعدوان" . واجتهد الفقهاء والباحثون على اعتبار التكافل الإجتماعي هو توحيد لجهود أفراد المجتمع في العمران وإشراكهم في المحافظة على المنافع العامة والخاصة ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية عن المجتمع. والفرد يشعر أن عليه واجبات للآخرين كما لديه حقوق، خاصة أولئك الذين لا يستطيعون أن يؤمنّوا مصالحهم ولا درء الآضرار عن أنفسهم. والتكافل لا يقتصر على أفراد المجتمع المسلم بل يتناول الناس جميعا سواء كانوا من المسلمين وغير المسلمين. فهو يشمل كل الجنس البشري على اختلاف ملله واعتقاداته داخل المجتمع الإنساني كقوله تعالى:"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخروجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" الممتحنة 8). ذلك أن أساس التكافل هو كرامة الإنسان حيث قال الله تعالى:"ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" ( الإسراء 70). والتأكيد على شمل جميع الناس جاء في آية رقم 13 سورة "الحجرات" حيث قال تعالى:"وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".
غير أن هناك عدة مستويات للتكافل. المستوى الأول هو بين الفرد وذاته. فالإنسان مكلّف بأن ينهي نفسه عن الشهوات كقوله تعالى: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى" (النازعات 100و101). وهو مسؤول عن نفسه وعن تزكيتها وتهذيبها وإصلاحها ودفعها إلى الخير وحجزها عن الشر كما جاء في سورة "الشمس" (آيات 7-10). والآيات العديدة التي تنهى عن كافة المنكرات كالخمر والميسر والأزلام والنصب والكذب والآيات التي تحثّ الإنسان على التقوى والعمل الصالح هي لتثبيت المسؤولية والتكافل بين المرء وذاته.
المستوى الثاني هو التكافل بين الفرد وأسرته القريبة. والآيات عديدة في هذا الموضوع لن نسردها لضيق المساحة في هذا البحث. وليس هناك من يناقش في قيمة الأسرة في بناء المجتمع وهي القائمة على الميول الثابته في الفطرة الإنسانية وعلى عواطف الرحمة والمودة ومقتضايات الضرورة والمصلحة؛ "كما أنها العش الذي تنشأ فيه وحوله مجموعة الآداب والأخلاق الخاصة بالجنس". أما تقسيم وتوزيع المسؤوليات داخل الأسرة فيأتي لضمان الأسرة ماديا ومعنويا. جاء في القرآن مخاطبا أرباب الأسر رجالا ونساء:"يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة" (التحريم 6). وهذه الوقاية لا تتم إلاّ بالتبصّر بالحق والتعليم وهي أساس التكافل. فالمسؤولية مشتركة بين الزوجين كقوله تعالى:"والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"(التوبة 71). وقد حثّ القرآن الكريم على تنمية الود بين الزوجين:"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" (الروم 21). وحتى في أكره المسموحات أي الطلاق بين الزوجين هناك مسؤوليات تكفل الضمان المادي والمعنوي للمطلّقة من نفقة وسكن في فترة العدّة. ويلفت سيد قطب النظر أن من مظاهر التكافل العائلي ذلك التوارث المادي للثروة في آيات الإرث في سورة النساء وإن كان هناك لغطا كبيرا في تفسيرها. نشير هنا إلى إجتهادات الدكتور محمد شحرور الذي قدّم تفسيرا مختلفا كليا عن التفاسير التقليدية لأحكام الإرث المبنية على قراءة جديدة يعتبرها معاصرة للنص القرآني.
أما المستوى الثالث للتكافل فهو بين الفرد والجماعة وبين الجماعة والفرد. فهناك واجبات وتبعات على كل منهما. فكل فرد مكلّف أن يرعى مصالح الجماعة كأنه حارس لها وموكل بها. وهذا التكليف يفرض التعاون بين جميع الأفراد لمصلحة الجماعة في حدود البرّ والمعروف كقوله تعالى:" وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" (المائدة 2). فكل فرد مكلف أن يزيل المنكر الذي يراه وأن يساهم في الخير، وقد نقول هنا التنمية وتوزيع الثروة بشكل عادل. من جهة أخرى الأمة مسؤولة عن حماية الضعفاء فيها ورعاية مصالحهم حتى يبلغوا مرحلة الرشد. فعليها أن تقاتل لحمايتهم كما جاء في قوله تعالى: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان" (النساء 75)؛ وفي حفظ أموالهم: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رُشد فادفعوا إليهم أموالهم" (النساء 6). والجماعة مسؤولة عن فقرائها ومعوزيها وأيتامها أن ترزقهم بما فيه الكفاية.
المستوى الرابع للتكافل هو بين الأجيال خاصة فيما يتعلق بالثروات الطبيعية وغيرها التي يستغلّها الإنسان في كافة نشاطته. المقصود هنا هو الحفاظ على تلك الثروات وعدم حرمان الأجيال القادمة من نعمتها. ويعتمد بعض الفقهاء على آية توحي بذلك هي:"والذين جاءؤا من بعدهم يقولون ربّنا أغفر لنا وللذين سبقونا بالإيمان" (الحشر 10). هنا دعوة واضحة للنهي عن الإسراف والتبذير وللحفاظ على حقوق الأجيال القادمة. ومسألة الإسراف والتبذير مصدر الخلافات في توجهات السياسات الاقتصادية والمالية في مختلف الدول والمجتمعات. فما هو ضروري لفئة قد يكون إسرافا وتبذيرا لفئة أخرى.
المستوى الخامس للتكافل هو بين جميع المجتمعات الإنسانية كما جاء في سورة الحجرات رقم113 والتي ذكرناها سابقا. وهذه الآية تشكّل قاعدة للتعاون الاقتصادي بين الدول والمجتمعات ولمساعدة تلك التي أصابتها ويلات وكوارث طبيعية أو إنسانية.
خامسا- الإنفاق
من أدوات التكافل الإنفاق. الآيات القرآنية حول الإنفاق عديدة ومعظمها جاءت في سورة البقرة وتحثّ المؤمنين على إنفاق ما بوسعهم في سبيل الله وفي سبيل التكافل بكافة أشكاله . وما يهمّنا في بحثنا هذا البعد الاقتصادي للإنفاق كما جاء في القرآن. في البداية هناك سؤال طُرح وتمّت الإجابة عليه: "ويسئلونك ماذا يُنفقون قُل العفو" (البقرة 219). والعفو في اللسان العربي هو ما يفيض بعد أن تمّت استيفاء كافة الواجبات على عاتق الفرد، أي بعض استيفاء الحاجة. باللغة الإقتصادية العفو يعني الفائض من الدخل بعد حسم الضرائب والمتوجبات المعيشية إلخ. ومصدر الإنفاق هو من خير وفضل الله في الرزق: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" (الحديد 7). وإذا كانت الآية الكريمة تحثّ المؤمن على الإنفاق في سبيل الله فإن المجتمع الصالح الذي يجب بناءه والحفاظ عليه هو أيضا من الغايات الأساسية للإنفاق. والترجمة التقنية في الإقتصاد لذلك الإنفاق هي دعم الطلب الفعلي (effective demand). وإذا لم يكن القرآن الكريم كتابا وبحثا في الإقتصاد لأنه أكثر من ذلك بكثير، إلاّ أن القيم التي يهديها للناس أجمع تؤسس لنموذج إرشادي يمكن الإقتضاء به في التعامل الاقتصادي. فنظرية الطلب الفعلي لم تتبلور في الغرب إلا في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي بينما دور الإنفاق كان واضحا في التراث العربي الإسلامي منذ ظهور الإسلام أي قبل أربع عشر قرن! فالإنفاق أساس العجلة الإقتصادية ويشكّل أساس السياسات الاقتصادية الحديثة. صحيح أن هناك في الغرب من يعتقد أن الإنفاق يشكّل خطرا على ما يُسمّونه بالتوازنات الأساسية ولكنها في آخر المطاف ليست تلك "التوازنات" إلاّ ذريعة لتمركز الثروة. وهنا يأتي القرآن ويحطاط ضد تمزكز الثروة عبر الإكتناز:" والذين يكنزون الذهب والفضة ولاينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" (التوبة 34). ويحذّر المؤمنين:"يا أيها اللذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خُلّة ولا شفاعة (البقرة 254). فالإنفاق خير للمؤمنين في قوله تعالى:" وأنفقوا خيرا لآنفسكم ومن يوق شُحّ نفسه فاؤلئك المفلحون" (التغابن 16).
والفائض الذي يجب إنفاقه يأخذ بعين الإعتبار الإمكانيات المتوفرة عند الناس: "لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله لا يكلّف الله نفسا إلاّ ما أتاها سيجعل الله بعد العسر يسرا" (الطلاق 6). فليس هناك من إكراه في النفقة تفوق طاقة الناس فالله لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها. والدولة الحديثة التي نشأت في الغرب وأصبحت نموذجا تتبعه شعوب العالم تفرض قسرا ضرائب تفوق في كثير من الأحيان طاقة الشعوب المكلّفة. فالدولة تتولىّ الإنفاق بينما النموذج الإرشادي في القرآن يعتبر أن المؤمن مكلّف بذلك. ومن سخريات الدهر أن القوى المحافظة في الغرب تأخذ على الدولة نفقاتها المتزايدة التي تموّلها الضرائب التي يدفعها المكلّفون وتدعو إلى تقليصها إلى أكبر حدّ ممكن. ونرى في ذلك كلام حق يُراد به باطل لأن تلك القوى المحافظة المنتقدة لإنفاق الدولة هدفها الأول والأخير حماية ثرواتها والمزيد من تمركزها بينما النموذج الإرشادي في القرآن يختلف كليّا عن ذلك بل يسعى إلى توزيع الثروة. ولكن هذا لايعني أن الدولة في ذلك النموذج معفية من مسؤولياتها تجاه المجتمع فعليها أن تقوم بحماية المواطنين والوطن وتأمين العدالة بين أفراد المجتمع وتأمين الخدمات العامة. أما درجة تدخّل الدولة في شؤون الناس فهي قضية نسبية تتغيّر مع الظروف والأماكن. ولا بد من إجراء دراسات مقارنة في تاريخنا حول دور الدولة أو السلطة في إدارة شؤؤن المجتمعات عبر الأزمنة وهذا ما نفتقده اليوم وإن كانت هناك بعض الدراسات في ذلك الموضوع ولكنها قليلة ولا تشمل كافة العهود. لذلك ندعو إلى ترويج ثقافة التاريخ الإقتصادي لهذه الأمة عبر التاريخ ومقارنتها مع تاريخ الدول الأخرى التي اتخذت نماذج إرشادية مختلفة لإدارة المجتمعات.
الإنفاق ضروري وشامل لتمكين التكافل الإجتماعي وتدوير العجلة الاقتصادية. جاء في القرآن الكريم: " ومما رزقناهم ينفقون" (البقرة 3) أي تشمل الجميع وفي كافة الميادين. أما إحدى الآليات لذلك الإنفاق فهو مؤسسة الوقف الذي بدأت بعصر الصحابة وأمتدّت إلى عصرنا الحديث. لن نسترسل في الحديث عن الوقف لأنه موضوع طويل وخارج عن الإطار المحدد لهذا البحث بل نكتفي بالإشارة له بأنه من تداعيات التوصيات القيمية والأخلاقية التي جاءت في القرآن. والملفت للنظر أن النموذج الإرشادي الذي نستخلصه من القرآن أفرز آلية لتوزيع الثروة للحفاظ على التكافل الإجتماعي وتحقيق العدل بين الأفراد والمجتمعات.
وإذا كان الإنفاق ضروريا لتمكين التكافل الإجتماعي وتدوير العجلة الإقتصادية غير أن الإنفاق مقيّد ومضبوط بمعايير واضحة. فهناك الإسراف والتبذير في الإنفاق الذي ينهى عنهما القرآن في آيات عديدة نذكر منها قوله تعالى:"ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" (الأنعام 141) و"ولا تبذّر تبذيرا* إن المبذّرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربّه كفورا" (الإسراء 26-27). ولكن ما معنى الإسراف والتبذير؟ هل هما مترادفان؟ هناك من يعتقد أن المعنى واحد ولكن هناك من لا يقرّ بالترادف في القرآن فلا بد من التوضيح. جاء في "لسان العرب" لإبن منظور أن السرف الجهل والسرف الإغفال. قال ابن الأعرابي أسرف الرجل إذا جاوز الحد وأسرف إذا أخطأ وأسرف إذا غفل وأسرف إذا جهل. والإسراف في المال هو التبذير في النفقة لغير حاجة أو في غير طاعة الله . و تبذير المال: تفريقه إسرافا . ورجل تبذارة يقال للذي يبذر ماله ويفسده . والتبذير: إفساد المال وإنفاقه في السرف. أي بمعنى آخر وهو أن الإسراف: صرف الشيء فيما ينبغي زائداً على ما ينبغي، والتبذير: صرف الشيء فيما لا ينبغي. في الأدبيات الإقتصادية الإسراف يحصل عندما تنفق الدولة أكثر مما رّصد في الموازنة والتبذير عندما تنفق الدولة دون تخطيط أو موازنة أو دراسة وافية لجدوى الإنفاق.
خاتمة
حاولنا في هذا البحث إبراز قاعدة لنموذج إرشادي للتعامل الاقتصادي يختلف عن النموذج القائم في الغرب. ولا ندّعي أننا أتينا بجديد فهناك العديد من العلماء والباحثين العرب والمسلمين قدمّوا مساهمات قيّمة لكنها لم تخرج من فلك الأدبيات الإسلامية. أردنا بهذا البحث تعميم تلك المفاهيم ضمن إطار موضوعي خارج عن الوعظات والمرافعات التي نراها في تلك الأدبيات. فإذا كان القرآن الكريم قد أسس لذلك النموذج الذي يعطي للأخلاق والقيم الأخلاقية الدور الأبرز في تحديد السلوك الاقتصادي للأفراد والمجتمعات غير أنه من واجبنا كعرب أن نغرف في ذلك المخزون الكبير ونطوّر المفاهيم لنجعلها أدوات تحليلية تمكنّنا من استخلاص العبر والسياسات الملائمة لمعالجة كافة التحديات التي تواجهنا سواء على الصعيد السياسي أو الإقتصادي (فالإقتصاد ليس إلاّ السياسة ولكن بلغة الأرقام) والإجتماعي والثقافي. غير أن هذا المجهود لن يكون من مسؤولية فرد بل هو عمل جماعي علينا أن نقوم به. هذا هو ما نسعى إليه وهو يقيه مشروعنا النهضوي العربي كما نفهمه.
No comments:
Post a Comment