مؤتمر: حقوق الإنسان في ظل التغيّرات العربية الراهنة
بيروت، من 5 إلى7 أبريل / نيسان 2013
حق شعوب دول الربيع
العربي
في مجابهة ظاهرة الإفلات من العقاب و المحاسبة:
قضيّة برّاكة
السّاحل91 في تونس أنموذجا
بقلم : النقيب مهندس/
الأستاذ : محسن الكعبي
إنّ إقامة مؤتمر دولي علمي حقوقي بهذا الحجم
في بيروت تحت عنوان (حقوق الإنسان في ظل التغيّرات العربية الراهنة) و بدعوة كريمة
من مجلس إدارة مركز أبحاث جيل حقوق الإنسان ، لهو فرصة جيدة في حد ذاتها ، إذ ربما
يتيح لأول مرة لكثير من المشاركين و الضيوف التباحث في مناخ من الحرية حول قضايا
حقوق الإنسان في ظل الانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي. و نأمل كما هو
الهدف من المؤتمر الخروج من تناول المحاور المعروضة للدرس برؤية موحدة و تحرك
مشترك في سبيل تحقيق الأفضل لمستقبل الأمة في علاقاتها بشعوبها و بغيرها من الأمم..
و ليس غريبا أن تنطلق
الدعوة إلى مؤتمر بهذه الأهمية و هذا الاتساع و في هذا الظرف الحرج الذي تمر به
بلدان الربيع العربي، من لبنان ، بلد المقاومة الإسلامية الأولى الناجحة في العصر
الحديث ، و التي تواجه اليوم تحديات من نوع جديد ، و ربما أقوى مما تعرضت له في
السابق . و ليس بعزيز على شباب لبنان الأبي و جماهير أمته تجاوز العقبات بإيمان و
بحكمة و صبر بفضل من الله و قيادته الرشيدة حتى يحفظ لبنان ومقاومته الإسلامية الباسلة من كل مكروه ، لأنها المنارة العالية في عالم
ظلماته كثيرة..
***
عاشت تونس منذ استقلالها ( 1956 ) حقبة طويلة
اتسمت بغياب الديمقراطية و حرية التعبير و حقوق الإنسان اعتمد نظام الحكم خلالها
سياسة ممنهجة لتخويف التونسيين و إبعادهم عن الشأن العام الوطني و تدجينهم و
إغراقهم في هموم لقمة العيش لا غير، و أحكم سيطرته على كل مناحي الحياة و سخرت
لذلك كل أجهزة الدولة من قضاء و إعلام و أمن و إدارة فضلا عن أجهزة الحزب الحاكم..
فكانت الحصيلة دامية و انتهاكات حقوق الإنسان و الحريات الفردية و العامة
جسيمة ..اغتيالا و تنكيلا و تعذيبا و سجنا و تجويعا و تهجيرا و تجفيفا للمنابع و مراقبة إدارية و إقامة جبرية..و غيرها من
ضروب المعاملة القاسية المهينة و
أللإنسانية و التي تعتبر انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان و للقانون
الإنساني الدولي و لجميع المعاهدات و البروتوكولات التي صادقت عليها الدولة
التونسية. و قد طالت آلة القمع جميع التيارات الفكرية و السياسية و النقابية و
المدافعين عن حقوق الإنسان..و حتى مؤسسات الدولة السيادية..
فقد هزت تونس في الأشهر الأولى من
الثورة التونسية المباركة، ثورة الحرية و الكرامة، قضية تعذيب فريدة من نوعها تعرض
لها المئات من العسكريين في بداية التسعينات و اتهم فيها وزراء و قيادات عسكرية و
أمنية عليا..
ما هو مثير في هذه القضية التي تدعى بقضية براكة الساحل 91 و التي تناولها القضاء العسكري بالتحقيق و الحكم ، ليس فقط عدد القضايا المثارة و المنشورة، وكذلك ارتكاب بعضها داخل مباني و دهاليز وزارة الداخلية التي تغاضت بدورها عن التحقيق فيها، بل أيضا في أن كشفها جاء بعد نحو عشرين عاما من بدء وقوعها، وبعد ثلاثة أشهر من تأسيس جمعية أسسها هؤلاء العسكريون الضحايا تدعى جمعية إنصاف قدماء العسكريين و التي أخذت على عاتقها كشف الحقيقة حول ظروف و ملابسات هذه القضية اللغز و ملاحقة مقترفيها قانونيا.. و إنصاف ضحاياها الذين يعدّون بالمئات..
ما حصل هو أن القيادة العسكرية العليا في تسعينات القرن الماضي تخلت عن مسؤوليتها القانونية و الأخلاقية و سلّمت أبنائها للتعذيب في سابقة خطيرة في تاريخ الجيوش إذ تعرض خلالها نحو 244 عسكري من مختلف الرتب و الأصناف إلى حالا ت انتهاكات جسيمة و اعتداءات وحشية ممنهجة.. إضافة إلى حالات عديدة أخرى لم يجري التحقيق فيها.. منها قضايا تتعلق بالموت تحت التعذيب التي لم تبدأ بعد التحقيقات بشأنها.. خاصة مع احتمال تورط مسئولين كبار من " أمن الدولة " و من وزراء الحزب الحاكم المنحل.
ما هو مثير في هذه القضية التي تدعى بقضية براكة الساحل 91 و التي تناولها القضاء العسكري بالتحقيق و الحكم ، ليس فقط عدد القضايا المثارة و المنشورة، وكذلك ارتكاب بعضها داخل مباني و دهاليز وزارة الداخلية التي تغاضت بدورها عن التحقيق فيها، بل أيضا في أن كشفها جاء بعد نحو عشرين عاما من بدء وقوعها، وبعد ثلاثة أشهر من تأسيس جمعية أسسها هؤلاء العسكريون الضحايا تدعى جمعية إنصاف قدماء العسكريين و التي أخذت على عاتقها كشف الحقيقة حول ظروف و ملابسات هذه القضية اللغز و ملاحقة مقترفيها قانونيا.. و إنصاف ضحاياها الذين يعدّون بالمئات..
ما حصل هو أن القيادة العسكرية العليا في تسعينات القرن الماضي تخلت عن مسؤوليتها القانونية و الأخلاقية و سلّمت أبنائها للتعذيب في سابقة خطيرة في تاريخ الجيوش إذ تعرض خلالها نحو 244 عسكري من مختلف الرتب و الأصناف إلى حالا ت انتهاكات جسيمة و اعتداءات وحشية ممنهجة.. إضافة إلى حالات عديدة أخرى لم يجري التحقيق فيها.. منها قضايا تتعلق بالموت تحت التعذيب التي لم تبدأ بعد التحقيقات بشأنها.. خاصة مع احتمال تورط مسئولين كبار من " أمن الدولة " و من وزراء الحزب الحاكم المنحل.
سيناريو المؤامرة المزعومة يتمثل أنه في الأشهر الأولى من سنة 1991 ، شهد الجيش التونسي أكبر عملية تحجيم في تاريخه خطط لها الرئيس المخلوع (1) و نفذها وزير الدولة وزير الداخلية آنذاك و مساعدوه في إدارة أمن الدولة. و حسب سيناريو وزارة الداخلية فإن هؤلاء العسكريين قد حضروا اجتماع الإعداد للمؤامرة المزعومة يوم 6 جانفي 1991 بقرية براكة الساحل المجاورة لمدينة الحمامات السّياحية الكائنة بالوطن القبلي.
و لم تكن العملية ممكنة لولا تواطأ وزير الدفاع الأسبق(2) و القيادة العسكرية
العليا آنذاك المتمثلة في المجلس الأعلى للجيوش (3)..
و لإقناع الرأي العام التونسي و الدولي قام وزير الداخلية آنذاك (4) بندوة
صحفية يوم 22 ماي 1991 ادعى خلالها عن اكتشاف مؤامرة لقلب نظام الحكم و انتماء
أصحابها إلى حركة النهضة المحظورة و توقيف المتورطين فيها من مدنيين (5)و عسكريين
.
تم خلال تلك الفترة إيقاف حوالي 244 عسكري من طرف الإدارة العامة للأمن
العسكري ليقع تسليمهم بزيهم فيما بعد إلى المصالح المختصة بإدارة أمن الدولة التي
تولت بدورها تجريدهم من أزيائهم العسكرية و إخضاعهم للتعذيب الشنيع قصد انتزاع
اعترافات وهمية حول انتمائهم إلى حركة النهضة المحظورة آنذاك و قيامهم بمحاولة
لقلب نظام الحكم.
و مثّلت تلك التجاوزات بما احتوت عليه من تعذيب و تعذيب حتى الموت (6) انتهاكا
صارخا للحق في الحياة و لكرامة العسكريين الأبرياء و للمؤسسة العسكرية ككل..
و تتكون مجموعة عسكريي براكة الساحل من : 25 ضابط سامي ، 88 ضابط ميدان، 82
ضابط صف ،و 49 رجل جيش حسب القائمة الأولية التي ضبطتها المؤسسة العسكرية..و تعتبر
هذه المجموعة ( 244) من نخبة الجيش التونسي من حيث الكفاءة و الانضباط و الالتزام
و خاصة منهم الضباط الذين تلقوا تعليمهم العالي في أشهر الكليات العسكرية بتونس و أوروبا
و الولايات المتحدة الأمريكية و كانوا يشغلون خططا و وظائف قيادية و تكوينية هامة
عند اعتقالهم..
و كان من النتائج المدمرة لهذه المظلمة بعد مسلسل الاعتقالات و التوقيف
الممنهج و التعذيب من طرف البوليس السياسي سجن 93 عسكريا من مختلف الرتب مثلوا
أمام القضاء العسكري و هم أبرياء بغرض الإبقاء على فرضية المؤامرة قائمة أمام
الرأي العام المحلي و الدولي و التستر على محاكمتهم بسبب التزامهم بواجباتهم
الدينية. و صدرت في شأنهم أحكاما صارمة بالسجن تراوحت بين 3 سنوات و 16 سنة لتهم
ملفّقة. و قد بلغت جملة سنوات السجن المقضات من طرف هؤلاء الضحايا 384 سنة. و تمّ
طردهم بعد فترة السجن بدون حقوق .. كذلك تم إطلاق سراح البقية الباقية وهم 147
بعدما تعرضوا لقرابة الشهرين من التوقيف لشتى أنواع التعذيب و التنكيل تفوق في
فضاعتها ما جرى في سجون قوانتنامو بكوبا،و سجون أبو غريب بالعراق.. و تمّ طردهم من
الحياة العسكرية و مطاردتهم في الحياة المدنية و بدون حقوق كذلك . .
و تتجلى معاناتهم بعد الإقصاء و التهميش في المراقبة الإدارية اليومية و
البوليسية اللصيقة و المستمرة لمنعهم من العمل يعني تجويعهم و قطع أرزاقهم ، و عدم
تمكينهم من العلاج داخل المؤسسات الصحية العسكرية و منعهم من السفر إلى الخارج
بسحب جوازات سفرهم و أوراقهم الثبوتية..
و قد رافق مظلمة براكة الساحل تعتيم كلّي فرضه عليها النظام الاستبدادي السابق
لأكثر من عقدين كاملين ، لم يكن بإمكان الضحايا خلالها التظلّم لدى المحاكم
التونسية و لا التشكي لدى الهيئات الدولية . و قد زادت حدة المظلمة بفعل هذا
التعتيم إذ لم يكن الرأي العام التونسي و الدولي مطلعا على القضية باستثناء ما
كتبه المناضل الحقوقي الدكتور أحمد المناعي في كتاب "عذاب تونسي " الحديقة
الخلفية للجنرال بن علي (7) ، و مناضلي المجلس الوطني للحريات بتونس(8) الذين أعدوا تقريرا حول الانتهاكات التي تعرض
لها أفراد المجموعة أثناء توقيفهم و التجاوزات التي شهدتها محاكماتهم الجائرة و
مجالس التأديب الصورية التي أطردت بموجبها عسكريين برأتهم المحاكم و الأبحاث و
التحقيقات العدلية الأولية..أطلقوا عليه عنوان " المحاكمة المنعرج ..انتصاب
المحكمة العسكرية ببوشوشة و باب سعدون صائفة
1992 ".
ثمة مسألة جوهرية هنا تتجاوز فضيحة التسليم
و التواطؤ و التعذيب و الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان.. في قضية براكة الساحل
91 ، لتصب في صلب موضوع تحقيق العدالة و رد الاعتبار و استرداد الحقوق بعد الثورة
و في إطار مسار العدالة الانتقالية، وبالذات ضرورة ألّا يفلت احد من العقاب عن
جريمة ارتكبها أو التفصّي من مسؤوليتها، مهما تكن الجريمة ومهما يطل الزمن، وهي
قضية تطرح نفسها بشدّة اليوم في بلدنا و في بلدان الربيع العربي التي تمر بتجارب
المراحل الانتقالية في فترات ما بعد الثورات التي أطاحت بأنظمة الفساد والاستبداد
والجرائم التي ارتكبت تحت سلطتها. وما تثيره التحقيقات في قضية وزيري الدفاع و وزير الداخلية في بداية التسعينات من القرن
الماضي و من لف لفهم من القيادات الأمنية (9) و العسكرية.. هو انه لا ينبغي أبدا
أن يكون التقادم، ولا طبيعة الأشخاص المتورطين سببا في إغفال النظر في الجرائم
والانتهاكات، حتى ولو كان الأمر يقتصر على مجرد تسليط الضوء على الجريمة وتعرية
مرتكبيها بغية تحقيق قدر معقول من العدالة للضحايا وللمجتمع، عبر كشف الجريمة
ومعالجة الجراح التي ولدتها وتعويض الضحايا ..
إن ممارسات الإفلات من العقاب تتناقض مع الشرائع السماوية و حتى الوضعية و تتناقض
مع التعهدات و الاتفاقيات الدولية و مع
العدالة الإنسانية ، وبالطبع، فإن هذا الأمر منصوص عليه في الإسلام، والقرآن
الكريم يشير إلى ذلك بشكلٍ واضح، إذ تقول الآية الكريمة (10) : (ولكم في القصاص
حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)، كما أشارت إلى ذلك مبادئ حمو رابي المعروفة
«العين بالعين، والسن بالسن»، وبالتالي فإن هذه السياسة لم تختلق حديثاً بل كانت
موجودة، وأخذت تتبلور بمفهومها الحديث مع تطور الأحداث في العالم.
و قد بدأت سياسة منع الإفلات
من العقاب بعد الحرب العالمية الثانية، حيث شكل الحلفاء المنتصرون محكمة لمحاكمة
النازيين الذين تسببوا بالدمار في العالم، ولحقتها محكمة أخرى لمحاكمة اليابانيين
الخاسرين في تلك الحرب.
هذه السياسة ترسّخت في المنظومة الحقوقية في العالم، و تركّز على الجرائم التي
لا يجوز أن يشملها العفو العام، كالقتل خارج القانون والتعذيب والتطهير العرقي،
خصوصاً إذا تمت الانتهاكات بسياسة ممنهجة، ومن قِبل مسئولين في الدول والحكومات. و
إن سياسة الإفلات من العقاب لن تؤدي إلاّ لمزيد من الأحقاد وانفلات الأوضاع، وستؤخّر
أي حلّ وأية مصالحة وطنية في بلادنا و في بلدان الربيع العربي، و لا انتقال
ديمقراطي بدون عدالة انتقالية..
عندما نؤكد على أهمية تحقيق العدالة الانتقالية، فلا يعني ذلك بالضرورة أن
تتحقق وفق عقاب بدني للمتجاوزين، بل يمكن تحقيقه بإقرار الدولة أو الجهة المحددة
بما قامت به من انتهاكات، ولدينا تجارب يمكن النظر إليها في هذا الصدد، كتجارب
جنوب إفريقيا وتشيلي والأرجنتين وكمبوديا، التي تمّ العفو فيها عمن قاموا
بالانتهاكات، بعد إقرار الجهات المعنية بأخطائها.
ما تشير إليه التجربة التاريخية الحديثة أن الإفلات من العقاب هو أكثر شيوعا في البلدان التي تفتقد لتقاليد حكم القانون وانتشار الفساد فيها، أو لأن القضاء ضعيف و منحاز، أو لأن أجهزة حفظ القانون والنظام تتمتّع بالحماية والحصانة، مما يعني عدم توفر الفرصة أو استحالة جلب المتورطين أمام القضاء. غير أن التجربة أثبتت أيضا أن دولا تشتهر بالديمقراطية وحكم القانون، كالولايات المتحدة وإسرائيل، تشهد هي أيضا حالات من الإفلات من العقاب، خاصة ما يتعلق بأفراد جيوشها وأجهزة مخابراتها عندما يتعلق الأمر بانتهاكات ترتكب في أثناء الحروب والصراعات..
إن أكثر أوجه هذه القضية إيلاما هو ما يسمى بشيوع ثقافة الإفلات من العقاب والتي تعني أن بعض الأفراد في المجتمع يبدءون بالاقتناع والتصرف بأن بإمكانهم أن يفعلوا ما يريدون دون حساب، أو رقابة، أو مواجهة عواقب القانون لأفعالهم، الأمر الذي يتطلب جهدا معاكسا لمقاومة هذا النوع من الثقافة وتكريس ثقافة بديلة، وهي ثقافة المحاسبة وإتاحة الفرصة للعدالة الانتقالية أن تأخذ مجراها في معاقبة كل من ارتكب جريمة، ومن أعطى الأوامر لتنفيذها، أو حرّض عليها أو من تستّر عليها مهما يطل الوقت أو يقصر. وهذه ليست فقط وظيفة الدولة التي ينبغي عليها العمل على إرساء فلسفة سيادة القانون كقوة لا يمكن تجاوزها أو خرقها من خلال النظام المؤسسي القانوني و الأمني والاجتماعي،بل هي أيضا مهمة مجتمعية ينهض بها المواطنون الفعّالون الذين ينبغي أن يستبسلوا في الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم .
ما تشير إليه التجربة التاريخية الحديثة أن الإفلات من العقاب هو أكثر شيوعا في البلدان التي تفتقد لتقاليد حكم القانون وانتشار الفساد فيها، أو لأن القضاء ضعيف و منحاز، أو لأن أجهزة حفظ القانون والنظام تتمتّع بالحماية والحصانة، مما يعني عدم توفر الفرصة أو استحالة جلب المتورطين أمام القضاء. غير أن التجربة أثبتت أيضا أن دولا تشتهر بالديمقراطية وحكم القانون، كالولايات المتحدة وإسرائيل، تشهد هي أيضا حالات من الإفلات من العقاب، خاصة ما يتعلق بأفراد جيوشها وأجهزة مخابراتها عندما يتعلق الأمر بانتهاكات ترتكب في أثناء الحروب والصراعات..
إن أكثر أوجه هذه القضية إيلاما هو ما يسمى بشيوع ثقافة الإفلات من العقاب والتي تعني أن بعض الأفراد في المجتمع يبدءون بالاقتناع والتصرف بأن بإمكانهم أن يفعلوا ما يريدون دون حساب، أو رقابة، أو مواجهة عواقب القانون لأفعالهم، الأمر الذي يتطلب جهدا معاكسا لمقاومة هذا النوع من الثقافة وتكريس ثقافة بديلة، وهي ثقافة المحاسبة وإتاحة الفرصة للعدالة الانتقالية أن تأخذ مجراها في معاقبة كل من ارتكب جريمة، ومن أعطى الأوامر لتنفيذها، أو حرّض عليها أو من تستّر عليها مهما يطل الوقت أو يقصر. وهذه ليست فقط وظيفة الدولة التي ينبغي عليها العمل على إرساء فلسفة سيادة القانون كقوة لا يمكن تجاوزها أو خرقها من خلال النظام المؤسسي القانوني و الأمني والاجتماعي،بل هي أيضا مهمة مجتمعية ينهض بها المواطنون الفعّالون الذين ينبغي أن يستبسلوا في الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم .
و إذا عدنا إلى جذور فلسفة العدالة
الانتقالية فإننا نجدها في تجارب الشعوب التي اختارت النضال السلمي كمنهج لمقاومة
الاستعمار أو للنضال ضد النظام الشمولي مثل الذي ابتلينا به نحن في تونس أو بدول
الربيع العربي قبل ثورتها، لنتأمل ما قاله غاندي : " إذا قابلنا الإساءة بالإساءة
، فمتى تنتهي الإساءة " . هذا التماشي يقابله تمشي أخر مناقض له تماما و
يمثله الفيلسوف الألماني " كانط " الذي يرى أنه لا بدّ من العدالة
المطلقة يعني العدالة للعدالة.
لذلك فقد جاءت العدالة الانتقالية مطالبة بحق الشعوب في مجابهة ظاهرة الإفلات
من العقاب عبر تجند المنظمات غير الحكومية و المدافعين عن حقوق الإنسان و الحقوقيين
و الحركات الديمقراطية في سبعينات القرن الماضي من أجل المطالبة بالعفو عن مساجين
الرأي ..مرورا بما شهده العالم في أواخر الثمانينات من عدة تحولات ديمقراطية و إبرام اتفاقيات سلام أنهت و أوقفت النزاعات
المسلحة في بعض البلدان ، في هذه المرحلة طرحت ظاهرة الإفلات من العقاب بشكل جدي و
محوري ، من زاوية البحث عن معادلة بين منطق نسيان الماضي الأليم و المظلم ، و بين
منطق العدالة التي يطالب بها دوما ضحايا هذا الماضي.
إنّ ما توصلت إليه لجنة حقوق الإنسان بمنظمة الأمم المتحدة يؤكد أهمية المسألة و
ضرورة أنّ : " الإفلات من العقاب يشجّع تكرار الجرائم ، في حين أن التعويض عن
الأضرار المعنوية و المادي يجب أن يشكل حقا لا جدال فيه للمتضررين من انتهاكات
الحقوق و ذويهم كذلك..إنّ معاقبة المجرمين من شأنها أن تجعل من علوية القانون
نموذجا يسود العلاقات الاجتماعية و كذلك ترسّخ في الذاكرة الجماعية الشعبية تجريم الانتهاكات
المرتكبة من الدولة و معاقبة المسئولين عنها كل ذلك من أجل تفادي حصولها
مستقبلا." (لجنة حقوق الإنسان لسنة 1992) .
وانطلاقا
من المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقد "بفيانا " سنة 1993 ، تواجد
توافق مهمّ حول ضرورة مقاومة الإفلات من العقاب و المحاسبة، و كذلك دراسة جميع
جوانب هذه الظاهرة التي تتعارض مع مبدأ احترام حقوق الإنسان و الحريات الأساسية.
و يعرّف مصطلح الإفلات من العقاب في المعجم الفرنسي : " le petit Larousse" :
« Le fait de ne pas risquer d’être puni ,
sanctionné »
و تقدّم منظمة العفو الدولية
تعريفا لغويا لهذا المصطلح يتمثّل في " غياب العقاب " impunité l’ "و في تعريف أوسع يحيل إلى عدّة
جرائم يفلت مرتكبوها من العدالة أو لا يحاسبون بجديّة على أفعالهم .
و يمكن تعريف الإفلات من العقاب
على أنّه " الغياب القانوني أو الفعلي لتحميل المسؤولية الجزائية لمرتكبي
الخروقات و الاعتداءات على حقوق الإنسان، و كذلك مسؤوليتهم المدنية و الإدارية .. بحيث
لا يتعرضون لأي بحث أو تحقيق يرمي لاتهامهم و إيقافهم و محاكمتهم و من ثمّ إدانتهم
في صورة ثبوت جرائمهم، و تسليط العقوبات عليهم و ما يتبع ذلك من تعويض المتضررين
من جرائمهم ".
ويفرّق هذا التعريف بين الإفلات
القانوني و الإفلات الفعلي من العقاب ، فالإفلات القانوني هو المؤسّس بقوانين و
الغاية منه حماية بعض أشخاص أو مجموعات أشخاص من كل تحقيق أو تتبع قضائي أو عقاب
لأفعال إجرامية قاموا بها سابقا و ذلك بغاية و باسم المصلحة الوطنية أو من أجل
النبش في الماضي و خشية فتح جراح قديمة من شأنها عرقلة التحول الديمقراطي.
أمّا الإفلات الفعلي فهو يعود إلى ضعف
أو فساد المنظومة القضائية، أو لتواصل بقاء النفوذ الأمني و محافظة البيروقراطية
على مواقعها في الإدارة، أو بسبب غياب الإرادة لدى النظام أو الشعب لمواجهة
الماضي.
و يطرح موضوع الإفلات من العقاب
لدى المجتمعات العربية التي تحرّرت لتوّها من النظام القمعي أو الديكتاتوري في خضم
الانتقالي الديمقراطي ، اتخاذ التدابير و الإجراءات لإلقاء الضوء على الماضي بغاية
السماح للمجتمع الجديد للقطع مع الماضي ، لتضميد الجراح و للتمهيد لقبول فكرة
العفو و لما لا النسيان..و من هنا برزت ثلاث مدارس و اتجاهات:
الأولى : تدعو إلى تجاوز ثقل
الماضي بإعلان عفو عام بما في ذلك العفو على كل من عبث بحقوق الإنسان أو ارتكب
فضاعات و تجنيبهم المحاكمات و العقاب و تمتيعهم ببساطة بمبدأ الإفلات من العقاب.
الثانية : وهي مناقضة تماما للأولى
و لمبدأ الإفلات من العقاب ، وهي تطالب بتتبع و معاقبة كل من كان مسئولا عن
الاعتداءات السّافرة على الحقوق و الحريات الأساسية ..و إنّ المدافعين عن هذا
التوجّه ينتظرون من الحكومة الجديدة الديمقراطية أن تضع مؤسسات تلقي الضوء على
الماضي و اتخاذ إجراءات في اتجاه المحاسبة و التعويض ، و تجريم الأفعال و
التجاوزات الحاصلة ، و تقديم المسئولين للقضاء ، و التعويض للضحايا و المتضررين.
الثالثة: توفّق بين المدرستين
السابقتين، إذ تلبي مطالب و رغبات المنادين بالعدالة لكن في حدود مرسومة بدعوى
المحافظة على الاستقرار السياسي، فهي من ناحية تسعى لضمان المصالحة الوطنية و من
ناحية أخرى لحماية الديمقراطيات الصاعدة من القوى المعادية للديمقراطية يعني قوى
الثورة المضادة..
و من نتائج نشر ثقافة عدم الإفلات
من العقاب تفادي تكرار الانتهاكات بتفكيك الأجهزة التابعة للدولة المسئولة عن
الانتهاكات ، وإلغاء التشريعات و القوانين التي بموجبها ارتكبت الانتهاكات و
تغييرها تشريعات تؤسس لنمط حكم ديمقراطي و حوكمة رشيدة ، و إزاحة كبار المسئولين
المتورطين في ارتكاب الانتهاكات. و حفظ الذّاكرة باعتبار أن معرفة الشعب لتاريخ
اضطهاده هو جزء من تراثه الذي يجب صيانته ، و الغاية من ذلك حفظ الذّاكرة الجماعية
من ناحية و من ناحية أخرى عدم ترك أي فرصة لظهور أطروحات تحرّف الواقع أو تبرّره
أو تنفيه.
في قضية تعذيب العسكريين لم يكن
ممكنا أبدا فتح الملفات القانونية لولا ثورة 14 جانفي 2011 المباركة و لولا شجاعة الضحايا التي أبدوها
أمام وسائل الإعلام و مراكز البحوث و الدراسات ليدلوا بشهاداتهم الأليمة (11)عن
الانتهاكات الجسيمة التي تعرضوا لها أثناء تواجدهم بمقرات الاعتقال و السجون، ثم
ليفتحوا الطريق أمام العشرات اللذين كسروا حاجز الصمت والخوف وكشفوا عن تجارب
مماثلة.
وعلى الدولة في هذه المرحلة الانتقالية الدور الأكبر في الوقت الحالي لإنهاء
سياسة الإفلات من العقاب ، و إذا أردنا تأسيس دولة المؤسسات و القانون ، فيجب
تطبيق القانون على الجميع ، و الشخصيات الممثّلة للدولة عليها أولوية في تطبيق
القانون ، فإذا لم يقم هؤلاء بتطبيق القانون فلن يقدم الآخرون على تطبيقه أو
الالتزام به ، و إنّ إنهاء سياسة الإفلات من العقاب يتطلّب في الأساس وجود إرادة
سياسية للدولة من ملفّ العدالة الانتقالية
، و أن مشروع العدالة الانتقالية ضمانة لعودة الأمور إلى نصابها . و أنّ الخطورة
الأكبر من استمرار و منهجة الإفلات من العقاب في أنها تؤدي إلى فصل تام بين مؤسسات
الدولة و بين مكونات الشعب ..و عندما تفقد الثقة نصل إلى مرحلة من اليأس تصل إلى
الثأر و الانتقام..لا قدر الله.
و انّ القانون بحد ذاته ليس مقياسا على التراجع أو التقدم في احترام حقوق
الإنسان ،إذ لا يمكن أن نضع نصوصا جميلة ، و ممارسات قبيحة ،و أي قانون يتحدّث عن
احترام حقوق الإنسان لا بد أن يقابله ممارسات موازية على الأرض ، و بالتالي فإن
مشكلتنا في بلادنا العربية ليست في غياب القانون الذي يمنع سياسة الإفلات من
العقاب بل في بعض الممارسات الخاطئة التي تغذي هذه السياسة و تنمّيها..
و إن ّمظاهر ترسخ ثقافة الإفلات من العقاب لمنتهكي حقوق الإنسان و المسئولين
عن إنفاذ القانون في دول الربيع العربي ، تمّ إدانتها مرارا و تكرارا من قبل
الخبراء من المراقبين الدوليين الحقوقيين و القانونيين المدركين للمعايير و
الممارسات الدولية الصحيحة، و بالدرجة الأولى فإن مظاهر هذه الثقافة أللإنسانية
يلمسها الضحايا و أهاليهم ..و عليه فإن مؤسسات المجتمع المدني عليها أداء دور مهم
و أساسي في رفع المعايير الحقوقية باستمرار و التعاون مع الجهات المعنية بالأمم
المتحدة و المنظمات الحقوقية الدولية المعنية لتحسين الواقع الحقوقي في بلداننا ،
وكذلك وضع مثل هذه الموضوعات المهمة على أجندات العمل السياسي و ألجمعياتي و إن
كان على مدى زمني متوسط أو طويل..
وتوفّر المراحل
الانتقالية في بلدان الربيع العربي فرصة كبرى لنبذ الممارسات القديمة لأنّه لا
يمكن إعادة بناء الدولة المدمرة بسبب سياسات الأنظمة الاستبدادية الفاسدة إلا عبر
تحقيق العدالة ، والتي بدورها لا يمكن إقامتها من خلال إصلاح النظام القضائي فقط
دون نبذ كلي لثقافة الإفلات من العقاب وإحلالها بثقافة حكم القانون. و إن ّكل
التفاف على المطالب المشروعة لضحايا استبداد الدولة يصيبهم بخيبة أمل و يسحب الثقة
من حكومتهم، و قد يدفعهم إلى الاعتقاد بأن الوسائل الحضارية و السلمية عاجزة على
إقامة العدل و الإنصاف ، و أن الوسيلة الوحيدة المتبقية هي العنف و قد تتحول الرغبة
في الانتقام و العدالة خارج إطار القانون .
إذا كانت إقامة حكم القانون تعني القصاص من مجرمي الأمس فإنّها تعني أيضا تكريس مبدأ أساسي وهو عدم السّماح، كواجب أخلاقي وقانوني، تكرار تلك الجرائم والانتهاكات في عهود التغيير و الانتقال الديمقراطي، سواء من خلال عمليات الثأر والانتقام، أو عن طريق منح الحكّام الجدد لأنفسهم مرتبة القداسة والحقّ بأن يفعلوا ما يشاءون لمجرّد أنهم أصبحوا سادة في النّظام السياسي الجديد.
إذا كانت إقامة حكم القانون تعني القصاص من مجرمي الأمس فإنّها تعني أيضا تكريس مبدأ أساسي وهو عدم السّماح، كواجب أخلاقي وقانوني، تكرار تلك الجرائم والانتهاكات في عهود التغيير و الانتقال الديمقراطي، سواء من خلال عمليات الثأر والانتقام، أو عن طريق منح الحكّام الجدد لأنفسهم مرتبة القداسة والحقّ بأن يفعلوا ما يشاءون لمجرّد أنهم أصبحوا سادة في النّظام السياسي الجديد.
1
الرئيس المخلوع و الهارب "
الجنرال " زين العابدين بن علي
2
الوزير الحبيب بولعراس ، الإعلامي و
المثقف و الكاتب المعروف ، صاحب مسرحية مراد الثالث ، و مؤلف كتاب القائد العسكري "حنبعل"
و الذي كافأه الرئيس المخلوع بتعيينه رئيسا لمجلس النواب لتفانيه في تنفيذ
المؤامرة القذرة..علما و أنه بقي على رأس وزارة الدفاع من 20 فيفري 1991 الى 10 أكتوبر
1991 .
3
المجلس الأعلى للجيوش : الجنرال محمد
الهادي بن حسين رئيس أركان جيش البر، و الجنرال رضا عطار رئيس أكان جيش الطيران ،
و الأميرال الشاذلي الشريف رئيس أركان جيش البحر ، و الجنرال محمد حفيظ فرزة مدير
عام الأمن العسكري و الجنرال محمد قزقز مدير القضاء العسكري.
4
الوزير عبد الله القلال ( أمين مال
حزب التجمع المنحل ّبعد الثورة ) ، الذي اتهم المجموعة و أدانها قبل أن تتم
محاكمتها..جريدة الصباح بتاريخ 22 ماي 1991 .علما و أنه تولى وزارة الدفاع من 11
أفريل 1988 الى 20 فيفري 1991 ثم انتقل مباشرة بعدها على رأس وزارة الداخلية لتنفيذ
المؤامرة المزعومة بغرض تحجيم الجيش و تجفيف المنابع..
5
أغلب وزراء حزب حركة النهضة حاليا
مثل حمادي الجبالي و علي العريض و عبد اللطيف المكي ..
6
الشهداء : الوكيل عبد العزيز المحواشي و
الرقيب محمد الناصر الشارني و الرقيب الشريف العريضي، قضوا كلهم تحت التعذيب.
7
كتاب : عذاب تونسي ،الحديقة الخلفية
للجنرال بن علي، تأليف الدكتور أحمد المناعي ، تقديم جيل بيرو. منشورات لديكوفارت ، باريس 1995 .Supplice Tunisien, le jardin secret
du Général Ben Ali, Ahmed manai , la
découverte Paris 1995
8
رئاسة المرحوم الهاشمي العياري و
بمساعدة المناضل الأستاذ عبد الرؤوف العيادي (رئيس حزب وفاء حاليا ) الذي يعدّ من
أشد المطالبين بقانون تحصين الثورة ، و أن لا انتقال ديمقراطي بدون عدالة انتقالية
يعني مصارحة ، محاسبة و مصالحة.
9
الوزير الحبيب بولعراس ثم الوزير عبد
العزيز بن ضياء من 10 أكتوبر 1991 الى 13
جوان 1996 ، و مدير أمن الدولة عز الدين جنيح و مدير المصالح المختصة محمد علي
القنزوعي.
10
سورة البقرة الآية 179
11 شهادة للتاريخ و للتصحيح ، محسن الكعبي ، مؤسسة
التميمي للبحث العلمي و المعلومات، تونس في 3 أوت 2012
No comments:
Post a Comment