البورقيبيّة والسياسة الخارجية لتونس المستقلة
ببادرة من المعهد التونسي للعلاقات الدولية الذي يرأسه المناضل السيد أحمد
المناعي احتضن نزل المشتل بالعاصمة صبيحة يوم الاثنين 24 مارس الجاري ندوة فكرية
خصصت لتقديم النسخة العربية من كتاب " البورقيبيّة والسياسة الخارجية لتونس
المستقلة " للكاتب الألماني " فيرنز روف " وهو مؤلف كتب في
الستينات من القرن الماضي في السنوات الأولى الاستقلال وهو عبارة عن رسالة دكتوراه
انجزها الكاتب باللغة الألمانية سنة 1962 خصصها للفكر البورقيبي في علاقته
بالسياسة الخارجية قبل وبعد الاستقلال وقد حضر هذه الندوة إلى جانب صاحب الكتاب
ومترجمه الدكتور الصحبي الثابت عدد من الشخصيات الوفية للزعيم الحبيب بورقيبة
الأستاذ الصافي سعيد والأستاذ الحبيب الجنحاني والمحامي جمال الدين بوغلاب.
يقول السيد أحمد المناعي لقد جاءت الفكرة أن نعود إلى كتاب "
البوقيبيّة والسياسة الخارجية لتونس المستقلة " والقيام بترجمته من الألمانية
إلى العربية بعد أن وقف الكثير من الناس على الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها
الدبلوماسية التونسية في ضل الحكومات التي تشكلت بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 وعلى
القرارات غير الصائبة لرئيس الجمهورية السيد محمد المنصف المرزوقي في القضايا التي
لها علاقة بالسياسة الخارجية وخاصة القرارات المتعلقة بالوضع السوري فكان لزاما أن
نعود إلى هذا الكتاب لنبرز القيمة الكبيرة للديبلوماسية الخارجية التونسية في فترة
حكم بورقيبة ونعرّف بالفكر البورقيبي في القضايا الدولية لتونس قبل وبعد الاستقلال
وقد تكفّل المعهد بعملية الترجمة بالتعاون مع الدكتور الصحبي الثابت المتخصص في
الأدب الناطق بالألمانية فجاءت النسخة العربية في 484 صفحة صادرة عن المطبعة
العصرية سنة 2013.
في بداية حديثه ذكر الأستاذ فيرنز روف أن البورقيبيّة ليست ايديولوجية وهي
لست فكرا أو نظرية وإنما هي مصطلح حاول الزعيم بورقيبة صياغته بنفسه وروج له
بمفرده وهي ليست ايديولوجية بالمعنى المتداول مثل الناصرية مثلا وإنما البورقيبية
هي استراتيجية وخطة تكتيكية ذكية تمكن من أن يتحقق بفضلها النجاح تلو النجاح وقد
اتقن بورقيبة استخدامها بامتياز من أجل تحقيق أهداف سياسية رسمها وهي استراتيجية
تقوم على وضع المنافس في وضع محرج وخطة تعتمد على استثمار اخطاء الخصم واللعب على
تناقضاته وفي موضوع الحال فقد لعب بورقيبة في تحقيق الأهداف السياسية المتمثلة في
تحقيق الاستقلال وكسب التأييد الخارجي للقضية التونسية على توظيف أخطاء المستعمر
الفرنسي وإجباره على ارتكاب الأخطاء والتناقضات لصالح المصلحة الوطنية فاستقلال
البلاد قد سبقه تطبيق استراتيجية وخطة ارباك سياسية جعلت فرنسا ترتكب الكثير من
الأخطاء أفضت في النهاية إلى الاعتراف باستقلال البلاد وهذه الخطة وهذه
الاستراتيجية وهذا التفكير هو من سيحكم ويحرك فكر بورقيبة في كل القضايا الدولية
وفي كل ما له علاقة بالسياسة الخارجية لتونس قبل وبعد الاستقلال.
يذكر الكاتب السيد فيرنز روف ثلاثة قضايا كبرى تبرز الاستراتيجية التي كان
يتبعها الزعيم الحبيب بورقيبة في السياسة الخارجية قبل وبعد الاستقلال وهي
استراتيجية ضلت هي نفسها تحكم وتحرك بورقيبة على المستوى الخارجي في علاقة بكل
القضايا التي لها ارتباط بالدولة التونسية وأول هذه القضايا الموقف من دول المحور
ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية في الحرب العالمية الثانية وخاصة الاحتلال
الألماني فقد وقف بورقيبة مع الحلفاء وإلى جانب فرنسا وحلفائها في حربها مع
النازية والفاشية وهو موقف استغرب له وقتها الكثير من السياسيين إذا كيف يقف
بورقيبة مع المحتل الفرنسي ولا يقف مع الألمان أعداء فرنسا ؟ غير أن استراتيجية
بورقيبة كانت تقوم إلى جانب كونه كان يستشرف هزيمة دول المحور فإنه كان يرمي
بموقفه إحراج فرنسا وإيقاعها في الخطأ من أجل القضية التونسية فالوقوف إلى جانب
الحلفاء كان الغاية منه احراج فرنسا وإظهار تناقضاتها بخصوص مبادئ حقوق الإنسان
وحق الشعوب في تقرير مصيرها والموقف من الاستعمار والاحتلال فإذا كانت فرنسا ترفض
الاحتلال الألماني فكيف يمكن لها أن تقبل بالاحتلال لتونس ؟ وعلى المستوى الخارجي
والدولي فإن بورقيبة قد كسب بموقفه هذا تأييد الرأي العام الأوروبي وضمن نصرة
الدول الغربية من أجل الاستقلال .
غير أن هذا الموقف من بورقيبة من دول المحور ومن الاحتلال الألماني والذي
كان عكس مواقف الكثير من الزعماء السياسيين التونسيين الذين وقفوا إلى جانب المحور نكاية في فرنسا
وبغاية طلب النصرة من ألمانيا من أجل أن تحصل تونس على استقلالها يطرح سؤالا كبيرا
له علاقة بالطريقة التي أخذ بها بورقيبة هذا الموقف بمعنى آخر هل احتكم بورقيبة إلى مؤسسات الحزب
وهل رجع إلى قادته يستشيرهم حول الموقف الرسمي من الحرب العالمية الثانية خاصة وأن
الزعيم صالح بن يوسف قد اتخذ موقفا مناقضا لبورقيبة ووقف مع دول المحور وساند
ألمانيا ؟ يقول الكاتب إن قرار الوقوف مع الحلفاء عوضا عن المحور كان قرارا اتخذه
بورقيبة بمفرده ولم يقع تشريك اعضاء الحزب الدستوري فيه بما يفيد أن التفكير
الإستراتيجي لبورقيبة هو قرار انفرادي ورؤية سياسية ينفرد بها بورقيبة وهي من القضايا التي سوف تجلب له الكثير من
النقد وتمثل أحد أهم نقاط الخلاف مع الكثير من القادة الوطنيين من بينهم صالح بن
يوسف.
القضية الثانية التي تبرز أن بورقيبة كان يحتكم إلى استراتيجية ذكية هي
قضية الاستقلال الداخلي وقبوله أن تعترف فرنسا بالاستقلال الشكلي مع بقاء سيادتها
على السياسة الخارجية والمالية والعسكرية وهي خطة كان الهدف منها كسب الرأي العام
الفرنسي والعالمي وإظهار قدر كبير من المرونة في التعامل مع موازين القوى وكذلك من
أجل توريط فرنسا في هذه الخطوة المنقوصة من الاستقلال وجعلها تقع في تناقضات
تجبرها في الأخير على الاعتراف بالاستقلال
التام على عكس خصمه صالح بن يوسف الذي رفض منذ البداية الاستقلال الداخلي وطالب
بالاستقلال التام .
لقد كانت خطة وإستراتيجية بورقيبة هي القبول بالاستقلال الداخلي خطوة نحو
الاستقلال التام ودفع فرنسا إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء والوقوع في التناقضات
وإظهارها للرأي العام العالمي الذي كسبه بورقيبة من أجل القضية الوطنية في مظهر
الضعيف وهم الأمر الذي حصل سنوات قليلة بعد الإمضاء على بروتوكول الاستقلال
الداخلي حيث دفع الاحتلال الفرنسي إلى ارتكاب اخطاء يدينها القانون الدولي وتنكرها
مبادئ حقوق الإنسان من خلال افتعال حرب بنزرت التي دفع إليها الشعب لمحاربة
المستعمر في حرب غير متكافئة نتيجتها الحتمية حصول مجزرة بحق الشعب الأعزل لتوريط
المحتل وكسب التعاطف الدولي وجعل فرنسا تقع في أخطاء قاتلة.
لقد كانت حرب بنزرت من وجهة نظر بورقيبة الذي حشر الشعب الأعزل في هذه
المعركة ودفع بالكثير من الشباب في حرب غير متكافئة من أجل تحقيق أهدافه السياسية
استراتيجية ناجحة حققت المطلوب ودفعت المستعمر إلى مغادرة البلاد وخروج آخر جندي
من التراب التونسي ولكن هذا التصرف من وجهة نظر الكثير من السياسيين والمؤرخين هو
خطأ سياسي فادح حتى وإن افضى إلى الاستقلال من خلال التضحية بالشعب من أجل ارضاء
الطموح الشخصي.
القضية الثالثة في الاستراتيجية البورقيبية في السياسة الخارجية هي القضية
الفلسطينية والموقف الذي أبداه في أريحة سنة
1965 من الصراع العربي الاسرائيلي وهي المناسبة التي انتقد فيها بورقيبة
موقف الدول العربية وسياساتها العرجاء وطالب في هذا اللقاء من الفلسطينيين بقبول
حل الدولتين والقبول بما منح لهم من أرض وهو موقف أبدى فيه بورقيبة الكثير من
المرونة والتفهم ورغب من خلاله كسب تأييد
الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت مؤيدة لهذا الحل فكان يبحث عن
التأييد الدولي الذي لم يكن مستعدا لقبول حل آخر غير هذا الحل وكان بورقيبة ينبه العرب إلى ضرورة التعرف بعمق
على عقلية العدو قبل الدخول في مغامرة عسكرية والتعرف على موازين القوى وحشد الرأي
العام العربي والغربي كانت استراتيجيته
وقتها بعناصرها المعروفة هي تقديم عرض للاسرائليين يحرجهم ويربكهم ويجعلهم يقعون
في أخطاء تستفيد منها القضية الفلسطينية فقد كان يرمي اللعب على تناقضات
الإسرائليين المدافعين على الحقوق وخاصة على حقهم في أن يكون لهم وطن وبعرضه
مقترحه كان يرمي إلى وضع الإسرائليين أمام مبادئهم وقناعاتهم وهي أنهم اذا كانوا يدافعون
عن وطن لهم فكيف يرفضون لغيرهم أن يكون له وطن ؟
كانت هذه بعض الأفكار التي جاءت في كلمة الأستاذ " فيرنر روف "
عن البورقيبية بوصفها استراتيجية وتكتيك استعملهما بورقيبة في كل مواقفه من
السياسة الخارجية لتونس المستقلة وفي الكتاب الكثير من الأفكار والقضايا المهمة
التي بذل فيها الكاتب جهدا كبيرا لتوثيقها بالاعتماد على الكثير من المراجع المهمة
ما يجعل من العودة إلى الكتاب عودة ضرورية للتعرف أكثر على فكر وعقل بورقيبة على
أن الكاتب قد خلص في نهاية عرضه إلى القول إذا كان الزعيم بورقيبة متسامحا كثيرا
ومتفهما وديمقراطيا في المسائل الخارجية و قضايا السياسة الدولية فإنه لم يكن كذلك
في الداخل حيث غاب التسامح والتفهّم والديمقراطية مع خصوم الداخل مما جعله يؤسس
للحكم الديكتاتوري . إننا ننصح بقراءة هذا الكتاب فهو كتاب مضمونه شيق ويحتوي على
تحاليل مهمة ومفيدة تقدم إضافة نوعية الى المكتبة البورقيبية .
نوفل
سلامة
No comments:
Post a Comment