عن الحرب على الإرهاب والنموذج التونسي... وابن عمّتي نوفل
عن الحرب على الإرهاب والنموذج التونسي... وابن عمّتي نوفل بقلم: أميّة نوفل الصدّيق (*)
تعدّدت في السنوات الأخيرة حالات التوقيف التّعسّفي والاعتقال دون تُهَم مُعلنة وخارج الأطر القانونية للحقّ العام، طالت جمْعاً هامّاً من أبناء تونس وبناتها. لا نملك تفاصيل حيثيات كل هذه الأحداث، لما أحاط بها من سرّيّة وتعتيم، ومن امتناع السلطات المسؤولة عن الإدلاء بأي معطيات مفيدة، لكنّنا نعلم حقّ العلم ما عانته أسرهم من آلام، وما تحمّلته من عذاب ومن خوف على حال «المخطوفين» وعلى مآلهم.
بعد غياب يمكن أن يدوم أسابيع أو أشهراً، حسب حظّ المعني بالأمر، وحسب قدرة ذويه على التأثير في الجهات النافذة، يظهر المختفي أو المختفية في سجن من سجون البلاد في ثوب المتّهم بارتكاب أعمال لا يصدّق من عايشه أنه ارتكبها. فتكون آثار الجراح الدّفينة في تعابير وجهه وفي اللامنطوق من كلامه وفي نظراته حين مقابلته لذويه، تكاد تنسي ما خلّفه الضّرب المبرح من علامات بيّنة على جسده.
القصة الشخصية
عَلِم كاتب السطور باختفاء ابن عمّته من مقرّ عمله في العاصمة تونس خلال شهر حزيران 2006. بقي نوفل ساسي والد الأطفال الأربعة بعد اختطافه في زنزانات البوليس السياسي مدّة أسبوعين جابت خلالهما السيدة زوجته مكاتب المصالح الرسمية المعنيّة تسأل عن مكان زوجها فيجيب المسؤولون بنفي وجوده عندهم. فكانت في كلّ يوم تعود، مصرّة على توجيه السؤال لكلّ الرسميّين من أدنى أعوان السلطة حتى أعلى هرمها، معلنة غيرتها على حقوق زوجها وحقوقها، ملقّنة درساً في الشجاعة والكرامة والوفاء لكلّ من نسي ما هو نفيس في نفسه.
بعد خمسة عشر يوماً، نُقِلَ نوفل من دهاليز وزارة الداخلية إلى السجن المدني في العاصمة، فتأكّدت العائلة من أنه حيّ. كان هذا الخبر بمثابة البشرى في أوّل الأمر، ثمّ لمّا عُلِم بما تعرّض له من تعذيب ومن إهانات (وفيها ما كان يخجل من وصفه أثناء المقابلات القصيرة المسموحة تحت رقابة السجّانين)، ولما عُرف ما كانت تحوكه أجهزة الأمن من سيناريوات للزجّ به وبغيره في صفقة أمنية دولية لا دور له فيها غير دور حطب النار، انقلبت البشرى شؤماً والفرحة خوفاً، ثم غضباً بارداً.
قضى نوفل سنة ونصف السنة في السجن قيد التوقيف التحفّظي، توفّي خلالها والده. وها هو تقرير ختم البحث يأتي بالتهم المنسوبة إليه وبحيثيات إثباتها، فإذا بها مستندة كلّها إلى شهادات أنكرها أصحابها حالما مثلوا أمام قضاء التحقيق، أي حالما انتُزِعوا من أيادي أعوان الأمن المكلّفين الاستجواب. وإذا بفقرات كاملة من التقرير منسوخة حرفيّاً من ملفّ تحقيق محاكمة جرت سنة 1990 وتمّ بتّها، وإذا به خاوٍ من أيّ عنصر من عناصر البرهان القضائي المتداولة والمقبولة... لكن هزالة التهم واهتزاز مقوّمات الإدانة في بلادنا لا تحمل الطرف المدافع آليّاً على التّفاؤل كما في باقي الدول، فهي تشير لكون محدّدات المحاكمة لا تمتّ للقانون ولا لقواعد الإجراء القضائي ولا لحقيقة الأحداث بصلة، لذا وجب توسيع رقعة الدفاع.
لذا يجب فهم القضية من خلال سياقها العام، وربط الاهتمام بمصلحة المُقاضَى، دائماً، بالتزام همِّ المصلحة العامّة.
القصة العامّة
لا يمكن أيّ متابع لأساليب إدارة شؤون الدّولة في بلادنا إلّا أن يلحظ نزوع قوى الأمن وجهاز القضاء المتنامي منذ بضعة سنين لاتخاذ مقولة «مواجهة الإرهاب» ذريعة لتطبيق شتّى أشكال التنكيل والتعذيب، وحجّة لإرساء الإجراءات الاستثنائيّة قاعدة دائمة للممارسة الأمنية، وللاستعفاء من القوانين الحامية للمواطنين، بل من كلّ القيم الأخلاقية والاعتبارات الحضارية المكوّنة لوعينا وهويتنا وكرامتنا.
لا تقتصر آلة القمع المتسترة وراء «مكافحة الإرهاب» هذه، على ضرب بعض المعنيّين من الناشطين السياسيّين أو غير الناشطين وذوي قرباهم، بل إنّها بمثابة شفرة السّيف المصلَت على شعب بأسره، تبثّ فيه الفزع وتحقن في أعمق طيّاته مخدِراً لتلك الفطرة التي تجعل الناس يتآزرون على الصعاب ويتضامنون في المآسي.
هكذا يصبح الجار يتعامى على ما يحلّ بجاره خشية من التورّط في «مساندة الإرهاب» (الفصل 17 و19 من قانون مكافحة الإرهاب الصادر في 10 كانون الأول 2003)، والأخ يمتنع عن نصرة أخيه، ولو كان مظلوماً، تحاشياً لتهمة «التواطؤ بقصد عمل إرهابي» (الفصل 13 من القانون نفسه)، ويصبح الابن مُخْبر شرطة على أبيه.
وبهذا تُستَورَد بذرة الحقد والكراهية بين المضطهدين وإدخال بوادر الحرب الأهليّة إلى عقر ديارنا وإلى صميم أسرنا، فيكاد يكتمل المشروع العَوْلمي المتمثّل في تعميم و«دمقرطة» الحرب الأهلية الدائمة. أمّا الإنجاز النهائي للمشروع إياه، فلن يُعلَن قبل أن يصبح فم الواحد منّا ينْهَش ساعِده، وقبل أن تتوجّه رجْلايَ لأقرب مخفر أمن للوشاية بانحيازي الكامل لخط المقاومة في لبنان وبما يغمر قلبي من تعاطف مع المقاومة الشعبية العراقية وما يتضمّنه ذهني من إكبار لصمود الشعب الفلسطيني وإبائه، علماً بأنّ هذه المشاعر والتعبير عنها قد يمكن إدراجها ضمن «القيام بالدّعاية لاقتراف جرائم إرهابيّة» (الفصل 12 من قانون 2003).
هذا التطوّر يتجاوز طبعاً الحدود التونسية. فقد أضحى التعاون (الأمني والقضائي والعسكري) في مكافحة الإرهاب هو المجال الأساسي لإعادة ترتيب وضبط جهاز الهيمنة المعولمة على شعوب الأرض وخيراتها. لكن تونس، هذا القطر الصغير المتوسّط للبحر المتوسّط، بسبب موقعه الجغرافي وانفتاحه الثقافي والاقتصادي والتركيبة الإدارية والسياسية للسلطة فيه، يكتسي أهمية نموذجيّة في نمط إنتاج وتراكم التقنيّات الأمنية وآليات السيطرة على الأجساد والنفوس.
لا تملك تونس من الخيرات الطبيعية ما يمكن تصديره والانتفاع من بيعه ومن اقتصاص عمولة السمسرة من ثمنه إلا القليل. لذا، إلى جانب الاتجار بما بقي من خيرات عامّة بعد خصخصتها، وهي لا تكاد تفي بأدنى الحاجات المعيشيّة للعِبَاد، فقد اختصّ الماسكون بزمام جهاز السلطة في تطوير منظومة الإدارة الأمنية للمجتمع، وابتكار الأدوات البوليسية والقضائية والاستعلامية المناسبة للعهد الأمني الديموقراطي السعيد القادم. تُعَدّ هذه المهارة أهمّ عناصر القيمة التفاضلية التي يمتاز بها النظام التونسي في التقسيم الدولي الراهن للعمل، يتقاضى مقابله ما يحتاج إليه من مساعدات مالية ودعم سياسي من مراكز الأمر والقرار العالميّين.
فأصبح تراب الجمهورية الخضراء ميدان تجارب، وسكّانها جرذان مختبر لإنتاج البضاعة الأمنية وتوزيعها على السوق العربية الإسلامية، ولتزويد «الشركاء» الأميركيّين والأوروبيّين بروايات عن شبكات ومشاريع إرهابية لا إثبات ولا براهين على وجودها غير اعترافات يتعذّر التحقّق منها بسبب غياب كلّ شروط المحاكمة العادلة وانعدام احترام حقوق الدفاع. بل إنّه يصعب على أي مراقب للقضايا المعنية لم تُشْترَ ذِمّته، ألّا يقتنع بأنّ أغلب الاعترافات مصطنعة ومنتزعة تحت التعذيب، ولا سيما أنّ كل المعترِفين تقريباً يصرخون حالما تسنّى لهم الكلام خارج زنزانات التحقيق، مؤكّدين أنه لا علاقة لهم بما جاء في محاضر الاستجواب وأن توقيعهم قد اقتُلع منهم بواسطة أشكال عديدة من التعذيب. ثم يهمّون بوصف تلك الأشكال، وإذا بها متشابهة من متّهم لآخر ومن قضية لأخرى، ومطابقة لما هو بمثابة مجلّة إجرائيّة جديدة محدِّدة لفنون التعذيب، يبدو أنها قيد الإتمام والتعميم لتصبح مرجعاً من مراجع المعايير الإجرائية الدولية.
قد يرى القارئ في هذا الوصف شيئاً من المبالغة، وقد يجد أنه لا حاجة لمختبر تونسي (أو أردني، أو إماراتي...) بما أن الأميركيّين يقومون بالعمل نفسه، بدرجة عالية من الضمير المهني والإتقان في أبو غريب وغوانتنامو وباغرام وغيرها من الأماكن ذات الأسماء الغامضة المثيرة.
نقول بأسف إنّ الهدف الاستراتيجي لعدوان التحالف بالزعامة الأميركية ليس الاكتفاء بزرع بعض المواقع المحصّنة في ميادين المواجهة العسكرية المباشرة، يمارس فيها من الأعمال الشنيعة والبشعة ما يُنسَب إلى الوجه المظلم الاستثنائي لقوّة يمكنها بالتزامن أن تكون مروِّجاً للسلام والحرية والرّخاء لباقي الإنسانية. إنّ المرحلة اللاحقة للحملة الوقائية الكونية هي تطبيع ذاك الاستثناء ونشره على امتداد البسيطة، إلى أن تُفَكَّ كلُّ روابط التضامن بين النّاس (الوطنية والطبقية والدينية، وحتّى العائلية والودّية)، وتُذَوَّب كلّ عوامل حصانة الشعوب والأمم والجماعات. يصبح آنذاك الإذعان الكامل لقوّة الاستبداد وحدها، والخوف والاستسلام الدائمان، سنن حياتنا. لذا وجب توسيع رقعة الدفاع.
(*) ناشط تونسي
(المصدر: صحيفة "الأخبار" (يومية – لبنان) الصادرة يوم 11 جانفي 2008)
الرابط: http://al-akhbar.com/ar/node/59909
No comments:
Post a Comment