تونس :التشّخيص
المستحيل
أحمد المنّاعي
Avril
2001
من الصّعب،
بل من العبث أن نحاول تشخيص الحالة التّونسيّة بشكل موضوعي ودقيق وكامل، يشمل
المستويات الثّلاثة التي تقوم عليها كلّ حياة اجتماعيّة منظّمة، وهي الإنسان
والمجتمع والدّولة، فبماذا نستطيع ذلك، وليس بين أيدينا إلاّ معلومات مشتّتة لا
يمكن لها أن تمثّل حتّى عيّنات معبّرة ودالة عمّا وقع فعلا على المستويات الثّلاثة
المذكورة؟ ونعتقد أنّه لكي نبدأ أن نعرف الحقيقة، يجب أن تفتح خزائن وثائق الإدارة
وتبوح بأسرارها لقضاة عدل مستقلّين وباحثين نزهاء، ويبدأ التّونسيّون بإعطاء
شهاداتهم عمّا جرى لهم أو شاهدوه أو علموا به؛ ولن يتمّ ذلك إلاّ على مدى جيل وبعد
أن تنقشع هذه الغمامة عن البلاد.
وإضافة
للصّعوبة المتأتّية من ندرة المعلومات، هناك صعوبة أخرى تتعلّق بتحديد الجهة
المسؤولة عمّا حدث، حيث تقتضي الأمانة ألاّ نحمّل النّظام الحاكم مسؤوليّة كل الذي
حدث. فكثير من الذي حدث ولا يزال يحدث هو من إنتاج ميراثنا الثّقافي، نشترك جميعا،
أفرادا ومجتمعا ودولة في تحمّل مسؤوليّته. ولاشكّ في أن تعميم ممارسة التّعذيب
والانتهاك الجماعي لحقوق الإنسان والمواطن والاعتداء على الحرمات وسلب الأموال
والأملاك وخنق الحرّيات ومظالم أخرى كثيرة وصارخة هي مسؤوليّة الحاكم وحده. ولاشكّ
أيضا أنّ التدمير المخطط والمنظّم لمؤسسات الدولة والانحراف بها عن وظائفها
الطّبيعيّة وتسخيرها لخدمة مصالح شخصيّة وفئويّة وعلى حساب المصلحة العامة، كلّ
ذلك من عمل النّظام وهو وحده يتحمّل مسؤوليته.
لكن الأمر
يختلف عند تحديد المسؤولية عن الدّمار الذي أصاب إنساننا ومواطننا ! فمن يتحمّل
مسؤولية شعور الإحباط الذي تملّك بقلوب المواطنين؟ ومن يتحمّل مسؤولية فقدان
المواطن لوسائل مناعته الذّاتية ولأبسط حسّ للدّفاع عن النفس؟ ومن يتحمّل شعور
اليأس من الحاضر والقنوط من المستقبل المعشّشين في النفوس؟ ومن يتحمّل مسؤولية
انهيار المعنويات الفردية والجماعية ومسؤولية هروب النّاس إلى وجوه ورموز الماضي
لمواجهة رداءة الحاضر؟
لا شكّ أنّ
للنّظام ولقمعه العنيف والمدمّر لكلّ القيم والفضائل وكلّ شبكات التّضامن، الدّور
الأهمّ والمسؤولية الأكبر، ولكن يبقى مع ذلك شيء على عاتق المجتمع ومؤسساته لأنّ
المجتمع ليس بقطيع الغنم، ويبقى شيء آخر على عاتق المواطن لأنّه ليس بالكائن
الخارج من سلسلة صناعية.
وما لم يقدم
كلّ طرف، فردا أو جماعة، حزبا أو جمعيّة، على التّسلّح بالشّجاعة والأمانة وتحمّل
مسئوليته واعترف بدوره في كلّ ذلك، صغيرا كان أم كبيرا، فإنّ أزمة تونس تبقى أعمق
من أن تعالجها إصلاحات سياسيّة وتحسينات في مجال حقوق الإنسان، لأنّ الأزمة هي في
جوهرها أزمة قيم وأخلاق قبل أن تكون أزمة سياسية عابرة أو دائمة، وهي أزمة عامة،
شملت عدواها حتى القوى الحاملة لمشعل التّغيير والإصلاح.
أحمد المنّاعي
تونس الغد
إصـدار: اللجنة العربية
لحقوق الإنسان ودار نشر" أوراب" الباريسية2001-
No comments:
Post a Comment