أما آن للرحّالى أن يرحل
عبد المجيد الميلي - باريس
كنت عضوا في حركة النهضة إلى مطلع التسعينات وكنت عضوا في العديد من أطرها القيادية. وهالني حينها افتقاد قيادة هذه الحركة لأي تصور أو أي مشروع للخروج من المأزق الذي وقعت فيه الحركة والبلاد لا في بعده الإنساني ولا في بعده السياسي وأنها اختارت سياسة الهروب إلي الأمام وكان همها الأساسي تثبيت مشروعيتها وتسفيه مخالفيها ولم يكن يعنيها حجم الدمار الذي حصل فهو مجرد أضرار جانبية وكانت الموارد المالية تصرف وفق هذا الترتيب في الاولويات.
كانت هذه القيادة تدرك أن أي بحث لحل ما يومها لن يمر إلا من خلال استبعادها باعتبارها مسئولة أخلاقيا وسياسيا عما حدث ولكنها كانت ترفض ببساطة دفع هذا الثمن واختارت أن تبقى ويبقى الوضع السياسي والاقتصادي والإنساني رهينة بيدها. هذا المعنى عبر عنه الرحالي في مقال سابق بقوله –لا ديمقراطية بدوننا ولا تنمية بدوننا...- وتبقي المعانات الإنسانية مستمرة ويبقى الضحايا والمساجين والمهجرين رهائن تساوم بهم وتستثمر عذاباتهم.لقد عبرت الحركة عن امتعاضها كل مرة سرح فيها مساجين ووضعت كل العوائق أمام العائدين ضمن حملات تجرد القائمون عليها من كل قيمة دينية أو إنسانية أو وطنية ألم يقل الغنوشي للمجتمعين في جينيف العام الماضي أن نضالكم من أجل جواز السفر مضيعة للوقت ونقص من الأعمار لان النضال الحقيقي حسب صاحبنا يكون من أجل تحرير تونس لأن البلاد حسب رأيه تعيش حالة من الاحتلال الداخلي وهو يعلم أنه لن يقنع بهذا الخطاب أفراد عائلته فما بالك بالحركة أو المعارضة وأبعد من ذلك تونس وشعبها.
الغنوشي ومن حوله لا يرون الحل إلا من خلال إعادة الاعتبار لهم وسد الطريق أمام محاسبتهم عما حصل. وهذا غير ممكن لاعتبار ميزان القوى وما آل إليه الصراع ولرغبة الإسلاميين لمراجعة تجربتهم واستخلاص ما يستخلص منها.
هذه القيادة أول من يعلم ذلك ولكنها اختارت الهروب إلى الأمام والمراهنة على –عسى أن يحدث أمرا- باعتبار ذلك المخرج الوحيد لها... ولكن هذا لا يشكل مخرجا لنا.
هذا الكلام قلته وكتبته مع ثلة قليلة من أصدقائي مطلع التسعينات وجلب لنا العداوات وطردنا على خلفيته من الحركة ووصفنا حينها بالطيش وبضعف الوعي السياسي وبالتواطىء الموضوعي مع السلطة وتزلف على ظهورنا المتزلفون ولكن ذلك لم يمنعنا من الثبات على موقفنا وتأكيدنا على ضرورة فكّ الاشتباك والخروج من حالة الصراع والبحث عن حلول إنسانية لوقف النزيف ولمداواة الجراح.
وها هي الأيام تثبت لنا بعد ما يزيد عن عقد ونصف من الزمن صحة و أصالة موقفنا فما كان بالأمس طيشا أصبح اليوم عند القطاع الأوسع للكوادر الإسلامية نصحا لله ولرسوله وما كان بالأمس تهورا أصبح اليوم عين الحكمة ومحل إجماع إما بقناعة شاطر أو بحسابات طامع.
هذه القيادة وللأسف أجبن من أن تتحمل مسؤولية أعمالها فكما نراها اليوم تتخفى وراء أسماء مستعارة للسب والشتيمة تهربت بالأمس من تبعات أعمالها. من قبل الدخول في صراع كان عليه أن يقبل بنتائجه نصرا كان أم هزيمة وليس النصر كالهزيمة ومن يضع شروط المنتصرين وهو مهزوم فغبي هو أو يسمح لنفسه باستغباء الآخرين.
هذا المعنى كان قاسيا على الإسلاميين قبوله واستيعابه واقتضى الأمر عملية معالجة نفسية عميقة وطويلة للخروج من سطوة الدجالين والمغالطين والسحرة واستعادة وعيهم وبوصلة تفكيرهم ليخلصوا إلي ما هو بديهي ولا يختلف حوله العقلاء.
ولي الشرف شخصيا أني ساهمت مع ثلة من أصدقائي مساهمة ايجابية في مساعدة إخواننا على فهم ما حدث لهم و الاستقلال برأيهم.
اتهمني الرحالي وبعض أصدقائي بأننا لم نشتغل بعمل ما ولم تسلم الحركة من أذانا و هنا أؤكد لسي الرحالي ولمن أخذ عنه الرحالي هذا الاتهام في ورقة داخلية –أراد لها صاحبها أن لا تكون كذلك- أننا اشتغلنا بمحاولة فهم ما حصل لنا وبمساعدة إخواننا على هذه المعالجة النفسية التي أخرجتهم من سحركم.كما انشعلنا بالكسب الحلال ولم نكن عالة على أحد وقدمنا نموذجا آخر للمسلم يقطع مع صورة الذين يعيشون من سبيل الله وهم يدعون أنهم يعيشون في سبيل الله و مع الذين هم قابضون على الأمر وهم يدعون أنهم قابضون على الجمر...فبما اشتغل أتباعكم؟؟؟
أما عن مطالبتنا بحل الحركة فهذا ليس معرة بل هو الاستخلاص الأقوم لما تأكد عندنا من قناعة بأنها تحولت الى عائق في سبيل مداواة الجراح وتجاوز مرحلة من تاريخنا لا نريد لها أن تطول ولا أن تتكرر. وان كنا في ذلك سباقين فالأمر الآن يكاد يرقى إلي الإجماع ولا تغرنك مغالطات المتمعشين من هذه الأوضاع.
أما عن وجوه هذه الاستفاقة وما أخذته من أوجه الخلاص الفردي فمسؤولية ذلك تقع على قيادة النهضة.اتصلت السلطة بالنهضة في مناسبتين على ما أعلم وكان حينها ممكنا التفاوض على حل يعفي الأفراد من المساعي الفردية ولكن تصلب النهضة أجهض ذلك ولم يبق أمام الأفراد إلا هذا الخيار وليس في ذلك معرة فنحن قبل أن نكون أعضاء آو أعضاء سابقين في النهضة, نحن مواطنون تونسيون ولا مانع ولا عار في أن يتصل التونسي بإدارة بلاده وأن يطلب حقه بل ويشكر من يمكنه من ذلك.
بقي لسي الرحالي وهو متنكر وليس نكرة أن يخلي بين التونسيين وبلادهم ولا ينصب نفسه سلطة أدبية وأخلاقية لأنه ليس أهلا لذلك وأن التونسيون برجاحة عقولهم قادرون على معا لجة شؤونهم ضمن مراوحة بين الأمثل حينا والممكن حينا آخر ولا يقبلون لغة التخوين أو التكفير.
عبد المجيد الميلي - باريس
No comments:
Post a Comment