Search This Blog

Tuesday, March 01, 2011

Nabil Grissa: La logique révolutionnaire

منطق الثورة

نبيل خلدون قريسة
أستاذ التاريخ بكلية الآداب بمنوبة

هل أن ما تعيشه تونس ثورة؟ هل أنّ الزلزال الذي انطلق منها هو بحجم موقعها من التاريخ الإقليمي والعالمي أم يمثل تغييرا نوعيّا في
المقاييس المعتمدة في تصنيف الدول والشعوب؟
الثورة في التعريف الأوّلي تغيير عنيف أو قطيعة مع السائد، قد تكون نهائية وجذرية، وقد تكون رمزية مرتبطة بالذاكرة ورموزها، وقد
تكون مادية بهدم كل ما اعتمد عليه الماضي من مؤسسات وأعوان لقهر الثائرين عليه وردعهم.
في اللغة العربية تعني الثورة الكثرة وفوران الدم والهيجان وحتى الجنون، وبصورة عامة كسر الاستقرار وتجاوز الحدود: " الثَّوْرُ
الهَيَجانُ، والوَثْبُ، والسُّطوعُ، ونُهوضُ القَطا والجَرادِ، وظُهورُ الدَّمِ، كالثُّؤُور والثَّوَرانِ والتَّثَوُّرِ في الكُلِّ. وأثارَهُ وأثَرَهُ، وهَثَرَهُ، وثَوَّرَهُ، واسْتَثارَهُ غيرُه، القِطْعَةُ العظيمَةُ من الْأَقِطِ، ج أثْوارٌ وثِوَرَةٌ، وذَكَرُ البَقَرِ، ج أثوارٌ وثِيارٌ وثِوَرَةٌ وثِيَرَةٌ وثِيرانٌ، كجِيرَةٍ وجِيرانٍ. وأرضٌ مَثْوَرَةٌ كثيرَتُهُ، السَّيِّدُ، والطُّحْلُبُ، والبَياضُ في أصْلِ الظُّفُرِ، وكُلُّ ما عَلا الماءَ، والمَجْنُونُ، وحُمْرَةُ الشَّفَقِ النائرَةُ فيه، والْأَحْمَقُ، وبُرْجٌ في السماءِ ... وثَوْرَةٌ من مالٍ ورِجالٍ: كثيرٌ. والثَّوَّارَةُ الخَوْرانُ. والثائِرُ الغَضَبُ. والثِّيرُ، بالكسر غطاءُ العينِ. والمُثيرَةُ البَقَرَةُ تُثيرُ الأرضَ. وثاوَرَهُ مُثاوَرَةً وثِواراً واثَبَه. وثَوَّرَ القرآنَ بَحَثَ عن عِلْمِهِ..." (القاموس المحيط للفيروزآبادي) ، لذلك لم يكن لهذه اللفظة معنى إيجابي، بل كانت العرب تقول "الخروج" للدلالة على معنى الثورة السياسية الذي نقصده اليوم فيسمون الثوّار الخوارج.
أما في اللغة الفرنسية واللغات الأوروبية عموما، فهي تعني تطورا متجددا révolution قد يعيد نفس المسار وقد يغيره، وهو ما يوافق مثلا الظواهر الفلكية والطبيعية، أي أنها لا تعني بالضرورة انقلابا أو تغييرا جذريا. إلا أنّ الاستعمال الحديث جعلها تعني القطيعة والقفزة النوعية. وهذا هو المعنى الذي التصق اليوم بلفظة الثورة في اللغة العربية.
قد تتداخل معاني الثورة مع الانتفاضة، والانتفاضة الفلسطينية تمثل بالتأكيد نوعا من الثورة التحريرية من ربقة الاستعمار المتجدد والمتلون كالحرباء، لكنها قد لا تعتبر ثورة إلا عندما تنتهي إلى تحرير الأرض وخاصة الإنسان الفلسطيني من ربقة الاستبداد الصهيوني وحتى الفلسطيني والعربي الذي يكبل طاقاته الإبداعية ويمنع تمكنه من ممارسة حقه في المواطنة. لذلك أيضا نقول إنّ الثورة في تونس ومصر لا بد لها أن تبلغ هذا الهدف السامي حتى تكتمل ثورة حقيقية وتتجاوز مستوى الانتفاضة.
والثورة كذلك ليست الإصلاح، لكنها قد تأتي إثر إخفاقه أو تعطله كي تسرّعه وتفرضه فرضا. إلا أنّ الثورة تبقى أقرب إلى هدف تحقيق التغيير الجذري الذي لا يجرؤ عليه الإصلاح.
الثورة التونسية نموذج جديد في العالم تأكدت نجاعته في مصر بعد أسبوعين فقط من نجاحه في تونس: تغيير عنيف بأدوات غير عنيفة أو قليلة العنف، بضربة قاضية في لحظة غفلة من الخصم، بأسلوب يشبه ما يحدث في رياضة "الجودو" من احتواء قوة الخصم الرهيبة دون استعمال أي سلاح غير اليد الجرداء.
صحيح أنّ كثيرا من المثقفين والإعلاميين العرب الذين كتبوا وتكلموا في الأيام الأخيرة تحدثوا عن ثورة مصر العظيمة بل الأعظم في التاريخ والأولى من نوعها في التاريخ الخ.. متناسين بصورة سخيفة وعن قصد ثورة تونس المبادرة، لكنهم أثبتوا لحسن الحظ أنّ العلاقة بين شعبي مصر وتونس هي من نوع خاص، فالشباب المصري على عكس عدد من مثقفي مصر للأسف كان أكثر صدقا وبراءة ويعرف معنى ما يجري من حوله في تونس وغيرها لذا تراه يقلد التونسيين بدون عقد ويعترف لهم بالفضل والسبق بدون أنفة ولا حرج، فالفضل متبادل في الماضي والحاضر بين جميع أبناء الوطن العربي دون تباه أو تكبر لهذا الطرف أو ذاك، وما ثورتا تونس ومصر في نهاية المطاف إلا ثورة العرب جميعا من المحيط إلى الخليج، فجميعهم شارك في إلهامها وإعطائها الشرعية والروح والفكرة والشعار ونذكر هنا خاصة المرجعية الأولى لكل العرب المتمثلة في الشعب الفلسطيني المجاهد. لذلك ليس هناك أدنى غرابة أن تلهم ثورة تونس-مصر العربية بقية الشعب العربي.
لكن الغريب فعلا أن بعض الإعلام التونسي والمثقفين التونسيين لا يزال فاقدا للبوصلة التاريخية ولم يدرك بعد أن هذه الثورة أعادت تونس إلى أصلها، إلى قلب وضمير الأمة العربية-الإسلامية، امتدادها الطبيعي وشرعيتها الوحيدة في التاريخ. فالثورة التونسية على أهميتها العالمية ليست سوى ثورة مجتمع عربي يبحث عن مساره التحديثي في السياق المميز والصعب للحضارة العربية-الإسلامية. نقول هذا رغم ملاحظتنا أن اهتمام الغرب بتونس أكبر من اهتمام العرب وأكثر موضوعية.
من ناحية أخرى، علينا الإقرار أنّ الثورة لها لغتها الخاصة وخطابها المميز الذي قد يبدو متهورا خارجا عن المألوف وهو غالبا ما يقصد ذلك ويبتغي الاستفزاز والتمرد والتعنيف. كما أنّ رجال الثورة ونسائها ليسوا مطالبين بالاعتدال والتعقل إلا بعد أن تهدأ ثورتهم-فورتهم النفسية والعصبية التي يجب تفهمها واحترامها، فتلك هي الثورة الحقيقية. لا معنى للمطالبة بالصمت والهدوء والتأدّب واحترام المقامات والإتيكات.. التمرد الثوري له منطقه الخاص ومفرداته الراديكالية، تنتفي معه التراتبيات والمقامات حتى المقدسة أو خاصة تلك المقدسة وتعوضها العبارات المنافية لها أو المخفضة من ناموسها، المساواة قد تصبح فجأة عجرفة مقصودة ووقاحة وتعديا صارخا..لا بد من تفهم هذا واعتباره أمرا عاديا في كل ثورة وهو لا يدوم طويلا لكنه قد يغير موازين القوى في المجتمع وهو ما يهدف إليه أولا. وقد يكون ذلك أمرا جيدا وتصحيحا لمسار التاريخ الأعوج.. ولكنه يمثل بالخصوص درسا أخلاقيا ضروريا للضمير الفردي وحتى الجمعي في مجتمع فقد مرجعيته الأخلاقية ولم يعد يقبل حتى الحديث في الأخلاق والتربية. ولعل مفهوم المواطنة المحوري في بنية الديمقراطية المرجوة يتأسس على الركيزة الأخلاقية في التعامل بين البشر عموما وبين أبناء الوطن الواحد خصوصا، على قبول الاختلاف العرقي والديني والمذهبي أو الطائفي الخ.. وعلى قبول التنازل للآخر حتى يجد مكانه ويتقاسم الجميع الحقوق والواجبات بالعدل. وذلك هو أيضا مبدأ الكرامة.
في حالة ثورة الكرامة التونسية، تعني الكرامة المقصودة هنا في المقام الأول أولئك الذين قاموا بالثورة من أبناء المناطق الداخلية الذين ضاقوا ذرعا من ذلك التمييز والاحتقار والاستخفاف واللامبالاة، وليس فقط لأنهم عانوا البطالة والخصاصة.. معاملة أبناء المدن الساحلية في معظمها من بنزرت إلى قابس مرورا بالعاصمة ومدن السياحة الشاطئية حيث الوزن الاقتصادي والديمغرافي الموروث تاريخيا والمتدعم من عشرية إلى أخرى بفعل سياسات عمياء، معاملة مشطة متعالية متناسية جذورها التاريخية المشتركة مع سكان المدن والأرياف والبوادي الداخلية. ليس ذلك خصوصية تونسية لكنه أمر مخجل بكل المقاييس الأخلاقية والتاريخية والسياسية (المواطنة).
تحدثت نخب البلاد خاصة من أبناء العواصم الساحلية منذ قيام دولة الاستقلال بلغة شبيهة بلغة المستعمر تدعو إلى القضاء على القبليّة (العروشية) وحياة البادية وتعويضها قسرا بحياة التمدن حتى في شكليته الظاهرة، وتحدثت عن ضرورة استغلال الموارد الطبيعية المتوفرة في معظمها في المناطق الداخلية لتأسيس اقتصاد "وطني" منفتح سرعان ما تكشف أنه مجرد استنساخ لبنية اقتصاد المستعمر الموجه استنزافا وتصديرا نحو الأسواق الخارجية وأنه كان يمنع بأنماطه "التنموية" المستوردة أي فرصة لإعادة توزيع عائداته بصورة عادلة تشمل أولا المناطق التي يستخرج منها.
اليوم وقد استحوذ الجميع على الثورة خطابا واستثمارا، عاد أبناء العواصم يتحدثون عن استثمار اقتصادي في المناطق الداخلية لتشغيل العاطلين بها وتنادى عدد كبير منهم بزيارة هذه المناطق للشكر والمساندة في حركة نبيلة النوايا لكنها سمجة الإخراج تذكرنا بقوافل التضامن النفاقية التي عشنا على وقعها طيلة عقدين من الزمن البالي. وها أنهم يخشون على مصالحهم المكتسبة ويرفضون الحديث في جوهر المشكل الاقتصادي والاجتماعي على أنه يعني في زعمهم جذبا إلى الوراء، ويفضلون الحديث السطحي وبالإيماء فقط إلى المسألة السياسية المتعلقة بالنظام السياسي والانتخابي الخ.. كل ذلك يدعو إلى السخرية ولا يفهم أن عهد الاستبلاه قد ولى وأن الشعب بجميع فئاته وأجياله ليس ساذجا.
كفانا سطحية في التعامل مع أم القضايا الوطنية، ليس المطلوب الترقيع والإصلاح الفوقي (حتى وإن تعلق بالدستور والقوانين)، كفانا صمتا وتكتّما عما نفعل أو ما يجب أن نفعل حتى تتلبّس بنا الظنون ونصاب بهوس الاشتباه بالمؤامرات والاستسلام للشائعات، بل علينا المسارعة إلى المصارحة التامة والشفافية الصادقة والخطاب العقلاني من خلال فتح (لعلّي أقول: تثوير) وسائل الإعلام جميعا على مدار الساعة وبأسلوب البث المباشر والتفاعلي على ندوات حوار وطني كبير وجرئ تتم فعالياتها في فضاءات متعددة بمختلف المناطق التونسية ويشارك فيها أعضاء الحكومة واللجان العاملة معها وكل من له كفاءة في التحليل والتقييم واقتراح الحلول العميقة لمشكلة النمط السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي نريده لبلادنا ولكيفية حل معضلة التشغيل حلا جذريا وعاجلا. فليس هناك أعجب من دعوة البعض إلى تأجيل مناقشة هذه المسائل المصيرية والتركيز على التنظيم السياسي وحده داخل الحكومة المؤقتة وخارجها وكأنه أصبح الهدف الأسمى من الثورة. فالديمقراطية ممارسة لحق الاختلاف ومشاركة في الشأن العام وليست شكلا تنظيميا معينا نتنافس على تركيبته وحتى حول شرعيته، في حين أنّ الممارسة الحرة لحق الاختلاف والاختيار لها الأولوية المطلقة في سلم الاهتمامات النابعة من أي ثورة وهي تبدأ للتوّ ولا تنتظر إعادة كتابة الدستور أو قوانين الانتخاب والتنظيم السياسي وغيرها، فالقانون مجرد إطار يحمي المواطنة وليس هو جوهرها ولا حتى ضامنا لها، بل جوهرها ممارسة الحرية وضامنها الضمير الحي في داخل كل مواطن ومواطنة.
قد يكون مقبولا في هذه الفترة الانتقالية قيام هيئات ومجالس ظرفية تدافع عن خط سير معين أو توافق بين بعض الآراء مثل المجلس الوطني لحماية الثورة حتى وإن لم تكن لها صلاحية دستورية أو قانونية، فالثورة بطبيعتها تتحدى القوانين والدساتير والنواميس القائمة ولا فائدة في الاستغراب مما يحصل في طول البلاد وعرضها من تجاوزات للقانون واعتداء على النواميس والضوابط فهي أمر محتمل الوقوع وإن يجب أن ينتهي بعد هدوء النفوس وعودة العقل، لكن علينا أن ندعو إلى إعطاء أبناء المناطق الداخلية الأولوية في الانضمام إلى هذه المجالس بكثافة بدل تهافت الأحزاب والنقابات والمنظمات عليها بصورة تثير الشفقة. كما ندعو شباب المناطق الداخلية بالخصوص وهم الذين قادوا الثورة في مراحلها الأولى إلى تحمّل مسؤوليتهم التاريخية تجاه الوطن بتصحيح مسار التاريخ الذي انحرف نحو التشخيص والاستبداد والتمييز الجهوي والفئوي والاعتداء على الحقوق فيسهموا بقوة وفاعلية في هذا التصحيح عبر المنابر الحوارية المفتوحة وأنشطة الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية وعدم البقاء في حالة انتظار ما قد يجنونه من أرباح عاجلة وآجلة وكأن ثورتهم التي لحق بها الشعب بأكمله لنصرتها وحسم موقعتها الأخيرة ليست في النهاية إلا تمرد جماعات هامشية. عليهم أن يكونوا في مستوى ما أنجزوه لأنفسهم ولوطنهم وأن يكونوا قبل غيرهم ضامنين بالقول والفعل لقيام أسس مواطنة حقيقية عادلة كريمة ومسؤولة تترفع عن المطلبيات الآنية وتمتنع عن الانتقام العشوائي من المظالم التي لحقتهم عبر اختراق القانون والثأر الشخصي والاعتداء على رمزية الدولة. هذا هو المعنى الوحيد في نظري لقيام مثل تلك المجالس والهيئات المدافعة عن الثورة والحامية لشعلتها الوطنية.
لقد فتحت الثورة التونسية عهدا جديدا في تاريخ العرب والمسلمين كافة إذ ضرب زلزالها أسس المنظومات السياسية والاجتماعية والثقافية القائمة وأرست دعائم التحديث الجذري، لذلك اعتبرتها في مقالة سابقة تمثل زلزال الحداثة العربية-الإسلامية الذي سيشمل كامل العالم العربي-الإسلامي بل والعالم بأكمله نظرا إلى محورية بلاد العرب والمسلمين تاريخيا وجغرافيا بما في ذلك بلاد الغرب وحتى إسرائيل، فالجميع سيكتوي بنار الضمير الإنساني الحارقة التي انطلقت شرارتها من تونس، ولعل تونس نفسها ستكون المخبر الأهم وفي نفس الوقت الأكثر عرضة للعداء والتآمر والتخريب بما يمثل تحديا كبيرا أمام أبنائها لتثبيت مكاسب ثورتهم وحمايتها.
ولئن تحدث البعض عن مؤثر "الدومينو" الذي يطيح بالمنظومات الاستبدادية المتجاورة الواحدة تلو الأخرى، إلا أنه في نظرنا يجدر الحديث عن مؤثر "البليردو" الذي يسلسل طَرق الكرات لبعضها البعض بضربة واحدة (أو ضربات قليلة العدد) وليس مهمّا إن كانت هذه الكرات الاستبدادية متجاورة أو متفاوتة الحجم والدور أو إن كان عددها كبيرا أو قليلا بقدر ما تهمّ قيمتها الرمزية لحسم اللعبة. واللعبة هنا متقاسمة كما يعرف الباحثون الاستراتيجيون بين قوى مختلفة داخلية وخارجية قد تلتقي في مساراتها على نفس الأرضية لكن لا يعرف أي طرف منها ما ستفضي إليه اللعبة من نتائج نهائية ولصالح أي واحد منها. كل ما تعرفه هذه الأطرف أنّ اللعبة تستحق التضحية والمغامرة-المقامرة وأنّ القوة قد لا تكون وحدها العامل الحاسم. هذا هو حال العرب والمسلمين منذ قرون وخاصة منذ بداية القرن الحالي وهذا هو قدرهم في خدمة قضايا الكرامة والتحرر الإنسانيين.
الجديد هو أنهم سيلاحظون أنّ الاستبداد يراكم بعضه عموديّا بينما الديمقراطية تجمّع بعضها أفقيا، لذا من المنطقي أن تتغير مواقع دول في الشبكة التراتبية للأدوار الإقليمية والعالمية وفق معايير الديمقراطية فتصبح متساوية مع دول أصغر منها أو أكبر حجما جغرافيا و/أو ديمغرافيا. بذلك يصبح مبدأ التضامن بين الشعوب أهم من مظاهر القيادات الزائفة والإملاءات المتعالية. ويصبح حجم المجتمعات يقاس بإبداعات أبنائها لا بعدد جنودها وترسانتها العسكرية.
في أوروبا لا يتحدث أحد عن حجم أنقلترا مثلا الصغير مقابلة مع حجم فرنسا أو ألمانيا أو روسيا بل يتحدثون عن ديمقراطيتها العريقة بقطع النظر عن تاريخها الامبراطوري الاستعماري على مستوى العالم (التي لم تكن تغرب عنها الشمس). لذلك استغربت كيف أنّ محمد حسنين هيكل -وهو من كبار المفكرين الاستراتيجيين في عالمنا العربي- لم يقدر على استيعاب اللحظة التاريخية التي تعيشها مصر واعتبر أنّ ثورة تونس تمثل مجرد قادح لا نموذجا في الوقت الذي يتحدث شباب مصر عن كونهم يغبطون الشباب التونسي على نجاحه في إزالة رأس الاستبداد وأنهم تعلموا منه منهج الثورة بتفاصيله الصغيرة من الشعارات إلى الأدوات والمراحل، إذ كان ما حصل في تونس خريطة طريق واضحة ليس عليهم إلا تتبعها للوصول إلى نفس النتائج، فقط فاجأهم إصرار الرئيس المصري وطول مدة الصبر عليه حتى يغادر الساحة. وقد لاحظ بعض المحللين العرب باستغراب تماثل المراحل والمشاهد والتفاصيل بين ثورتي البلدين، وما الاستغراب إلا نتيجة جهل موقع تونس التاريخي الذي يجهله كثير من التونسيين أنفسهم أو حتى يستخفون به خدمة لانتماءات إيديولوجية ضبابية.
قبل ذلك بأسبوعين، وعلى نفس قناة الجزيرة - التي نراها تدعم الانقسام الشوفيني مشرق/مغرب (الحصاد المغاربي المعزول في توقيته والمحتشم في عناوينه في مقابل المساحات والعناوين الإيجابية المفتوحة بدون حدود على المشهد المصري) - بيّن هيكل عدم قدرته على استيعاب نفس اللحظة التاريخية عندما تصور أنّ ما حصل في تونس سيجد ردّه الغربي والإسرائيلي في لبنان ولم يخطر بباله أنّ مصر أقرب إلى تونس ليس في مستوى اهتمام الغرب أو مصالحه الاستراتيجية بل في مستوى بنية المجتمع والدولة. فتونس ومصر بلدان يتقاسمان موقعا استثنائيا بالنسبة إلى كامل العالم العربي-الإسلامي ويشتركان في تاريخ حضاري متشابه في أهميته وفي كثير من مراحله من الرومانية إلى البيزنطية وبعدها الإسلامية: ألم يأت الفاتحون من مصر إلى القيروان؟ ألم يقدم الفاطميون من المهدية لتأسيس القاهرة والأزهر؟ ألم يجتح الأعراب الهلاليون تونس انطلاقا من بوادي مصر؟ ألم يتم على أرضيهما القضاء على الحملات الصليبية؟ أليستا الدولتين المبادرتين بالإصلاحات في الفترة العثمانية والمتقدمتين في عملية التحديث؟ ليس من باب الصدفة أنّ النصوص والأفكار التنويرية الأولى حول كيفية تحديث المؤسسات السياسية والاجتماعية والتعليمية في العالم العربي مصرية-تونسية. لكنّ ذلك ليس بمعنى أنهما استثناء في كل شيء ولا أنهما بمعزل عن بقية العالم العربي، فالشام مركز أساسي للتحديث الفكري وكذلك العراق، كما أنّ المغرب الأقصى ساهم باقتدار في بلورة الفكر السياسي العربي الحديث وأعطت الجزائر نموذجا ثوريا عالميا لتحرير الشعوب من الاستعمار، إلا أنّ الريادة المصرية وخاصة التونسية تبقي نوعية على المستوى الإقليمي بل نموذجية.
وعلى كل، فإنّ القادم سيكون أصعب لكون الثورة في تونس ومصر لا تزال مجرد أفق للفعل ولا تزال قضايا التنمية تحتاج إلى تحديث عقلي عميق لم تستغل النخب الفكرية والسياسية القرن الماضي للتقدم على دربه ولم تمكّن الطبقة السياسية الأنانية والإدارة الفاسدة الجامعات من أداء دورها في خدمة المجتمع من خلال البحث العلمي خاصة في العلوم الإنسانية، العلوم الاستراتيجية الحقيقية لهندسة المجتمعات المتحضرة، فضاع الوقت وتلاشت المجهودات المتقطعة وبقيت ثقافتنا وفي بعض المستويات بنيتنا الاجتماعية نفسها تراوح مكانها منذ قرن من الزمان تقريبا ولم تستفد كما استفاد شبابنا اليوم من التطور الهائل في بنية الاتصال العالمية.
لذلك نحذّر أخيرا من أنّ الصراع سيكون مريرا بين أطياف التفكير الإيديولوجي المتطرف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وليكن صراعا فكريا صريحا ومفتوحا على قنوات الحوار الإعلامي الوطني حتى يكتشف التونسيون أخيرا حقيقة العقم الإيديولوجي الغوغائي فلا يبقى صوته المتعالي مرتفعا على حساب إرادة الإنسان التونسي في التحرّر من الاستبداد والتطرف ورغبته المشروعة في التمتع أخيرا بالعيش
الكريم.

1 comment:

Unknown said...

chère Dr GRISSA,
Merci beaucoup d'avoir nous ouvrer les yeux envers bcp de choses très importante.
Vous êtes très grands comme je vous ai connu depuis toujours.
Merci encore une fois