في الذكرى 3 لوفاته: محمد مزالي.. ورحلة الصعود.. إلى الهاوية
23/06/2013 13:21
شهادات المنصف المرزوقي، الطاهر بوسمّة، أحمد المناعي والمختار مزالي
ملف من إعداد: محمد بوغلاّب
تحلّ اليوم الذكرى الثالثة لوفاة الوزير الأول الأسبق محمد مزالي دون أن يتذكره كثير من رفاقه القدامى من حزب الدستور العائدين في ثوب البورقيبية العابرة للأزمنة، والحال أن الرجل مناضل دستوري منذ أربعينات القرن الماضي...
تقلد مزالي مسؤوليات في الدولة التونسية طيلة ثلاثين عاما بلا انقطاع (1956-1986) بدءا برئاسة ديوان وزير التربية القومية، ثم شغل خطة مدير عام الشباب والرياضة (1959-1964) فمديرا عاما للإذاعة والتلفزة وعلى يديه تمّ بعث التلفزة الوطنية (1966)، وفي سنة 1968 عيّن محمد مزالي كاتب دولة للدفاع فوزيرا للتربية والشباب والرياضة، وفي سنة 1971 تقلد خطة وزير للتربية (1971-1973) فوزيرا للصحة (1973-1976) ليعود من جديد إلى وزارة التربية (1976-1980) تاريخ تكليفه بتنسيق عمل الحكومة في مارس 1980، قبل أن يعيّن وزيرا أول من 23 أفريل 1980 إلى تاريخ إقالته في 8جويلية 1986 بمناسبة هذه الذكرى «التونسية» سعت الى النبش في ماضي الرجل.
يذهب بعض المحللين والمتابعين عن قرب للشأن السياسي في تونس في آخر فترة من حكم بورقيبة إلى أن محمّد مزالي يعتبر من الذين حاولوا فتح الباب لحياة ديمقراطية تعددية وربط خيوط التواصل مع الإسلاميين وتفاوض معهم، ولكنه فشل في النهاية حتى في تأمين سلامته الشخصية، فقد إنتهت قصته مع السلطة بهروبه خلسة إلى الجزائر يوم 3سبتمبر 1986، وفي شهر أفريل1987 صدر ضده حكم غيابي يقضي بسجنه خمسة عشر عاما ومصادرة أملاكه وخاصة مسكنه بسكرة الذي أصبح ناديا للقضاة. أما مسكن إبنه (الحبيب) فأصبح ناديا للمحامين وتم إيقاف إبنه الأكبر المختار الذي كان مديرا عاما لشركة «ستيل» وصدر ضده حكم بعشر سنوات أشغالا شاقة قبل أن يتم الإفراج عنه في 31ديسمبر 1987 دون أن يثبت عليه شيء مما إتهم به من سوء تصرّف.
إنطلقت ماكينة الدعاية ضد مزالي لتهدم ما كان يفاخر به وهو نظافة اليد، لتتهمه بإفراغ خزائن البلاد وتهريبها إلى سويسرا ويبدو أن كثيرين من أبناء شعبنا الطيب المحب للمغامرين قد صدّقوا هذه الرواية ، وما لبث أن أحكم بن علي قبضته على البلاد بعزل بورقيبة في انقلاب طبّي يوم 7 نوفمبر 1987 .
بدأ المسلسل بإقالة عامر غديرة (إبن خال محمد مزالي) ثم جاء بعده فرج الشاذلي وبعدهما البشير بن سلامة (بسبب الشبه الذي يذكّر بورقيبة بغريمه صالح بن يوسف) ثم الهادي بوريشة والمازري شقير وانتهى بحذف وزارة المرأة التي كانت تتولاها فتحية مزالي.
لم تكن تنحية محمد مزالي مفاجئة في منتصف الثمانينات(8جويلية 1986) بعد أزمات متلاحقة عاشتها تونس، فقد إستهل مزالي المؤمن بتعريب التعليم وبالتعاون جنوب ـ جنوب حكمه بتزوير انتخابات نوفمبر 1981 (علم مزالي بالتزوير وسكت عنه وربّما برّره وهو في كرسي الوزير الأول) ثم جاءت ثورة الخبز في 3جانفي 1984 وهنا إرتكب مزالي خطأ عمره إذ قرّر دعوة الجنرال زين العابدين بن علي الذي كان سفيرا في فرصوفيا ليعهد إليه بمهمة مدير عام الأمن.
وفي سنة 1985 حدثت الأزمة السياسية مع ليبيا إذ أطرد العقيد القذافي آلاف العمال التونسيين مما زاد في تعكير الأجواء الداخلية وتعميق الركود الإقتصادي لتكتمل الصورة بالتصادم مع الإتحاد العام التونسي للشغل ولعب مزالي ورقة «الشرفاء» التي أدت إلى إنقسام النقابيين طيلة سنوات.
كان بورقيبة أسدا هرما في سنوات شيخوخته، وبلغت حرب الخلافة أوجها بدخول بن علي حلبة الصراع مستعينا بخدمات سعيدة ساسي، وفي جويلية 1985 تخلى بورقيبة عن رفيق عمره وكاتبه الخاص علالة العويتي ثم أردفه بالتخلي عن مستشاره الحبيب بورقيبة الإبن في 7جانفي 1986، وفي خطوة صدمت التونسيين أذاع التلفزيون الرسمي خبر طلاق المجاهد الأكبر للماجدة وسيلة بن عمار في 11 أوت 1986.
كان الخناق يضيق على محمد مزالي الذي سقط في الخطإ «بسبب فائض من الرضا عن النفس» كما يقول الباجي قائد السبسي في كتابه «الحبيب بورقيبة المهم والأهم» ويضيف سي الباجي «فإضافة إلى احتفاظه بمنصب الوزارة الأولى تدعم موقعه بعد ان أسندت إليه أيضا وزارة الداخلية ولما إقتنع أن بورقيبة لا يعتزم استبداله ولا المساس بموقعه (بعد أحداث الخبز) رأى أنه بإمكانه خوض صراع ضد إدريس قيقة ووسيلة وأدخل فاعلين جديدين (سعيدة ساسي ومنصور السخيري) وأبعد المتعاونين السابقين مع إدريس قيقة (أحمد بنور وعبد الحميد السخيري) واستبدل مسؤولي وزارة الداخلية ورقّى عامر غديرة أحد أقربائه إلى رتبة كاتب دولة للداخلية وإستبدل المنجي الكعلي على رأس الحزب بالهادي البكوش وعيّن مديرا جديدا لديوان الرئيس هو منصور السخيري»
هكذا تحدث الباجي قائد السبسي الذي كان وقتها وزير ا للخارجية عن أخطاء مزالي التي ساعدت خصومه على الانقضاض عليه بعد أن أفرغ قصر قرطاج وظل الأسد العجوز (بورقيبة) وحيدا بعيدا عن أحبته من أهله وأصدقائه...
اكتشف مزالي متأخرا أن الجنرال «الغول» الذي أتى به لحفظ الأمن (زين العابدين بن علي) على الرغم من معارضة وسيلة بورقيبة وإلحاحها في الرفض، هو الذي سيكون اللاعب الرئيسي في حياكة المؤامرة ضده، ولم يتردد الجنرال فور هرب مزالي (3سبتمبر 1986) في وضع أبنائه في السجن وتجرأ على زوجته ووضعها في الإقامة الجبرية رغم تمتعها بالحصانة البرلمانية.
لعب الأستاذ الطاهر بوسمّة (شغل خطة معتمد طيلة عشرية الستينات ثم والي قفصة فالكاف فالقيروان لينهي مسيرته في وزارة الداخلية واليا للولاة ويغادر المشهد سنة 1986 ليتفرغ لمهنة المحاماة) دورا رئيسيا في تسوية ملف محمد مزالي فقد تولى نيابة إبنيه مختار ورفيق وصهره رفعت الدالي، وتأقلم الرجل مع التنصت الهاتفي والمراقبة المستمرة وحرمانه من جواز سفره في بعض الفترات.
تعددت المحاولات والوساطات الرسمية وغير الرسمية لإقناع محمد مزالي بالعودة مقابل اعتزال السياسة (وساطة المازري الحداد السفير السابق في اليونسكو، الدور الذي قام به أحد المقربين لمزالي ورجل الميدان عنده وهو حسن الشتيوي، وساطة الدكتور أحمد القديدي السفير السابق في الدوحة ورفيق مزالي في رحلة الصعود والهبوط...)، لكن الوزير الأول الأسبق تمسّك بضرورة إلغاء الحكم الصادر ضده دون حضوره أمام المحكمة، لم يشكّ مزالي لحظة في براءته وأنه سيأتي يوم ينصف فيه.
يذكر لنا الطاهر بوسمة ـ الوالي السابق الذي يعود له الفضل في تكوين فرقة مسرح الجنوب بقفصة وفرقة الكاف ـ أنه تلقى إتصالا هاتفيا في بداية شهر سبتمبر 2001 من سليم شيبوب (يقال إنه كان «يرطّب» الأجواء لخلافة مزالي في اللجنة الأولمبية الدولية) بمناسبة تنظيم العاب المتوسط بتونس التي حضرها رئيس اللجنة الأولمبية الدولية (مزالي عضو مدى الحياة في هذه اللجنة) ويبدو أنه مورست ضغوط دولية لتسوية الملف، سأل شيبوب «ألا تعيننا على صاحبك؟».
وانطلقت سلسلة محادثات شارك فيها السفير السابق في الدوحة محمد البلاجي (كان مكلفا بمهمة لدى الوزير الأول في تلك الفترة) حتى قطعت أحداث 11سبتمبر 2001 مسار المفاوضات.
في شهر جويلية اتصل عبد العزيز بن ضياء بالأستاذ الطاهر بوسمّة محامي محمد مزالي وفتح الموضوع من جديد، بعد أخذ ورد توصل الرجلان إلى إتفاق مكتوب حظي بموافقة مزالي نفسه. سافر بوسمّة إلى باريس يوم1اوت 2002 وفتحت القنصلية العامة بباريس أبوابها إستثنائيا ليتمكن مزالي من توقيع الإتفاقية (الإلتزام)، وعلى الفور أرسلت بالفاكس إلى قصر قرطاج، ويوم5أوت إجتمعت الحجرة الصيفية لمحكمة التعقيب وقررت نقض القرار المطعون فيه(15سنة سجنا أشغالا شاقة وخطية بأكثر من 300 مليون وحرمان مزالي من مباشرة الوظائف العمومية وحق الاقتراع). ومنذ الغد عاد محمد مزالي إلى تونس التي غادرها خلسة عبر الحدود الجزائرية في 3سبتمبر 1986، فتحت القاعة الشرفية له بأمر من بن علي ولم يسمح لغير عائلته ومحاميه (الطاهر بوسمّة) باستقباله ومنعت الصحافة الدولية ( لا جدوى من ذكر الصحافة المحلية في هذا السياق) من متابعة الحدث، أكثر من ذلك منع رفيق من التقاط صور لوالده العائد بعد سنوات المنفى الطويلة... كان مزالي يدرك أن فتح القاعة الشرفية في إستقباله مسرحية رديئة فطلب إعفاءه من هذه الشكليات مستقبلا، وحين أصدر مذكراته باللغة الفرنسية سنة 2004 جلب معه عشر نسخ لإهدائها لأصدقائه فتم حجزها في مطار تونس قرطاج ؟ ولم يفرج عنها إلاّ بعد أن احتج الطاهر بوسمة عند عبد العزيز بن ضياء.
قضّى محمد مزالي سنواته الأخيرة متنقلا بين تونس وباريس وسويسرا وعديد دول العالم في إطار عمله عضوا في اللجنة الأولمبية الدولية حتى رحيله في شهر جوان 2010 في أحد المستشفيات الفرنسية...
ومهما اختلفت التقييمات حول منجز مزالي كوزير أول فإن ورقات التاريخ التي لا تكذب تذكر للرجل أنه فتح السجون وقدّم لبورقيبة بين سنتي 1980و1981 1200 أمر في العفو التشريعي الخاص وأفرج عن الإسلاميين (أعلن عن القرار في عيد ميلاد بورقيبة في 3أوت 1984) بدءا بعبد الفتاح مورو الذي إستقبله مزالي في بيته بترتيب من الدكتور حمودة بن سلامة وبحضور المازري شقير، وعاد إلى تونس بعد سنوات من الاغتراب عدد من القيادات السياسية والفكرية المعارضة مثل أحمد نجيب الشابي وخميس الشماري وأفرج عن مئات المعارضين السياسيين والنقابيين المحكوم عليهم بعد أحداث 26جانفي 1978 وأقرت التعددية السياسية (مؤتمر الحزب الإشتراكي الدستوري في أفريل 1981) وسمح بتكوين أحزاب معارضة...
تتقاطع الشهادات التاريخية لتؤكد أن محمد مزالي الذي عيّن بمحض الصدفة وزيرا أول (كان بورقيبة يعتزم تعيين محمد الصياح خليفة للهادي نويرة ولكن وسيلة اعترضت على ذلك ورشحت مزالي للمنصب) كان يحمل برنامجا سياسيا طموحا أجهض سريعا بتزوير أول انتخابات تعددية (1نوفمبر 1981) حتى أن أحد معاصريه علّق قائلا «كان على مزالي أن يستقيل وقتها لأن السنوات التالية التي قضاها وزيرا أول كانت مراوحة بين الوقت الضائع والأمل في التدارك إن آلت إليه السلطة».
يذكر أن الراحل محمد مزالي تزوج بالسيدة فتحية مختار(شقيقة فريد مختار الرئيس الأسبق للنادي الإفريقي الذي توفي في حادث مرور يلفه الغموض بسبب العداوة التي كان يكنّها بن علي لفريد مختار) سنة 1950 وحضر زفافهما الزعيم بورقيبة، ولمزالي أربعة أبناء هم المختار والحبيب وحاتم ورفيق وبنتان هما هدى وسارة، والسيدة فتحية مزالي(أرملة محمد مزالي) مازالت على قيد الحياة ولكنها اختارت الابتعاد عن السياسة وصخبها منذ إقالتها في جوان 1986 بعد أن كانت أول إمرأة تتقلد منصب الوزارة في تونس بإسناد وزارة العائلة والنهوض بالمرأة إليها سنة 1983.
محمد المنصف المرزوقي: محمد مزالي في ذمة الله والتاريخ...
بعد أربعة أيام على رحيل الوزير الأول الأسبق محمد مزالي كتب الدكتور محمد المنصف المرزوقي (رئيس الدولة حاليا) من منفاه الفرنسي مقالا بعنوان «مزالي في ذمة الله والتاريخ»، عدّد فيه إنجازات الراحل، ونظرا إلى أهمية هذه الشهادة فإننا ننشر أهم ما ورد فيها:
«سنة 81 والرجل هو الوزير الأول منذ سنة، جاءني الدكتور حمودة بن سلامة ـ وكان من نفس جيلي من الأطباء والديمقراطيين ـ قائلا سي محمد يدعوك هذه الليلة للعشاء في مطعم «المغربية» مع ثلة من المعارضين للحديث عن مستقبل الديمقراطية في بلادنا. ذهلت للدعوة وأذهلني أكثر تحمل الرجل طوال العشاء الذي ضم نخبة من المعارضين الديمقراطيين الشبان نقدي اللاذع للوضع الذي كنا نعتقده بسذاجة أسوا وضع ممكن، وكم صدق من قال رب يوم بكيت منه فلما ولّى بكيت عليه.
تلك الدعوة لم تكن تمويها حيث لم يكن هناك تلفزيون أو إعلام رسمي وإنما نية صادقة في فتح الحوار مع الشبان والقوى الصاعدة التي تعبر عن التغييرات العميقة داخل المجتمع. ذلك لأنه وقع اجتماع ثان بمقر رئاسة الوزارة والرجل يستمع ويكتب في كنشه ويهز رأسه بالموافقة الضمنية على كل ما كنا نقول. نعم كان محمد مزالي صادقا في نيته الهادفة إلى تأهيل النظام البورقيبي لنمر من الأبوية الاستبدادية إلى دولة القانون والمؤسسات. كان هو ابن الحزب الواحد واعيا أن عهد الحزب الواحد ولّى وانتهى وأن مناعة تونس وتقدمها تكمن في مواكبة سير التاريخ والانفتاح على الأجيال الشابة والتجاوب مع طموحاتها بدل قمعها الغبي وتجاهلها الأخرق. يا إلهي كيف مررنا من حالة يستمع فيها رئيس وزراء لأشد المعارضين صراحة وصرامة ولا يغضب وحالة اليوم الذي تعطى فيها تعليمات لكي يضرب في الشوارع معارضون تجاوزوا الستين وتوضع الأصابع في مؤخراتهم حسب تقنيات الأوباش إمعانا في إذلالهم.
أن تجد سياسيا ومثقفا في نفس الوقت أمر جد نادر والقاعدة أن السياسيين يحتقرون المثقفين والمثقفون يحتقرون السياسيين. استهواني في الرجل جمعه بين ما لا يجمع وربما كان من أين ـ لا أدري ـ القدوة والنموذج . هكذا أسس الرجل إتحاد الكتاب التونسيين (الذي سيدخل بعده في احتضار طويل وهو اليوم جثة محنطة ) وفتح باب مجلته «الفكر» لكل المبدعين لا يحابي على موقف عقائدي أو ولاء سياسي.
هذا السياسي المثقف كان من أكبر أنصار العربية في بلد فرض فيه بعض الأغبياء قاعدة أنه لا لحاق بركب التقدم إلا باعتماد لغة أجنبية. كان هو خريج السربون مؤمنا بأنه لا لحاق لركب التقدم إلا باعتماد كل شعب على لغته. لما زرته في مكتبه وهو وزير التعليم العالي في نهاية السبعينات حاولت بسذاجة أن «أبيعه» فكرة تعريب الطب. ابتسم الرجل بأسى وفهمت أنني أحاول إقناع مقتنع لكن كل أوراق اللعبة لم تكن بيده. المهمّ أنه اكتفى بتوصية عميدة كلية الطب في سوسة آنذاك الدكتورة سعاد اليعقوبي أن «تضع يدها عليّ» وهكذا كان هو السبب في استلامي رئاسة قسم الطب الجماعي بكلية سوسة وإشرافي على تجربة الطب الجامعي في الأرياف والقرى الفقيرة، وهو يتابعها من بعيد ناصحا ومشجعا ومعطيا كل الإمكانيات لنجاح تجربة كانت تونس مفاخرة بها ووضع لها نظام بن علي حدا سنة 1994 إثر سجني.
تلبدت السحب شيئا فشيئا والرجل يواجه بعداوات من مصادر متعددة وأهداف مختلفة إلى أن جاءت كارثة 1984 ووضعت على كاهله مسؤولية رفع ثمن الخبز وما انجرّ عنه من تمرد الشعب. بالطبع كان لا بدّ من كبش فداء وهل ثمة أحد غيره وهو الذي كان يريد الديمقراطية والتعريب وتمكين الجيل الجديد.
سنة 1989 وكان قد فرّ من تونس تلاقينا في باريس. في غابة بعيدة، حكى لي ونحن نتمشى كيف تسلل من الحدود الجزائرية لأنه علم أنهم قرروا له الإعدام شنقا وكيف استقبله الجزائريون بحفاوة لكنهم وضعوا في يده ستة آلاف دولار وبدلتين وطلبوا منه الإسراع بالخروج من البلاد.
وفي شقة متواضعة وضعتها تحت ذمته بلدية باريس، عاش وحيدا. أذكر أنني زرته في منتصف نهار بارد فأصرّ على إكرامي ودعوتي للغداء. وكان الغداء الذي أعده بيديه بعض البيض المقلي أكلناه وقوفا في المطبخ والرجل لا يتوقف عن رواية نفس القصة التي سمعتها أكثر من مرة عن ظروف المؤامرة التي دبرها له خصومه لوضع قضية الخبز على مسؤوليته والحال أن القرار صدر عن بورقيبة نفسه رغم اعتراضه هو عليه. يومها لم أكن استمع لقصة كنت لا أشك فيها وإنما كنت أجيل البصر في هذا المطبخ بكبر خزانة متوسطة الحجم وسيادة الوزير الأول السابق يأكل بيضه واقفا. بداهة لم يكن من الذين كدسوا المليارات تحسبا لليوم الذي تدور فيه الدوائر. يومها وثقت بأن الرجل جدير بالاحترام.
ثم انتقل الحديث عن مواصلة بن علي التنكيل به بعد أن صادر بيته وجراية التقاعد، داخلا معه على امتداد خمسة عشر سنة في ابتزاز للقبول بمحاكمة صورية يصدر بعدها القضاء المستقل حكم البراءة. لم يكن الهدف من كل هذا إلا الإذلال والتطويع والتركيع. طيلة هذه الفترة رفض الرجل بإيباء كل مساومة أن يتنازل للدكتاتور فعاد الرجل دون أن يمنّ على النظام بكلمة تأييد واحدة. شتان بين موقفه وبين موقف الانتهازيين وما أكثرهم الذين عند ما يطول عليهم الطريق ويغيب الأفق، يبادرون إلى الكفر بما عبدوا وعبادة ما كفروا به طويلا. شتان بين طينة كبار النفوس وصغارها.
لا أريد في هذا التأبين أن أكون من الكاذبين في نعي هذا الرجل الكبير حتى ولو كان الأمر الذي لا يعصى: اذكروا موتاكم بخير.
كيف يمكن القفز على أنه هو الديمقراطي قد قبل بتزوير أول انتخابات تعددية سنة 1982 حتى ولو كان الدافع إلى ذلك الأمل في إصلاح عثرة فرضها خصومه الأقوياء. كيف يمكن التغطية على اللحظة التي غضبت منه أشدّ الغضب بل وشمتّ فيه أكبر شماتة ممكنة رافضا لزمن طويل أن أجد له أي عذر والخطأ خطيئة لا تغتفر.
كان الرجل يسافر كثيرا في إطار مهمته كعضو قار في اللجنة الأولمبية الدولية وفي كل مرة ينزل فيها بباريس، كان يجمعنا غداء في نفس المطعم مع صديق فرنسي وأحد ضحايا بن علي الكثيرين، جعلته الغربة وآلامها صديقا عزيزا رغم اختلاف مواقعنا في الثمانينات واقصد الأخ أحمد بنور كاتب الدولة السابق للداخلية في حكومة محمد مزالي .
وإبان تبادل ذكريات الماضي بين الرجلين ذهلت وأنا أفهم أن مزالي هو الذي جاء ببن علي إلى أعلى مركز في الأمن واضعا مصيره ومصير البلاد بين يديه. قلت له بنوع من الغلظة: يعني أنك أنت السبب في كل مصائبنا. ضحك ضحكة صفراء وفضّل تغيير الموضوع. ومن أحمد بنور عرفت بقية تفاصيل أفظع وأغرب قصة من قصص النظام التونسي وهي أن محمد مزالي هو الذي وضع الرجل الذي سينكل به وبنا وبشعب بأكمله في السلطة بل إنه كان سعيدا فخورا بخياره وهو يقول لمن حوله «جبت لكم الغول».
هكذا تغوّل الغول على وليّ نعمته وما إصراره الطويل على إذلاله إلا لكرهه لفكرة أنه ولي نعمته .ثم تغوّل على الحزب الذي أسسه بورقيبة وخدمه مزالي بكل إخلاص ليجعل منه تجمّع انتهازيين ومخبرين، وتغوّل على الدولة ليجعل منها جهازا للتسلط والإثراء، وتغوّل على الشعب ليعيشه في خوف دائم، وها هو اليوم مثل غول قصور العصور الوسطى من نوع «دراكولا» الذي تقطر أنيابه بالدم ويعيش في الظلام يبث الرعب حوله ومن دم ضحاياه يجدد شبابه.
سلام عليك ورحمك الله رحمة واسعة يا محمد مزالي وغفر لك ذنبك الوحيد و...شكرا لما قدمت وما مثلت».
المختار مزالي (الإبن الأكبر لمحمد مزالي): إعادة الإعتبار ...
كان مختار مزالي أكبر أبناء الوزير الأول الأسبق يعمل مديرا عاما لشركة «ستيل» التي كان يرأسها خاله فريد مختار الذي توفي في حادث مرور مستراب في جوان 1986 (المصائب لا تأتي فرادى).
بدأت متاعب مختار مزالي بعد أن نجحت بطانة السوء في قصر قرطاج في إقناع بورقيبة بفساد المقربين من زوجته وسيلة فتم تتبع المنصف ثريا صاحب مكتب دراسات من اكبر المكاتب في إفريقيا وزج به في السجن لأن دراسة مترو العاصمة التي قام بها لم تعجب منصور السخيري ثم جاء دور توفيق الترجمان صهر وسيلة ومحمد بلحاج الرئيس المدير العام للخطوط التونسية.
حكم على مختار مزالي بـ10سنوات أشغالا شاقة بتهمة التصرف دون وجه حق في أموال عمومية وعدة غرامات مالية.
جلسنا إلى سي مختار طويلا وتحدثنا عن ساعات مزالي الأخيرة وكيف رضخ جسده الرياضي للمرض الخبيث رغم نجاح العملية الجراحية في أحد المستشفيات الباريسية وإكتفى مختار مزالي بكلمات قليلة عن والده في ذكرى وفاته «حان الوقت لإعادة الاعتبار إلى محمد مزالي بعد سيل من الإنتقادات والإفتراءات، ومن حق الرجل على من إفترى عليه وتواطأ ضدّه حتى بالصمت، أن تذكر إيجابياته ونظافة يده، وربما حان الوقت لتفتح ملفات سياسية أخرى داخلية وخارجية لتكشف الأدوار والدسائس حتى نتعظ من أخطاء الماضي، ورد الإعتبار يكون أيضا بإعطاء الكلمة لأهل الحكمة والاختصاص الذين لم نعد نسمعهم وأعرف أن العديد من هؤلاء يريدون ذكر ما قدمه الرجل، يمنعون من ذلك أو تحذف شهاداتهم من التسجيلات التلفزية والإذاعية والسبب في رأيي أن ما قام به محمد مزالي من إنجازات سيبرز خواء العديد من الشخصيات»:
طرحنا على مزالي الإبن أسئلة برقية كانت هذه إجاباته عليها:
ما الذي بقي من محمد مزالي؟
ـ عديد المساهمات في شتى المجالات وسخّر حياته في خدمة البلاد وأنجز أقصى ما يمكن إنجازه رغم الأجواء السياسية المعادية وفي كلمة نجح في جعل الثقافة في معناها الواسع خادمة لمصلحة البلاد:
ماذا كانت وصيته؟
ـ لم يترك وصية لأنه لم يكن يتوقع تلك النهاية:
ماذا كان يقول لكم عن بن علي؟
ـ لا أحد يتصور كم قاوم محمد مزالي نظام بن علي من خلال علاقاته الدولية وكان يعتبر أن بن علي يجر البلاد إلى الهاوية.
لماذا إبتعدت السيدة فتحية مزالي عن الحياة العامة؟
ـ ابتعدت فتحية مزالي عن الحياة العامة لأنها مقتنعة أنه على الجيل الجديد تحمّل المسؤولية
أحمد المناعي (مدير المعهد التونسي للعلاقات الدولية): أشهد أني عرفت فيه الإنتماء الوطني والعربي والإسلامي...
يوم بلغني نعي المرحوم محمد مزالي، كنت في المستشفى ولم يتسن لي توديعه الوداع الأخير كما توجبه عشرتنا حوالي العقدين في المنفى الذي اختاره كل منا مرغما لا بطلا، وإكتفيت بإبلاغ التعازي إلى صهره ـ الوحيد من عائلته الذي كنت أملك رقم هاتفه ـ.
عرفت المرحوم مباشرة ولأول مرة في الوردانين مسقط رأسي حيث جاء أواخر السبعينات ليتحدث في شؤون التعليم الذي كان يتولى وزارته ، ترك في هذا اللقاء الأول اثرا طيبا عن رجل لم اكن اعرفه إلا من خلال «مجلة الفكر»، ثم كان لي اتصال به غير مباشر عن طريق حسن الشتيوي احد اوفى انصاره خلال الانتخابات التشريعية في أفريل 1989 وإتفقنا على ان يدعم قائمتنا المستقلة (ولاية المنستير) مقابل إلتزامنا بالمطالبة بعودة اللاجئين وفي مقدمتهم محمد مزالي وهو ما تم فعلا وقد كتبت في هذا المضمار رسالة إلى محمد مزالي لم أبعثها ولكن الأمن التونسي وجد مسودتها عندي سنة 1991 وكانت مادة لإحدى حصص التحقيق العنيفة بعد إعتقالي.
إلتقيت محمد مزالي مرتين خلال سنة 1990 بدعوة من الحبيب المكني (من حركة النهضة) وكان اللقاء الثاني مدخلي إلى المنفى الطويل الذي إبتدأ في شهر ماي 1991 وسبقني إليه مزالي نفسه بخمس سنوات وإشتركنا في معاناته وتقاسمنا أتراحه ولكن أحيانا بعض أفراحه وانتصاراته ولعل من هذه الإنتصارات الأولى نشره لكتابه «أي مستقبل لتونس» وقد صدر الكتاب اواخر 1991 عن دار الجنوب (بفرنسا) بالفرنسية وهو اول كتاب لتونسي عن تونس ما بعد7نوفمبر يقع فيه التعرض للجوانب المظلمة في نظام بن علي غير ان الكتاب لم يلق الرواج الذي كان يستحقه لتجاهل الإعلام الفرنسي له لكون صاحبه رجل سياسة تحمّل مسؤوليات كبرى في تونس وبالتالي يتحمل مسؤولية بعض الأوضاع وايضا كون نظام بن علي كان وقتها في «صحفة العسل» مع الإعلام الغربي.
وقد طلب مني المرحوم محمد مزالي ترجمة الكتاب إلى العربية وهو ما تمّ فعلا غير أنه لم يتسن نشره لإنعدام الصلة بالناشرين العرب، كما كلفني سنة 2004 بترجمة كتابه «وزير أول لبورقيبة» إلى العربية وتم ذلك فعلا ونشر الكتاب دون ذكر إسم المترجم بسبب إضافة فصول كثيرة لم ترد في النص الفرنسي.
لم يركن محمد مزالي إلى الراحة في منفاه بل كان ناشطا وداعما لكل المبادرات التي تساهم في فضح النظام فقد بادرني سنة 1990 ببعث نشرية faire face مع أحمد القديدي ولكن لم يكتب لها الإستمرار، ثم موّل نشرية ثانية «الحقيقة» صدر منها ثلاثة اعداد من بروكسال حيث كان يقطن مديرها البلجيكي واشرف على التحرير المازري الحداد (عين لاحقا سفيرا لتونس في اليونسكو) غير ان كل المقالات كانت بأسماء مستعارة.
وقد موّل محمد مزالي بإنتظام نشرية «الجرأة» منذ نشأتها في مارس1994 بحسب تصريحات صاحبها وإن كان هو يتحفظ في ذكر ذلك.
وفي خريف 1992 امكنه الحصول على محضر الأبحاث الكامل لقضية couscous connection التي تورط فيها المنصف بن علي(شقيق بن علي) وهو المحضر الذي وزعته على كثير من الصحافيين واخرج القضية إلى العلن وتحولت إلى فضيحة مثلت ضربة قوية لنظام بن علي وشخصه.
وكان لمحمد مزالي الكثير من الخصوم وحتى الأعداء ليس فقط في عالم السياسة ولكن ايضا في الأوساط الإعلامية فمجلة»جون أفريك» التي يذكر لي ان صاحبها البشير بن يحمد كان على صلة طيبة به لم تذكر إسمه إلا نادرا ودائما في سياق سلبي ،واذكر اننا كنا جمعا من خمسة عشر تونسيا اسسنا في خريف1991 منظمة «تونس :الديمقراطية الآن» فتناولتها المجلة بشكل سلبي بنسبتها إليه.
كثيرا ما كان محمد مزالي يردد انه «مثقف ضاع في ادغال السياسة» وعندما يراجع المرء مسيرته الثقافية والكتب التي الفها او ترجمها والمقالات التي حررها منذ خمسينات القرن الماضي يقر بأنه مثقف من ذوي القامات العالية وهو ما ينفرد يه بين كل السياسيين في تونس ولكنه يبقى مع ذلك رجل سياسة تحمل المسؤوليات الكبرى وكاد ان يكون رئيسا للبلاد.
لست في مقام من يزكي الناس احياء أو أمواتا ولكني اشهد اني عرفت في الرجل الإنتماء الوطني والعربي والإسلامي وإكتشفت فيه قيما ومثلا إنسانية نادرة... رحمه الله
أ
No comments:
Post a Comment