ضرورة التّأهيل
النّفسي و الصّحي و علاج العسكريين
ضحايا متلازمة
"برّاكة السّاحل"
syndrome
محسن الكعبي*
يعاني أغلب العسكريين الذين تعرضوا للتعذيب
و الإقصاء و التهميش في ما بات يسمى " باجتماع برّاكة السّاحل 91 "، إلى
أعراض مرضية عديدة ، بالإضافة إلى حرمانهم إلى الآن من تفعيل مرسوم العفو العام
الذي يمكنهم من حق العودة و من التعويضات المادية و المعنوية . و قد آن الأوان لتكوين
لجنة للكشف عن الحقيقة و تحديد المسؤوليات
القانونية و الأخلاقية ،حول الأسباب التي دعت إلى ممارسة التعذيب ضد هؤلاء
العسكريين ، و معرفة الحقيقة كاملة حول هذه المؤامرة اللّغز و من كان ورائها،و
التي راح ضحيتها المئات من العسكريين الأبرياء الذين اختطفوا من مقرات عملهم أو من
محلات سكناهم و تم احتجازهم في أماكن غير معلومة على ذويهم ، حيث تم تعذيبهم و
التنكيل بهم في أقبية و زنازين الداخلية بدعوى الانتماء إلى حركة النهضة والتخطيط للقيام
بمؤامرة لقلب نظام الحكم.
لقد كان ذنب هؤلاء العسكريون أنهم وجدوا في
زمن كانت تطارد فيه الكفاءات و خاصة التي تعتقد أن العسكرية شرف و التزام و
عبادة،شأنها شأن العمل في قدسيته ،و كان هذا الاعتقاد كافيا للاستئصال و التعرض
للتعذيب و الطرد من الحياة العسكرية و المطاردة في الحياة المدنية ، و الحرمان من
الحقوق الأساسية للمواطنة كالعمل و السفر و العلاج...
هذه اللجنة المقترحة هدفها كشف الحقيقة
كاملة حول قضية براكة الساحل 91 ، بخصوص الانتهاكات الجسيمة من خلال إجراء
التحريات و تلقي الإفادات و الإطلاع على الأرشيفات الرسمية من وزارتي الدفاع و
الداخلية و استقاء المعلومات و المعطيات من مختلف المصادر بهدف إثبات نوعية و مدى
جسامة تلك الممارسات القاسية و المذلة و المهينة المتبعة لإيقاع الألم الجسدي على
العسكريين ، كالتعليق في الأسقف و " الروتي" المصحوبين بالضرب على الرجلين و أجزاء أخرى من
البدن ،و الكي بواسطة السجائر و اقتلاع الأظافر و الإرغام على شرب مواد ملوثة
بالقاذورات، و الإرغام على الجلوس على قنينة ، و كذلك الأشكال المتبعة لإلحاق
الأذى النفسي على العسكريين كالتهديد بالقتل و التهديد بالاغتصاب و السّب و القذف
و استعمال الوسائل الأخرى التي من شأنها الحط من الكرامة الإنسانية و الشرف
العسكري، و تعذيب أحد أفراد العائلة أو الأقارب أو التهديد بذلك.كل هذه الممارسات أللأخلاقية
و أللقانونية يتم الفصل فيها على ضوء
معايير و قيم حقوق الإنسان و دولة القانون و المؤسسات التي جاءت بها ثورة 14 جانفي
و ليست التي كان يتشدّق بها أركان النظام السابق، للوقوف على مسؤوليات أجهزة الدولة
و رموزها، في كل التجاوزات والانتهاكات و
الوقائع موضوع التحريات.
و في مجال جبر الأضرار و إنصاف الضحايا ، تتولى
هذه اللجنة البت في الطلبات التي ستعرض عليها و المتعلقة بالتعويض المادي و المعنوي عن الأضرار التي لحقت
العسكريين ضحايا التعذيب و سوء المعاملة ، و تقديم المقترحات و التوصيات من أجل إيجاد
حلول لقضايا التأهيل النفسي و الصحي و الإدماج الاجتماعي ، و حل المشاكل الإدارية
الوظيفية و القانونية المتعلقة بالمسار المهني كالتنظير ، و تفويت الفرص، و
التقاعد...
بالإضافة للجنة كشف الحقيقة و تحديد
المسؤوليات هذه، يجب بعث لجنة طبية متخصصة تجتمع في أقرب الآجال للبحث في ملفات
السقوط البدني و في المشاكل الصحية ، و في هذه المتلازمة و الأعراض المرضية
الكثيرة التي يعاني منها الضحايا كفقدان الذاكرة و نقص التركيز، و الصّداع المزمن، و ضغط الدم، و تصلّب الشرايين، و التوتّرات
المتكرّرة، كالإجهاد المزمن ، و آلام العضلات ، و أعراض في الجهاز العصبي كالتخدير
الذي يحدث فجأة في السّاق أو اليد ، و الدّوار و فقدان التوازن ، و اضطرابات النّوم
، و عدم الرؤية الواضحة و فقدان الذاكرة، و أعراض في الجهاز الهضمي مثل الإسهال أو
الإمساك، و أعراض تتعلّق بالجهاز التنفسي، وصعوبات مرتبطة بالجنس، و ذلك بغرض
تحديدها و البحث عن السّبل الكفيلة بحلّها...
إن مرض "برّاكة السّاحل "
أصبح اليوم و بعد أكثر من عقدين من الزمن حقيقة لا غبار عليها، و إن الكثير من
العسكريين يعانون منه معاناة شديدة ، لذلك يجب على الدولة اتخاذ كل التدابير اللازمة لتقديم خدمات صحية لهؤلاء العسكريين ضحايا الظلم و القهر و التعذيب،
و التدخل لإسعاف الحالات المستعجلة عبر إنشاء وحدة طبية بالمستشفى العسكري بتونس الذي
حرموا من خدماته الصحية لأكثر من عقدين و بدون وجه حق في العهد السابق ،يعمل بها
أطباء مختصون في العلاج النفسي و في الأمراض العضوية الأخرى مع تأمين التغطية
الصحية الإجبارية الأساسية لهم و لذويهم ، و التحمل الطبي الفوري لفائدة من يعانون
من مخلفات صحية خطيرة و مزمنة، و العمل على تكثيف الرعاية الصحية ، و متابعة طبية
متواصلة، و التوصية بعقد مؤتمرات طبية و بحوث علمية دقيقة تتناول الأسباب و
العوامل المؤدية لمتلازمة " برّاكة السّاحل "، و كيفية تقويم من يعانون
من المتلازمة وطرق علاج هؤلاء المرضى،وإعادة التأهيل الصحي و الإدماج الاجتماعي...
و تتولى اللجنة في نهاية أشغالها إعداد
تقرير مفصّل يتضمّن نتائج و خلاصة الأبحاث و التحريات و التحاليل بشأن
العنف السياسي الذي مورس على العسكريين و الانتهاكات الصارخة التي حصلت أثنائه ،و
الوقوف على الطرق المختلفة التي مورست بشكل منهجي للتعذيب ، و التوصيات و
المقترحات الكفيلة بدعم التأصيل الدستوري
لحقوق الإنسان و ذلك عبر ترسيخ مبادئ سمو القانون الدولي على القانون الوطني و
قرينة البراءة و الحق في محاكمة عادلة و إقرار و تطبيق إستراتيجية وطنية لمناهضة
الإفلات من العقاب و تقوية استقلال القضاء ، و ضمانات عدم تكرار ما جرى، و محو
آثار الانتهاكات ، و استرجاع الثقة و تقويتها في ظل القانون و احترام حقوق الإنسان
و في ظل الحكومة الجديدة المنتخبة و التي جاءت بها انتخابات 23 أكتوبر من العام
الماضي،أوّل انتخابات تعددية ،حرة و نزيهة و شفافة منذ الاستقلال،انتخابات تونس ما
بعد ثورة الحرية و الكرامة، ثورة 14 جانفي.
* نقيب مهندس ، أستاذ
العلوم العسكرية بالأكاديمية العسكرية سابقا
No comments:
Post a Comment