Search This Blog

Sunday, March 18, 2012

Les médias et la contre-révolution!

الاعلام والثورة المضادة

                                                                         د. فيوليت داغر

تجتاز الحقيقة ثلاثة مراحل لتفرض نفسها. فبعد أن تسخّف في البداية، تتعرض لحملة مضادة لدحضها، قبل أن تصبح جلية للأبصار وكأنها كانت بديهية.


استراتيجيات الاحتواء

هناك استراتيجيات عديدة تُقتبس من ميدان علم النفس الاجتماعي تعتمدها السلطة الرابعة، كما أي سلطة، الغرض منها تزييف وعي الشعوب وتحشيد وتطويع البشر لمآرب ورغبات أسياد القرار وأولياء النعمة. هذه الاستراتيجيات تتدرج من التسلية والالهاء المبتذل إلى التجهيل والتسفيه (وهناك من يقول- مع عدم الموآخذة- التجييش والتجحيش). في بعض الحالات، وحيث يكون الهدف ابعاد المشاهد او القارئ عن القضايا والمعارف الأساسية والتعميق في الحقائق، تعمد وسائل الاعلام - وبخاصة السمعية والبصرية- بتقديم برامج تسفه العقل والتفكير، مستدعية الغرائز المكبوتة وتحريض العواطف. 

فالسلطة السياسية على سبيل المثال، عندما تريد تشديد القبضة الأمنية، تلجأ للقيام بأعمال مروعة، تعزيها لأطراف بعينها تتم شيطنتها، عبر الاعلام بالطبع، على أساس مسؤوليتها عن الأعمال العنفية المرتكبة. بحيث يصبح من السهل، لا بل المطلوب الاقتصاص منها بشدة. أما عندما يراد تطبيق مخطط  لضرب المكتسبات الاجتماعية وتفكيك دور المؤسسات المناطة بها، يمكن التخويف من أزمة اقتصادية تعصف بالبلد والتحفيز للمطالبة باجراءات عاجلة لاستدراك ذلك. وقد تأتي الاجراءات بالتدريج لتجنيب رفضها لو طبقت بشكل مفاجئ أو تعسفي. كذلك يمكن فرضها بعرضها كقضية شائكة، لكن ضرورية لتحسين الأوضاع لو طبقت بعد حين. أي ليس الآن، بما يُشعر المرء أنه حتى ذلك الوقت لكل حادث حديث. 

تدرك هذه السلطات أنه لفرض القبول بالشئ المطلوب، يجب التوجه للعامة وكأنها تخاطب أطفالاً دون كبير ادراك. ما يعني أنها تتوجه لمشاعرهم وعواطفهم وليس فكرهم. والعواطف كما هو معروف، هي المعبر الأفضل لللاوعي بما يحتويه من رغبات ومخاوف وما لا يمكن السيطرة عليه بسهولة. الأمر الذي يفضي للتجهيل والاحتواء من أجل التسيير بالاتجاه الذي يرسمه المختصون وأصحاب القرار. 

هذه الاستراتيجيات، إذ تنسل للجماهير، فلأنها أيضاً تريح أعصابهم وتعفيهم من التفكير. الأمر الذي قد يستدعي بالمقابل شعوراً بالمسؤولية لما آل اليه الحال، بحيث لا ملامة سوى على الذات. والشعور باضمحلال صورة الذات يحيل المرء لحالة من الاحباط وعدم القدرة على مقاومة الواقع المعاش. وهو الوضع الذي كانت عليه الشعوب العربية في غالبيتها قبل اشتعال الثورات. وهو نفسه ما اتخوف من عودته بعد أن يتسرب للنفوس شعور بأن العصيان والتمرد والنضال لتغيير الواقع لم تجدِ شيئاً عندما استبدلت سيئين قدامى بجدد. علاوة على المرارة من ضياع دم الضحايا هدراً وتبخر الجهود لمصلحة من ركب الثورات ضد مصلحة الشعوب.

لكن هذه الاستراتيجيات الإعلامية، وإن نجحت في بعض الأحيان، فهي لا تفلح دوماً. هناك استفادة من العبر والدروس، كما ممن يقفون من وسائل الإعلام والخبراء والمعلقين على الجانب الآخر من الحقيقة. خاصة وأن خطوط الانترنت متاحة لكل راغب بالاستزادة من المعرفة. انكشاف الحقيقة ذلك يودي للطعن بمصداقية الفاعل، وينسحب على سائر ما تبقى من معلومة يقدمها مهما كانت موضوعية. لقد وصل الأمر لحرب شرسة بين أطراف متصارعة تعتمد على جيوش من متخصصين في المعلوماتية لتشكيل درع دفاعي هجومي يراقب ويغزو المواقع المؤيدة للطرف الآخر بمعلومات مضادة. الأمر الذي رسم الكثير من التساؤلات وبرر التشكيك بمصداقية عدد من القنوات العربية والأجنبية والمواقع الالكترونية، لا بل ووكالات الأنباء الغربية عندما لم يتسنَ لها التحقق من المعطيات.

لقد برز تزييف الوعي كمظهر أساسي من مظاهر الثورة المضادة، مع تركيز قنوات معينة على أحداث وبلدان بعينها، مقابل تغاضي فاضح عن بلدان أخرى وأحداث لا تقل أهمية. مع استضافة ألوان إيديولوجية ومذهبية محددة وإبراز شخصيات لاتجاهات معينة، لقاء التعمية على غيرها وكأنها غير موجودة في الساحة الفكرية والنضالية رغم كونها في أساس هذه الثورات. التوجه السياسي للممولين، والتدخل الخارجي في السياسات الاعلامية والبرامج وحتى المفردات لكثير من وسائل الاعلام، طرح بالتالي السؤال عن الموضوعية والتجرد والحيادية في آلية نقل الخبر، الذي بدا وكأنه يدار من غرفة عمليات واحدة. 

مثال صارخ

واحدة من هذه القنوات التي تكشف دورها للعيان، بعد أن كانت قد أحدثت انقلابا ًبالمشهد الاعلامي العربي منذ نشأتها أواخر 1996 وجعلت الكثيرين يحبذونها دون غيرها، هي فضائية الجزيرة. لقد لعبت للأسف دوراً متحيزاً وتآمرياً، بان بشكل واضح وفاضح منذ بدء الثورات العربية بنوع خاص. باللجوء لمعادلة "أطعم الفم تكسر العين" وشراء المواقف، واستدعاء من يمكن أن يقيد نفسه بسياسة المحطة، إن لم يكن أصلاً يتساوق معها، غاب شيئاً فشيئاً الكثير من الضيوف المتميزين عن شاشتها، كونهم لا ينسجمون وخطها الاعلامي. ذهب استفزاز المشاهد بعيداً عندما جرى التأكد من التلاعب ببعض الأفلام المبثوثة، أو التدخل بشكل فظ عبر اسئلة مقدم الأخبار أو البرامج لفرض جواب دون غيره على الضيف، وغيره من ألاعيب لم تعد تنطوي على المتابع وأبعدت الكثير من المشاهدين عنها. لقد اتبعت سياسات محددة خضعت لأجندات ذات مرجعية إيديولوجية واستراتيجية تربط بين الحدث وتعزيز الهيمنة. 

فلو أخذنا مثال الثورة السورية، نلاحظ كيف أخرجت هذه القناة، مثلها مثل قنوات العربية السعودية والخليج بنوع خاص، فكرة أن الإنسان السوري غير قادر على تحرير نفسه بنفسه، وأن السلمية بضاعة غير قادرة على مواجهة التوحش الأمني المسلح، وأن التدخل الخارجي ضرورة إنسانية وتحررية معاً. فطن الكثيرون دون شك كيف تم التسويق لفرز متحدث باسم الحراك الاجتماعي من مجموعات محددة لم نسمع لها شهيداً واحداً، في حين أن تجمعات أخرى قدمت عشرات الشهداء لم تستضفها هذه القنوات يوماً. تنبهوا لعمليات تلفيق شهود عيان معظمهم خارج سوريا، ولإيجاد مجلس معارض مكون من فوق بإشراف دولي وبضمانات معطاة سلفاً، تفادياً لدعم أشخاص ومؤسسات تشكل خطراً على أمن واستقرار حلفاء الناتو. لم تفت أحداً عملية تشويه سمعة المناضلين ذوي السمعة والتاريخ، لصالح أسماء دون تاريخ أو لون أو طعم أو رائحة، ما عدا رائحة النفط. لقد أدرك الناس مقدار إدخال الطائفية والمذهبية في خطاب الثورة العربية، والترويج لمحور سني في مواجهة هلال شيعي، بدل الحديث عن دولة ديمقراطية مدنية في وجه دولة دكتاتورية. كما شهدوا على تحويل الصراع من مقاومة ضد الإستبداد والفساد داخل سوريا إلى صراع على سوريا، وعلى تسطيح الخطاب السياسي مع جعل الشعبوية نبراساً للتحليل عوضاً عن أن تكون موضوعاً له. 

كرد فعل على هذا الانحدار، واحدة من الذين انتفضوا ضد هذا التلاعب والتعمية كانت الفنانة وردة الجزائرية التي صرحت أن "قناة الجزيرة القطرية وموظفيها وعامليها يتحملون مسؤولية قتل آلاف الليبيين ومحاولة قتل أقصى ما يمكن من أرواح الأبرياء في سوريا عبر استخدام الإعلام كوسيلة دمار شامل في إثارة الفتن ونشر الأكاذيب". ربما من الانصاف والأجدى عدم تعميم هذا السخط على جميع العاملين في هذه القناة، حيث تبدو سوء أوضاع بعضهم النفسية على محياهم وفي حركاتهم وطريقة نطق كلماتهم وانتقاء تعابيرهم. بموازاة آخرين أكثر استعراضية أو استفزازية عند تلاوة خبر دون تأثر بادي على وجوههم رغم محتواه بالنظر لكمية الفظائع والأهوال المنقولة يومياً.  
هناك من المراقبين العرب، الذين ذهبوا في بعثة جامعة الدول العربية إلى سوريا، من أعلن انهم كانوا موضوع استهداف من قبل المسلحين حين تعرضوا لحملة تحريض إعلامي مارسته تحديداً قناة الجزيرة على مهمتهم. بالطبع لا هؤلاء ولا غيرهم ظهر على شاشتها ليتكلم عن مشاهداته، سوى ذلك المراقب الذي خرج، أو أخرج، بعد أيام من وصول بعثة المراقبة لسوريا على قناة الجزيرة ليطلق من التصريحات ما يتوافق ويخدم اغراض من يدير سياساتها في معركة لي الذراع مع النظام السوري. وهي ليست وحدها من شرّعت للأسف أبوابها له، مع الاصرار على عدم ابراز الرأي الآخر، بل فعل الشئ  نفسه الكثيرون غيرها من محطات أوروبية وممن يتناغمون مع خطها في هذه القضية. 

في دراسة أصدرتها "مؤسسة راند" الصهيونية في 2005 بعنوان "هل استراتيجياتنا لمواجهة الإرهاب تضاهي التهديد؟"، اقترح بروس هوفمان على الحكومة الأمريكية أن تستغل قناة الجزيرة لترسل من خلالها رسالة للعرب والمسلمين لمواجهة ما اسماه بالإرهاب الإسلامي وتصوراتهم الخاطئة. وذلك بدلاً من التعويل على محطة الحرة أو راديو سوا غير المقبولين من هذه الجماهير. ما يدل أيضاً أن تلك التغطية محكومة بسياسات إعلامية ورقابة أمريكية دقيقة تكرس لنقل وجهة النظر الأمريكية وليس الحقيقة. فالجزيرة كما كشفت إحدى الوثائق المنشورة حديثاً لموقع ويكليكس كانت تستلم بشخص مدير شبكتها (وضاح خنفر قبل اضطراره للاستقالة)، من الاستخبارات العسكرية الأمريكية تقريراً شهرياً توجهه فيه عن أخطائه وسلبياته، وما يجب بثه وما لا يجب. ويبدو  أن "شعبة التضليل الإعلامي" التي أقامها البنتاغون في 2003، قبل الهجوم على العراق  (نذكر كيف أن سقوط بغداد الإعلامي كان قد أعلن قبل احتلالها الفعلي)، ما زالت تقوم بنفس المهمات وإن تغيرت تسميتها اليوم.

أجندات سياسية في الخلفية

عبر أدواته الاعلامية وأذرعه الاخطبوطية المختلفة، برز إذن جلياً الدور القطري التصفوي للقضايا القومية العربية والدولة المدنية الديقراطية. أما المملكة العربية السعودية، وإن بدا دورها أحياناً أكثر خفوتاً، فقد أنفقت، كما ينقل، 130 مليار دولار "لتهدئة الربيع العربي"، (وكلمة تهدئة هنا شديدة التهذيب قياساً بما ألحقته سياساتها من أضرار بالشعوب المنتفضة لاسترداد حريتها وكرامتها). من مآسي القدر أن هذه الإمارات والممالك، التي تفتقر لأبسط متطلبات الإصلاح ومرتكزات الأنظمة الديمقراطية المتعارف عليها وتمارس انتهاكات يومية لحقوق الإنسان، هي الآن من تقدم نفسها كداعية للإصلاح والديمقراطية وحامية لحقوق الإنسان في البلدان العربية. لقد استغلت الظروف العربية المتردية والحراك الجماهيري المشروع لجعلها مدخلاً لصراعات إقليمية ودولية تجهض النضال للديمقراطية وتمعن في تقسيم المقسم.

مما يلقي الضوء على ذلك ما ذكرته صحيفة يديعوت احرونوت الإسرائيلية (ولم يجر تكذيبه) التي أوردت أن دولة قطر قد وقّعت مع الإدارة الأميركية اتفاقاً، يدخل من باب المشاريع الخاصة المتعلقة بالملاعب والمنشآت الرياضية التي ستقوم قطر بإشادتها لنهائيات كأس العالم 2022. خطورة الاتفاق إن صح ما ذكر لا تكمن فقط في أن هذه الاستثمارات الجديدة في قطاعي النفط والطاقة القطريين تسمح للقوة العظمى بالعمل غير المشروط في مجال الإعلام خلال فترة المونديال. بل إن بيت القصيد هو البنود الخاصة في الاتفاق التي ليس لها علاقة بالمونديال والتي يراد لقطر أن تنفذها في الشرق الأوسط. ليس أهم هذه البنود أن تعمل قطر على تعزيز دورها القيادي في المنطقة عبر بناء علاقات مباشرة ومميزة مع سوريا ولبنان وتركيا وحزب الله وحركة حماس والجهاد الإسلامي من خلال إقامة مشاريع كبرى سكنية واستثمارية، أو أن تضغط على تركيا ورئيس وزرائها لمقاطعة سوريا عبر ملف الأكراد وحزب العمال الكردستاني وغيره. بل توسيع النشاط الإعلامي بخلق قنوات جديدة، منها الإذاعية ،في دول عربية متفرقة، وتعزيز دور قناة الجزيرة عبر تغطيات لملفات حساسة عن الدول العربية وفق مخططات تقدم من مؤسسات إعلامية أمريكية متخصصة. العمل الاعلامي هذا يهدف لنشر الفوضى في الوطن العربي من خلال نشر ملفات تتعلق بالفساد وتحسيس الشعب العربي بقضايا ومطالب لتجمعات تعتبر مضطهدة. علاوة على التحكم بالإنتاج النفطي وتوقيع صفقات مالية كبيرة مع دول عربية للسيطرة على أراضي وقطاعات اقتصادية مهمة، واستخدامها "كمراكز تجسس" أثناء تنفيذ المشاريع الاستثمارية التي يجب أن تكون "مدتها الزمنية مفتوحة". هذا ويحق للولايات المتحدة الأمريكية إلغاء هذا الاتفاق في أي وقت يثبت فيه عدم قيام قطر بالدور المطلوب منها. كما يحق لها إضافة بنود أخرى للاتفاق في المرحلة المقبلة، مقابل مبالغ مادية يتم الاتفاق عليها تدفعها الولايات المتحدة للعائلة الحاكمة.

إنها كما نرى استراتيجية متماسكة ومتكاملة، لا تبلور فحسب دور السمسار الإقليمي، بل تقتل فكرة الثورة في الممالك والإمارات. فالخارج الذي يحتاجه الشعب هو في خدمة عروش الصمت، والمال السياسي محصور بيد الحكام، والناتو موجود بفضلهم في قواعد تملأ دول الخليج، ولا إمكانية بالتالي للثورة في مجلس التعاون الخليجي إلا بالإعتماد على "الرافضة والزنادقة". وعليه، فالحديث عن دور الإعلام كركن من أركان الثورة المضادة يستحق مراجعات وتتبعاً أكبر، كون دوره يبرز ويتوضح أكثر فأكثر مع قدرته، ليس فقط على دفع الناس للعنف والتسلح، بل إعادة انتاج المجاهدين الأفغان في الوطن العربي. ذلك انطلاقاً من أن أي إعلام بلا حدود ينتج مقاتلين لا حدود لهم، وحيث يراد لهذا النموذج أن يشغل المكان بدلاً من آخر وسطي غير دوغمائي، يتعايش مع الجميع في دول تعددية الايديولوجيات والمذاهب والأعراق. الأمر الذي يؤسس لبركان قادم، يعيد دون أدنى شك الأوضاع المتفجرة مجدداً للمربع الأول.

نشر في صحيفة الأخبار اللبنانية في 13/03/2012

No comments: