بسم الله الرحمن الرحيم
الحركة الإسلامية في تونس...من الاخوانية إلى التركسكية
عبد المجيد الميلى / باريس
27-9-2009
لما أطلت الحركة الإسلامية على المشهد السياسي في تونس أواخر السبعينات من القرن الماضي, كانت دولة الاستقلال قد حسمت
الحركة الإسلامية في تونس...من الاخوانية إلى التركسكية
عبد المجيد الميلى / باريس
27-9-2009
لما أطلت الحركة الإسلامية على المشهد السياسي في تونس أواخر السبعينات من القرن الماضي, كانت دولة الاستقلال قد حسمت
صراعها
من أجل البقاء. فالرئيس الراحل بورقيبة نجح في جعل دولة الاستقلال وشعاراتها الحداثية تتماهى مع آمال وطموحات قطاعات شعبية واسعة و فئات اجتماعية عديدة محدثا بذلك وحدة مصير شكلت عماد قوة هذه الدولة الفتية ودفاعاتها الأمامية.
في الوقت ذاته لم تنجح قوى المعارضة المحا فظة والتقليدية التي واجهت بورقيبة في أن تصيغ مشروعا مجتمعيا ولا أن تؤلف حوله مراكز ثقل داخل البلاد, بل حشرت نفسها في شكل معارضة نخبوية لا امتداد لها واضطرت إلى ممارسة العنف مما يسر على بورقيبة
في الوقت ذاته لم تنجح قوى المعارضة المحا فظة والتقليدية التي واجهت بورقيبة في أن تصيغ مشروعا مجتمعيا ولا أن تؤلف حوله مراكز ثقل داخل البلاد, بل حشرت نفسها في شكل معارضة نخبوية لا امتداد لها واضطرت إلى ممارسة العنف مما يسر على بورقيبة
محاصرتها وتهميشها و القضاء عليها من خلال المحاكمات والإعدامات والاغتيالات.
وقد بلغ الغرور بالرئيس بورقيبة آنذاك حد إعلان مسؤوليته عن اغتيال الزعيم الراحل صالح بن يوسف شعورا منه أن ميزان القوة وطنيا وإقليميا قد رجح لصالحه دون رجعة وأن عملا كهذا ورغم مخالفته للأعراف لن يكون قادرا على زلزلة أركان حكمه.
ولكن حسم صراع الوجود لم يكن نهاية متاعب دولة الاستقلال. فسرعان ما تحركت القوى الشعبية والفئات الاجتماعية التي شكلت قاعدتها احتجاجا على أسلوب بورقيبة الفردي والاقصائي ولتطالب بحق المعارضة وحرية التعبير وواجب احترام حقوق الإنسان وبالتوزيع العادل للثروة.وتوّجت هذه الإرهاصات باستقالة مجموعة من الوزراء أواسط السبعينات أفضت إلى تكوين حركة الديمقراطيين الاشتراكيين كحركة معارضة أساسية حينها ولتكوين الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهي أول منظمة من نوعها في أفريقيا والوطن العربي ولبعث جريدة الرأي كأول جريدة حرة ومستقلة تدافع عن حرية التعبير وعن حق الاختلاف وبرزت طبقة سياسية جديدة تدافع عن الإصلاح وترفع رايته منطلقة من مقولات الحداثة ذاتها مؤكدة أن الحداثة كل لا يتجزأ وأنه لا معنى لحق التعليم دون حق التعبير عن الرأي و أنه لا معنى لحق المبادرة الاقتصادية إن لم تترافق مع حق المشاركة السياسية.
وقد جاءت أحداث جانفي 1978 الاجتماعية لتؤكد انسداد الوضع السياسي والاجتماعي ولتعطي لمطالب المعارضة زخما ومشروعية ولتضع السلطة في موضع حرج. فمطلب إطلاق الحريات والتنفيس عن الكبت السياسي والاجتماعي لتجنب تكرار ما حدث من انفجار ولعدم إعاقة تطور المجتمع أصبح أرضية مشتركة تلتقي حولها هذه النخب الإصلاحية الجديدة وهى أطروحات تجد لها صدى داخل الحكومة وداخل هياكل الحزب الحاكم.
حينها كانت الحركة الإسلامية تغادر مرحلة الصبا وتتلمس طريقها فكريا وسياسيا وتبحث عن موقعها على الساحة الوطنية والإسلامية وكانت تتجاذبها مرجعيات متعددة.
فالحركة الإسلامية تشترك مع دولة الاستقلال اشتراكا واسعا في قاعدتها الشعبية, أبناء الطبقة الوسطى, المتعلمون, الوسط النسائي وهي دوائر تفاعلت ايجابيا مع مطالب المعارضة الوطنية الديمقراطية باعتبارها دفاعا عن مصالحها و عن حظوظها.
وقد مدت زعامات هذه المعارضة يدها دعما وتشجيعا للتيار الإسلامي من خلال ما توفرت عليه من فضاءات إعلامية تقديرا منها بأن هذا التيار سيكون دعما لمشروع الإصلاح وتوسيعا لدائرته وهي التي أطلقت عليه تسمية الاتجاه الإسلامي وهي تسمية تبناها الإسلاميون لاحقا.
ولكن الثقل الأكبر داخل التيار الإسلامي لم يكن مرتاحا إلى تيار الحداثة ودولة الاستقلال وكانت تشده أفكار حركة الإخوان المسلمين المؤسسة على مبدأي القطيعة والتأسيس, القطيعة مع الواقع الذي تخلى على الإسلام حكما وشريعة وخلافة وتأسيس تنظيم يكون بمثابة البذرة التي تحضن حتى تنبت وتنمو وتتسع فتعيد بناء المجتمع ثم الدولة الإسلامية.
وزاد من إغراء الحركة الإسلامية وهج ثورة الخميني القادم من الشرق حاملا معه الدليل على أن دولة الحداثة ليست نهاية المطاف لشعوبنا حتى وان دعمها الغرب وأن الشعوب بوسعها تغيير المعادلة وتقديم هويتها ومصالحها الوطنية على بعض الاعتبارات السياسية والدولية.
كان على الحركة الإسلامية أن تحدد موقعها وموقفها ضمن المشهد السياسي التونسي, هل تكون إلى جانب قوى المعارضة الوطنية و الديمقراطية تطالب بإصلاح الدولة وتحسين أداءها لتقدّم خدمات أحسن للتونسيين أم أنها ستدير ظهرها لهذا الحراك الاجتماعي والسياسي وتطرح نفسها قوة ثورية تعمل على تغيير هذه الدولة بدولة إسلامية ترفع راية الإسلام وتحكم شريعته وتعيد أمجاده.
ولكن الخيار جد صعب فالقاعدة الأوسع للحركة الإسلامية منخرطة ضمن دولة الاستقلال وتتداخل مصالحها وحظوظها معها وهي بحكم ثقافتها ومواقعها الاجتماعية والمهنية أميل إلى المدافعة السياسية وأبعد ما تكون على خيارات القطيعة والثورة.ثم إن مشروع الإصلاح الذى ترفع رايته المعارضة لم يعد وهما يحلم به مراهقون بل هو مشروع واقعي مهيأ ليكون أرضية عمل وطنية تغير وجه تونس المعاصرة.
ثم إن الموروث الثقافي الذي تتحرك ضمنه الحركة الإسلامية وزعاماتها يتناقض تماما مع هذه الوجهة فهي تخشى أن تذوب وتتحلل هويتها إن انخرطت في هكذا مشروع وتفقد خصوصيتها التي تمثل مصدر مشروعيتها وتفضل التأكيد على بعدها الإسلامي قبل بعدها الوطني وترسم بذلك محور الصراع على أنه ليس صراعا داخل العائلة التونسية أو ضمن الدائرة الإسلامية أو داخل مشروع الإصلاح والتحديث وإنما صراع بين الإسلام من ناحية والعلمانية ومشاريعها الحداثية من ناحية أخرى وبذلك يكون الحراك الذي يشهده المجتمع والتدافع داخل الطبقة الحداثية صراعا جانبيا لا معنى له مقابل الصراع الحقيقي والذي من خلاله فقط يكون الخلاص أي بانتصار الإسلام على الطرف العلماني الحداثي.
فعوض أن تتفاعل الحركة الإسلامية مع مطالب المجتمع التائق نحو الإصلاح اختارت أن تختلق صراعا وهميا, صراع تونس ونخبها مع الإسلام وأن تنصب نفسها مدافعا ومنافحا عنه رافعة خطابا شعبويّا (populiste) في محاولة لإثارة فتنة دينية و لتأليف كل الغاضبين عن الدولة لأسباب اجتماعية وجهوية وثقافية مستغلة في ذلك شطحات الرئيس الأسبق بورقيبة فيما عبر عنه من مواقف تتعلق بجوانب من الدين موقعة خلطا بين ما كان من سياسات تحديثية التزم فيها الرئيس بورقيبة الحدود الشرعية و إن أخذ بأقوال غير مشهورة وبين ما صدر منه من شطحات فردية كان فيها تأثره بالمدرسة العلمانية الفرنسية واضحا دون أن يتجاوز الأمر تلك الشاطحات الكلامية.
وفي محاولة للإجابة على الاستفزاز البورقيبى الذي اعتبر أن تونس قد ولدت مع دولة الاستقلال وان الحداثة قد بدأت مع البورقيبية سقطت الحركة الإسلامية في فهم سطحي لطبيعة المجتمع التونسي ولطبيعة و عمق العلاقة التي تربطه مع الحداثة فإحداث تقابل بين الحداثة ودولة الاستقلال من ناحية والإسلام والمشروع الاسلامى من ناحية أخرى جعل القطاع الأوسع من التونسيين وخاصة منهم المنخرطين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لا يرون في المشروع الإسلامي مشروعا واقعيا حتى وان كانت عندهم مؤاخذات جوهرية عن أداء الدولة وآلية اشتغالها فالحديث على أن البورقيبية قوس في تاريخ بلادنا جاءت الحركة الإسلامية لإغلاقه حديث يغفل أن البورقيبية هي تعبير عن توق التونسيين نحو الحداثة توقا انطلق قرنا كاملا قبل دولة الاستقلال وكان مدار حلم و فكر ونضال أجيال متعاقبة وان نجح بورقيبة في أن يحققه وأن يطبعه بطابعه.وأن ادعائه أبوة الحداثة ليس إلا استفزازا ومكابرة.
وكرد فعل عن الاستفزاز البورقيبى وفي مكابرة لا تقل هجانة عن مكابرته ادعت الحركة الإسلامية أنها ستؤسس لدولة إسلامية تعيد بها أمجاد الماضي بعد انقطاع ووظف الإسلام كإيديولوجية صراع يتعسف فيه على النص وعلى التاريخ و يستعمل بطريقة انتقائية لدحض الآخر وتبرير موقف ألذات.
ولا شك أن الماضي الناصري لبعض زعامات التيار الإسلامي و ما تكنه الناصرية من عداء شخصي للرئيس بورقيبة من ناحية وانتماء بعض الزعامات إلى مناطق من البلاد لم تنل حظها من التنمية بداية العهد البورقيبي شكلت حواجز نفسية واجتماعية عقدت علاقة التيار الإسلامي بدولة الاستقلال ورئيسها بورقيبة وما ترمز إليه من مشروع حداثي.
هذا الخيار أوقع الحكة الإسلامية في انفصام ألذات وازدواجية الخطاب إذ هي لم تجرأ عن الدفاع عن هذا التصور بشجاعة ووضوح وأن تتحمل مسؤوليته فكريا وسياسيا فأفرز هذا حركة تخاطب الإعلام والساحة السياسية في النهار تؤكد على قيمة الديمقراطية واحترامها لإرادة الشعب وقبولها بمبدأ التداول على السلطة... و حركة أخرى في الليل تأسس للأجهزة الخاصة و تجذر موقفها ألصراعي تجاه دولة تتهمها بإدارة ظهرها للإسلام بل التطاول على مقدساته وتعطيل مؤسساته.
وهذا التذبذب ساهم في قطع الحركة الإسلامية عن واقع الناس وعن حاجاتهم في الصحة والتعليم والشغل وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية إذ هي لم تكلف نفسها فهم آليات التطور ومحاولة التأثير فيها قصد تحقيق القدر الامثل من المصلحة ضمن دائرة الممكن بل جنحت إلى تصور كنسي للدين يقوم على ضبط الدولة القائمة على الدين لكل مناحي الحياة من أجل فرض الفضيلة والتصدي للرذيلة وحمل الناس على الاستقامة وهذا تصور غريب على الإسلام وعلى تاريخه.
إن هذا الوضع الذي استقر عليه وضع الحركة الإسلامية لا يبعث على الراحة وأعطى المبرر للدولة لتواجهه بالمحاكمات والسجون والمنافي وارتابت تجاهه المعارضة وان كان موقفها المعلن يرفض المحاكمات السياسية ويدافع عن حق الإسلاميين في التعبير إلا أنها لم تجمع يوما على حق الإسلاميين في العمل السياسي لا حسدا وغيرة كما يحلو للبعض تأويله ولكن لان واقع الحركة الإسلامية يخيف أطرافا عديدة داخل البلاد وخارجها.
لا بل هذا الواقع لم يكن يبعث على الراحة داخل الصف الإسلامي ذاته فقطاع واسع من كوادر الحركة الإسلامية و من قواعدها فضل الانكفاء والاستقالة الصامتة تعبيرا لرفضه لهذه الوضعية ولما تحمله من مخاطر. فضلوا ذلك لغياب أطر الحوار والمصارحة داخل الحركة الإسلامية وخشية الاتهام بالجبن أو التخاذل والتساقط أو شق الصف إن هي حاولت صياغة رأى آخر وكانت حينها تجربة ما سمي بالإسلاميين التقدميين وما اتهموا به من خروج عن الدين حاضرة في الأذهان.
هكذا كانت عشرية الثمانينات عشرية النزيف الصامت تغيرت خلالها التركيبة الاجتماعية لقاعدة الحركة الإسلامية فأبناء الطبقة الوسطى والكوادر العليا وأبناء الأرستقراطية الحضرية تركوا مكانهم لأجيال جديدة من الحانقين عن الوضع الاجتماعي الباحثين عن شرعية الثورة والجهاد بعد أن فشلوا في امتلاك شرعية البناء والأعمار ولعل هذا يفسر جزءا من مغامرات الحركة الإسلامية نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي إذ لا يخفى على أحد الرابط بين التركيبة الاجتماعية لتيار ما و بين موقفه السياسي والاجتماعي حتى وان أعطي لموقفه غطاءا ديني. فلو رسمنا خطا بيانيا لتواجد الكوادر العليا وللفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين داخل صفوف الحركة وآخر لدرجة التشدد والراديكالية في موقفها السياسي لوجدنا الخطّين تقاطعا الأول نزولا والثاني صعودا في مرحلة الثمانينات.
ولا زلت أذكر لقاءا عاصفا انعقد صائفة 1986 بمدينة سوسة جمع مجموعة من كوادر الحركة بمنطقة الساحل برئيس الحركة حينها, دافع خلاله شباب الحركة آنذاك عن حقهم في ممارسة دورهم كشركاء داخل هذه الحركة باعتبارهم وضعوا أنفسهم في خدمتها وما استلزمه ذلك منهم من تضحيات ومن صعوبات...فكان رد رئيس الحركة؛) إنكم جنود وان الجندي يجب أن لا يطالب إلا بما يعينه على أداء دوره كجندي وما عدا ذلك فضول لا مبرر له(. ثم حمل بشدة على أبناء منطقة الساحل واصفا إياهم بأصحاب طموحات برجوازية و أن الواحد منهم يبلو البلاء الحسن داخل الحركة طالما كان تلميذا أو طالبا حتى إذا تخرج ودخل الحياة العملية يتقلص عطاؤه ويتحول مركز اهتمامه ليضع وضعه المادي والمهني والاجتماعي في محور اهتمامه ذاكرا الدكتور فلان وفلان...(ثم أضاف ,) إن ما قمتم به من احتجاج على طريقة تعاطي القيادة مع انكشاف صائفة 1986 هو تمرد بل تمرد خطير لأنه تمرد تقوده قيادة ولو قمتم بذلك في ظل دولة لأرسلت إليكم الدبابات من البر والطائرات من الجو والبوارج من قبل البحر..( وأمام هذا العنف وجم البعض من هول ما سمع وأجهش البعض الآخر بالبكاء وانتهى اللقاء باستقالات جديدة وخسرت الحركة دكاترة وكوادر أخر.
فالحركة الإسلامية في تونس كانت ولا تزال نموذجا للحركات الإيديولوجية التي تستعمل فيها الايديولوجا لتبرير كل الخيارات ولقطع الطريق عن كل المراجعات حتى وان أدى الطريق المسلوك إلى كوارث حتى وان تخلى البعيد والقريب.فبعد أن رأينا الترتسكية اليسارية وما فرّخته من مجموعات جعلت من الاحتجاج سلعتها ترانا اليوم أمام لون جديد من الترتسكية الإسلامية الفاقدة لكل مشروع ولكل تصور وتكتفي بأن تقتات من بضاعة الاحتجاج والمزايدة .
فبعد ثلث قرن من التواجد على الساحة التونسية وبعد أن أهدتها تونس أجيالا من خيرة أبنائها بما ذا يمكن أن تفتخر الحركة الإسلامية ؟ بعد الضحايا والمعلولين أم بواقع الجمود على الساحة التونسية؟ إن الحركة الإسلامية لم تنجح إلا في أن تكون الفزّاعة التي خوفت بها السلطة المجتمع وبررت بها مصادرة الحريات وأعاقت نمو المجتمع الطبيعي في اتجاه تكريس قيم التعدد والتنوع.
إن تونس اليوم متخلفة عما كانت عليه أواسط السبعينات من القرن الماضي وهي متخلفة عن آمال وطموحات أبنائها.
فلماذا لم تنجح الفئات الاجتماعية الأخرى والتي شكلت لوقت طويل القوة الأساسية داخل الحركة الإسلامية في تغيير المعادلة وفرض تصورها للإصلاح ؟
أهي طبيعة الحركات الإيديولوجية حيث يمسك بالحقيقة من يمسك بالقيادة؟
أم هي ضعف ثقافة ومشروعية المبادرة أمام قوة ومشروعية التنظيم ؟
أم أن ضيق دائرة الحريات وزهد السلطة وبقية قوى المجتمع تجاه ما يحدث من حراك داخل الصف الإسلامي جعل هذه القوى تزهد في القيام بواجبها تجاه مشروع الإصلاح؟
عبد المجيد الميلى / باريس : الحركة الإسلامية في تونس...من الاخوانية إلى التركسكية
27 أيلول (سبتمبر)
وقد بلغ الغرور بالرئيس بورقيبة آنذاك حد إعلان مسؤوليته عن اغتيال الزعيم الراحل صالح بن يوسف شعورا منه أن ميزان القوة وطنيا وإقليميا قد رجح لصالحه دون رجعة وأن عملا كهذا ورغم مخالفته للأعراف لن يكون قادرا على زلزلة أركان حكمه.
ولكن حسم صراع الوجود لم يكن نهاية متاعب دولة الاستقلال. فسرعان ما تحركت القوى الشعبية والفئات الاجتماعية التي شكلت قاعدتها احتجاجا على أسلوب بورقيبة الفردي والاقصائي ولتطالب بحق المعارضة وحرية التعبير وواجب احترام حقوق الإنسان وبالتوزيع العادل للثروة.وتوّجت هذه الإرهاصات باستقالة مجموعة من الوزراء أواسط السبعينات أفضت إلى تكوين حركة الديمقراطيين الاشتراكيين كحركة معارضة أساسية حينها ولتكوين الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهي أول منظمة من نوعها في أفريقيا والوطن العربي ولبعث جريدة الرأي كأول جريدة حرة ومستقلة تدافع عن حرية التعبير وعن حق الاختلاف وبرزت طبقة سياسية جديدة تدافع عن الإصلاح وترفع رايته منطلقة من مقولات الحداثة ذاتها مؤكدة أن الحداثة كل لا يتجزأ وأنه لا معنى لحق التعليم دون حق التعبير عن الرأي و أنه لا معنى لحق المبادرة الاقتصادية إن لم تترافق مع حق المشاركة السياسية.
وقد جاءت أحداث جانفي 1978 الاجتماعية لتؤكد انسداد الوضع السياسي والاجتماعي ولتعطي لمطالب المعارضة زخما ومشروعية ولتضع السلطة في موضع حرج. فمطلب إطلاق الحريات والتنفيس عن الكبت السياسي والاجتماعي لتجنب تكرار ما حدث من انفجار ولعدم إعاقة تطور المجتمع أصبح أرضية مشتركة تلتقي حولها هذه النخب الإصلاحية الجديدة وهى أطروحات تجد لها صدى داخل الحكومة وداخل هياكل الحزب الحاكم.
حينها كانت الحركة الإسلامية تغادر مرحلة الصبا وتتلمس طريقها فكريا وسياسيا وتبحث عن موقعها على الساحة الوطنية والإسلامية وكانت تتجاذبها مرجعيات متعددة.
فالحركة الإسلامية تشترك مع دولة الاستقلال اشتراكا واسعا في قاعدتها الشعبية, أبناء الطبقة الوسطى, المتعلمون, الوسط النسائي وهي دوائر تفاعلت ايجابيا مع مطالب المعارضة الوطنية الديمقراطية باعتبارها دفاعا عن مصالحها و عن حظوظها.
وقد مدت زعامات هذه المعارضة يدها دعما وتشجيعا للتيار الإسلامي من خلال ما توفرت عليه من فضاءات إعلامية تقديرا منها بأن هذا التيار سيكون دعما لمشروع الإصلاح وتوسيعا لدائرته وهي التي أطلقت عليه تسمية الاتجاه الإسلامي وهي تسمية تبناها الإسلاميون لاحقا.
ولكن الثقل الأكبر داخل التيار الإسلامي لم يكن مرتاحا إلى تيار الحداثة ودولة الاستقلال وكانت تشده أفكار حركة الإخوان المسلمين المؤسسة على مبدأي القطيعة والتأسيس, القطيعة مع الواقع الذي تخلى على الإسلام حكما وشريعة وخلافة وتأسيس تنظيم يكون بمثابة البذرة التي تحضن حتى تنبت وتنمو وتتسع فتعيد بناء المجتمع ثم الدولة الإسلامية.
وزاد من إغراء الحركة الإسلامية وهج ثورة الخميني القادم من الشرق حاملا معه الدليل على أن دولة الحداثة ليست نهاية المطاف لشعوبنا حتى وان دعمها الغرب وأن الشعوب بوسعها تغيير المعادلة وتقديم هويتها ومصالحها الوطنية على بعض الاعتبارات السياسية والدولية.
كان على الحركة الإسلامية أن تحدد موقعها وموقفها ضمن المشهد السياسي التونسي, هل تكون إلى جانب قوى المعارضة الوطنية و الديمقراطية تطالب بإصلاح الدولة وتحسين أداءها لتقدّم خدمات أحسن للتونسيين أم أنها ستدير ظهرها لهذا الحراك الاجتماعي والسياسي وتطرح نفسها قوة ثورية تعمل على تغيير هذه الدولة بدولة إسلامية ترفع راية الإسلام وتحكم شريعته وتعيد أمجاده.
ولكن الخيار جد صعب فالقاعدة الأوسع للحركة الإسلامية منخرطة ضمن دولة الاستقلال وتتداخل مصالحها وحظوظها معها وهي بحكم ثقافتها ومواقعها الاجتماعية والمهنية أميل إلى المدافعة السياسية وأبعد ما تكون على خيارات القطيعة والثورة.ثم إن مشروع الإصلاح الذى ترفع رايته المعارضة لم يعد وهما يحلم به مراهقون بل هو مشروع واقعي مهيأ ليكون أرضية عمل وطنية تغير وجه تونس المعاصرة.
ثم إن الموروث الثقافي الذي تتحرك ضمنه الحركة الإسلامية وزعاماتها يتناقض تماما مع هذه الوجهة فهي تخشى أن تذوب وتتحلل هويتها إن انخرطت في هكذا مشروع وتفقد خصوصيتها التي تمثل مصدر مشروعيتها وتفضل التأكيد على بعدها الإسلامي قبل بعدها الوطني وترسم بذلك محور الصراع على أنه ليس صراعا داخل العائلة التونسية أو ضمن الدائرة الإسلامية أو داخل مشروع الإصلاح والتحديث وإنما صراع بين الإسلام من ناحية والعلمانية ومشاريعها الحداثية من ناحية أخرى وبذلك يكون الحراك الذي يشهده المجتمع والتدافع داخل الطبقة الحداثية صراعا جانبيا لا معنى له مقابل الصراع الحقيقي والذي من خلاله فقط يكون الخلاص أي بانتصار الإسلام على الطرف العلماني الحداثي.
فعوض أن تتفاعل الحركة الإسلامية مع مطالب المجتمع التائق نحو الإصلاح اختارت أن تختلق صراعا وهميا, صراع تونس ونخبها مع الإسلام وأن تنصب نفسها مدافعا ومنافحا عنه رافعة خطابا شعبويّا (populiste) في محاولة لإثارة فتنة دينية و لتأليف كل الغاضبين عن الدولة لأسباب اجتماعية وجهوية وثقافية مستغلة في ذلك شطحات الرئيس الأسبق بورقيبة فيما عبر عنه من مواقف تتعلق بجوانب من الدين موقعة خلطا بين ما كان من سياسات تحديثية التزم فيها الرئيس بورقيبة الحدود الشرعية و إن أخذ بأقوال غير مشهورة وبين ما صدر منه من شطحات فردية كان فيها تأثره بالمدرسة العلمانية الفرنسية واضحا دون أن يتجاوز الأمر تلك الشاطحات الكلامية.
وفي محاولة للإجابة على الاستفزاز البورقيبى الذي اعتبر أن تونس قد ولدت مع دولة الاستقلال وان الحداثة قد بدأت مع البورقيبية سقطت الحركة الإسلامية في فهم سطحي لطبيعة المجتمع التونسي ولطبيعة و عمق العلاقة التي تربطه مع الحداثة فإحداث تقابل بين الحداثة ودولة الاستقلال من ناحية والإسلام والمشروع الاسلامى من ناحية أخرى جعل القطاع الأوسع من التونسيين وخاصة منهم المنخرطين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لا يرون في المشروع الإسلامي مشروعا واقعيا حتى وان كانت عندهم مؤاخذات جوهرية عن أداء الدولة وآلية اشتغالها فالحديث على أن البورقيبية قوس في تاريخ بلادنا جاءت الحركة الإسلامية لإغلاقه حديث يغفل أن البورقيبية هي تعبير عن توق التونسيين نحو الحداثة توقا انطلق قرنا كاملا قبل دولة الاستقلال وكان مدار حلم و فكر ونضال أجيال متعاقبة وان نجح بورقيبة في أن يحققه وأن يطبعه بطابعه.وأن ادعائه أبوة الحداثة ليس إلا استفزازا ومكابرة.
وكرد فعل عن الاستفزاز البورقيبى وفي مكابرة لا تقل هجانة عن مكابرته ادعت الحركة الإسلامية أنها ستؤسس لدولة إسلامية تعيد بها أمجاد الماضي بعد انقطاع ووظف الإسلام كإيديولوجية صراع يتعسف فيه على النص وعلى التاريخ و يستعمل بطريقة انتقائية لدحض الآخر وتبرير موقف ألذات.
ولا شك أن الماضي الناصري لبعض زعامات التيار الإسلامي و ما تكنه الناصرية من عداء شخصي للرئيس بورقيبة من ناحية وانتماء بعض الزعامات إلى مناطق من البلاد لم تنل حظها من التنمية بداية العهد البورقيبي شكلت حواجز نفسية واجتماعية عقدت علاقة التيار الإسلامي بدولة الاستقلال ورئيسها بورقيبة وما ترمز إليه من مشروع حداثي.
هذا الخيار أوقع الحكة الإسلامية في انفصام ألذات وازدواجية الخطاب إذ هي لم تجرأ عن الدفاع عن هذا التصور بشجاعة ووضوح وأن تتحمل مسؤوليته فكريا وسياسيا فأفرز هذا حركة تخاطب الإعلام والساحة السياسية في النهار تؤكد على قيمة الديمقراطية واحترامها لإرادة الشعب وقبولها بمبدأ التداول على السلطة... و حركة أخرى في الليل تأسس للأجهزة الخاصة و تجذر موقفها ألصراعي تجاه دولة تتهمها بإدارة ظهرها للإسلام بل التطاول على مقدساته وتعطيل مؤسساته.
وهذا التذبذب ساهم في قطع الحركة الإسلامية عن واقع الناس وعن حاجاتهم في الصحة والتعليم والشغل وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية إذ هي لم تكلف نفسها فهم آليات التطور ومحاولة التأثير فيها قصد تحقيق القدر الامثل من المصلحة ضمن دائرة الممكن بل جنحت إلى تصور كنسي للدين يقوم على ضبط الدولة القائمة على الدين لكل مناحي الحياة من أجل فرض الفضيلة والتصدي للرذيلة وحمل الناس على الاستقامة وهذا تصور غريب على الإسلام وعلى تاريخه.
إن هذا الوضع الذي استقر عليه وضع الحركة الإسلامية لا يبعث على الراحة وأعطى المبرر للدولة لتواجهه بالمحاكمات والسجون والمنافي وارتابت تجاهه المعارضة وان كان موقفها المعلن يرفض المحاكمات السياسية ويدافع عن حق الإسلاميين في التعبير إلا أنها لم تجمع يوما على حق الإسلاميين في العمل السياسي لا حسدا وغيرة كما يحلو للبعض تأويله ولكن لان واقع الحركة الإسلامية يخيف أطرافا عديدة داخل البلاد وخارجها.
لا بل هذا الواقع لم يكن يبعث على الراحة داخل الصف الإسلامي ذاته فقطاع واسع من كوادر الحركة الإسلامية و من قواعدها فضل الانكفاء والاستقالة الصامتة تعبيرا لرفضه لهذه الوضعية ولما تحمله من مخاطر. فضلوا ذلك لغياب أطر الحوار والمصارحة داخل الحركة الإسلامية وخشية الاتهام بالجبن أو التخاذل والتساقط أو شق الصف إن هي حاولت صياغة رأى آخر وكانت حينها تجربة ما سمي بالإسلاميين التقدميين وما اتهموا به من خروج عن الدين حاضرة في الأذهان.
هكذا كانت عشرية الثمانينات عشرية النزيف الصامت تغيرت خلالها التركيبة الاجتماعية لقاعدة الحركة الإسلامية فأبناء الطبقة الوسطى والكوادر العليا وأبناء الأرستقراطية الحضرية تركوا مكانهم لأجيال جديدة من الحانقين عن الوضع الاجتماعي الباحثين عن شرعية الثورة والجهاد بعد أن فشلوا في امتلاك شرعية البناء والأعمار ولعل هذا يفسر جزءا من مغامرات الحركة الإسلامية نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي إذ لا يخفى على أحد الرابط بين التركيبة الاجتماعية لتيار ما و بين موقفه السياسي والاجتماعي حتى وان أعطي لموقفه غطاءا ديني. فلو رسمنا خطا بيانيا لتواجد الكوادر العليا وللفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين داخل صفوف الحركة وآخر لدرجة التشدد والراديكالية في موقفها السياسي لوجدنا الخطّين تقاطعا الأول نزولا والثاني صعودا في مرحلة الثمانينات.
ولا زلت أذكر لقاءا عاصفا انعقد صائفة 1986 بمدينة سوسة جمع مجموعة من كوادر الحركة بمنطقة الساحل برئيس الحركة حينها, دافع خلاله شباب الحركة آنذاك عن حقهم في ممارسة دورهم كشركاء داخل هذه الحركة باعتبارهم وضعوا أنفسهم في خدمتها وما استلزمه ذلك منهم من تضحيات ومن صعوبات...فكان رد رئيس الحركة؛) إنكم جنود وان الجندي يجب أن لا يطالب إلا بما يعينه على أداء دوره كجندي وما عدا ذلك فضول لا مبرر له(. ثم حمل بشدة على أبناء منطقة الساحل واصفا إياهم بأصحاب طموحات برجوازية و أن الواحد منهم يبلو البلاء الحسن داخل الحركة طالما كان تلميذا أو طالبا حتى إذا تخرج ودخل الحياة العملية يتقلص عطاؤه ويتحول مركز اهتمامه ليضع وضعه المادي والمهني والاجتماعي في محور اهتمامه ذاكرا الدكتور فلان وفلان...(ثم أضاف ,) إن ما قمتم به من احتجاج على طريقة تعاطي القيادة مع انكشاف صائفة 1986 هو تمرد بل تمرد خطير لأنه تمرد تقوده قيادة ولو قمتم بذلك في ظل دولة لأرسلت إليكم الدبابات من البر والطائرات من الجو والبوارج من قبل البحر..( وأمام هذا العنف وجم البعض من هول ما سمع وأجهش البعض الآخر بالبكاء وانتهى اللقاء باستقالات جديدة وخسرت الحركة دكاترة وكوادر أخر.
فالحركة الإسلامية في تونس كانت ولا تزال نموذجا للحركات الإيديولوجية التي تستعمل فيها الايديولوجا لتبرير كل الخيارات ولقطع الطريق عن كل المراجعات حتى وان أدى الطريق المسلوك إلى كوارث حتى وان تخلى البعيد والقريب.فبعد أن رأينا الترتسكية اليسارية وما فرّخته من مجموعات جعلت من الاحتجاج سلعتها ترانا اليوم أمام لون جديد من الترتسكية الإسلامية الفاقدة لكل مشروع ولكل تصور وتكتفي بأن تقتات من بضاعة الاحتجاج والمزايدة .
فبعد ثلث قرن من التواجد على الساحة التونسية وبعد أن أهدتها تونس أجيالا من خيرة أبنائها بما ذا يمكن أن تفتخر الحركة الإسلامية ؟ بعد الضحايا والمعلولين أم بواقع الجمود على الساحة التونسية؟ إن الحركة الإسلامية لم تنجح إلا في أن تكون الفزّاعة التي خوفت بها السلطة المجتمع وبررت بها مصادرة الحريات وأعاقت نمو المجتمع الطبيعي في اتجاه تكريس قيم التعدد والتنوع.
إن تونس اليوم متخلفة عما كانت عليه أواسط السبعينات من القرن الماضي وهي متخلفة عن آمال وطموحات أبنائها.
فلماذا لم تنجح الفئات الاجتماعية الأخرى والتي شكلت لوقت طويل القوة الأساسية داخل الحركة الإسلامية في تغيير المعادلة وفرض تصورها للإصلاح ؟
أهي طبيعة الحركات الإيديولوجية حيث يمسك بالحقيقة من يمسك بالقيادة؟
أم هي ضعف ثقافة ومشروعية المبادرة أمام قوة ومشروعية التنظيم ؟
أم أن ضيق دائرة الحريات وزهد السلطة وبقية قوى المجتمع تجاه ما يحدث من حراك داخل الصف الإسلامي جعل هذه القوى تزهد في القيام بواجبها تجاه مشروع الإصلاح؟
عبد المجيد الميلى / باريس : الحركة الإسلامية في تونس...من الاخوانية إلى التركسكية
27 أيلول (سبتمبر)
No comments:
Post a Comment