الصحافة
الأحد 10 جويلية 2011
استباقا للدستور القادم، مساهمة في تصحيح بعض المفاهيم
نبيل خلدون قريسة
أستاذ التاريخ بكلية الآداب بمنوبة
ترددت كثيرا في كتابة هذا المقال منذ فجر الثورة التونسية، وقد بدا لي آنذاك ما ستؤول إليه الأمور من مأزق فكري وسياسي قبل أن يطرح البعض إشكاليات الثورية والعلمانية واللائيكية والإسلاموية أو الإسلام السياسي كما يسمى أحيانا، ولم يكن ذلك من باب التنبؤ بل هو أمر منتظر منطقيا بعد الذي عشناه طيلة عقود من إقصاء للعقل الأكاديمي المتزن والمعتدل في مجالات العلوم الإنسانية من الحياة الثقافية والسياسية للبلاد (وقد كنت شخصيا إحدى ضحايا هذه السياسة الغبية)، وها أنّ هذه الإشكاليات تطرح اليوم من جديد بعد عقدين من الزمن (عودة سخيفة إلى الوراء ودليلا على ما أصاب الثقافة التونسية من الجمود) في صيغة منبتّة وعقيمة تثير اللغط والتشنج اللفظي المؤذنين بالانفجار في الشارع. في نهاية المطاف، قررت كتابة هذه الأسطر محاولة مني توضيح بعض المفاهيم ورفع الالتباس الذي بات سيد الموقف. إلاّ أنّ المشكل الذي يعترضنا اليوم يتمثل في عدم وضوح الفضاء الإعلامي سواء منه المكتوب أو السمعي-البصري اللذين يرفضان الانخراط في الحراك الفكري العميق والارتقاء إلى مستوى الإعلام العالمي المفتوح على الأطروحات الأكاديمية والفكرية الرفيعة، فنراه يكتفي بالإخبار والتلميح وفرض الاختصار المتسرّع الذي لا يُصلح خطأ في المعرفة ولا يقوّم اعوجاجا في منهج التحليل، إلى درجة أنّ ثلاثا من مقالاتي رفض نشرها في صحيفتين تونسيتين محترمتين لمدة أسابيع دون تبرير ومنها مقالة ("منطق الثورة") اضطررت إلى نشرها على أحد المواقع الإلكترونية. هذا هو واقع الإعلام اليوم في تونس المنحبس تماما والمأزوم بفعل بقاء رواسب الماضي الأليمة.
كثيرة هي المصطلحات والمفاهيم المشوّشة في الأذهان بل المغلوطة ومنها ما أسقط إسقاطا على واقعنا دون تروّ ولا مراجعة، مثل الحديث عن الهَوية (بالفتح) والمقصود الهُوية (بالضم) لأنّ الأولى تعني لغةً الهوّة السحيقة، الخ.. ونودّ هنا التركيز على مصطلحات بعينها بدأ طرحها في سجال لا يخلو من الإثارة المفتعلة في غياب المرجعيتين الضروريتين في هذه الحالة ألا وهما المرجعية التاريخية والمرجعية الفلسفية.
أوّل هذه المصطلحات العِلمانية scientisme والمقصود به تيّار فلسفي نشأ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يدعو إلى التعويل على العلم في حلّ القضايا التي تهم الحياة بدل الخرافة والمعتقدات التقليدية غير المثبتة عقليّا.
ويختلف مفهوم العِلمانية عن مصطلح العَلْمانيّة sécularité وعن مفهوم الإيديولوجيا العَلْمانيّة sécularisme فهما مرتبطان بالعَلْمنة sécularisation وهي عمليّة إلحاق الوظائف والأدوار والممتلكات التي تهمّ حياة الناس العاديّين (غير رجال الكنيسة بصنفيهم المنتظمين والمتفتحين على العالم clergé régulier et séculier ) بالمجال العادي للحياة العامة (في اللغة اللاتينية: saeculum = siècle Þ saecularis ) أي المجال الذي يطلَق عليه في القاموس الكنسي المجال اللائيكي domaine laïc (laïque) أو الزماني temporel، حتى يتخلّص من سلطة الكنيسة المستبدّة عبر التاريخ الوسيط والحديث في أوروبا الغربية بالخصوص. وقد تدعّم هذا التوجّه ببعديه العملي والنظري خاصة بعد الثورة الفرنسية والإعلان عن المبادئ العامة لحقوق الإنسان. وقد يرى البعض في العَلْمانية درءًا للقداسة عن الحياة العامة أي فصلا بين السياسيّ والمقدّس أو حتى الدينيّ، وقد يعتبر أنّ مفهومها نفسه يحيل على انتفاء القداسة تماما، إلاّ أنّ القداسة أو التقديس - والمقصود في الحقيقة التنزيه- ليس غير آليّة عقليّة تمييزيّة مرتبطة بالوعي الثقافي وبالتنشئة الاجتماعية (التقاليد) أكثر مما هي نتيجة للتديّن خاصة. وهذا موضوع يطول شرحه.
وأمّا اللائيكيّة laïcité والعمليّة اللائيكيّة laïcisation فهما نسبة إلى المجال اللائيكي الذي ذكرناه أعلى أي الخارج عن سلطة الكنيسة ومنظومتها الوظائفية التراتيبية والمنتظمة، وهذا مجال يشمل الناس العاديين في المجتمع (غير رجال الكنيسة) أي عامة الشعب (عن الاغريقية ثم اللاتينية: laos=peupleÞlaikos/laicus). والمقصود هنا باللائيكية السلطة اللاكنسية أو اللادينية باعتبار أنّ الكنيسة هي التي كانت تحتكر الدين في أوروبا المسيحية. حينئذ، تدعو الإيديولوجيا اللائيكية إلى الفصل بين مجالي السلطة التابعين من ناحية للكنيسة ومن ناحية ثانية للدولة والمجتمع (غير الكنسي) بمعنى تحييد الوظائف الأساسية للمجتمع مثل المنظومة الأسرية والقرابية عموما والتنظيمات المدنية والسياسية والتعليمية والثقافية بموجب العملية العلمانية (العَلْمَنة) التي تصبح في الأخير جزءا من التمشي اللائيكي للمجتمع وخاصة لمؤسسات الدولة في هذه المجتمعات المسيحية. وقد انطلق هذا التوجه مع الثورة الأمريكية (وإن كانت له ارهاصات في فترة الإصلاحات والصراعات الدينية في العصر الحديث: المشروع البروتستنتي بالخصوص) وإعلان "جفرسون" لحقوق الإنسان وتدوين دستور ولاية فرجينيا ثم بقية دساتير الولايات الأمريكية المستقلة بعد ثورتها عن العرش البريطاني (سنة 1776).
حينئذ، لا علاقة لموضوع العَلمانية (لا نتحدث طبعا عن العِلْمانية) واللائيكية (اللادينية الكنسية) بالمجال الحضاري (السياسي والاجتماعي الثقافي) العربي-الإسلامي الذي ليست فيه كنيسة تحتكر الدين، بل على العكس تماما كان المجتمع (اللائيكي أي غير المنتظم وظيفيّا في اختصاص الشعائر دون الحياة مثل الكهنة والرهبان والقساوسة) هو الذي يشرف على الشأن الديني في اتّساق مع شؤون الحياة العامة والخاصة بما يمكن اعتباره تديّنا لائيكيّا بالمفهوم المسيحي. وقد يصحّ القول -مع الاحتراز المنهجي- بأنّ الإسلام دين "لائيكي" رغم غرابة هذا المتصوّر في المنظور المسيحي.
هذا مع العلم أنّ الفقهاء لم يمثّلوا في الإسلام فئة مخصوصة بوظيفة "دينيّة" مؤسسة تراتبيّا وإداريّا ومرجعية في المطلق إلا في بعض البيئات الشيعية التي كوّنت نواة ما يشبه "الكنسية"، وهذا أمر له ظروفه التاريخية والسوسيولوجية الخاصة، والمقصود هنا بالدين تنزيه الأصول بما فيها البشرية وليس المعنى العلمي للدين المراد به ظاهرة الاعتقاد الموجِّه للسلوك الاجتماعي للإنسان (هي ظاهرة اجتماعية بالأساس) والذي يحيل في الإسلام على شرط تنزيه المطلق عن النسبي (ظاهرة عقلية في جوهرها). كما أنّ دور الفقهاء السلبي في بعض الأحيان على مستوى تقنين الأحكام والتشدد في فرضها لم يكن يجري عبر مؤسسة كهنوتية بل عبر قنوات السلطة السياسية المحتكرَة طبيعيا من قِبل أجهزة الدولة. لذلك أستغرب من بعض الأحكام التي انتشرت في الآونة الأخيرة في خصوص الفقه الإسلامي وحتى الشريعة التي تبنّى البعض في شأنها التعريف الغربي المتحامل والذي يريد إيهامنا بأنّ المقصود بالشريعة الإسلامية ما يوافق القانون الكنسي droit canon بل تقييدات على الحرية والكرامة الإنسانية هي أحط منه، والنموذج الطالباني جاهز طبعا للإفحام. هذا أمر سخيف يدل على ما استشرى في أيامنا من الجهل والاستبلاه. أمّا مسألة التشكيك في التراث الإسلامي جملة وتفصيلا وخاصة ما تعلّق منه بالقرآن وسنّة الرسول وسيرته التاريخية الخ.. فحدّث ولا حرج. المهمّ في كلّ هذا أن لا جديد تحت الشمس وأنّ معظم المزاعم مستقاة من التراث نفسه، وهذه مسألة تحتاج إلى تحليل خاص. فطبيعة الصراع بين العقل والوهم قائمة لا تتغير منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما يستتبعها من صراعات بين أشكال الاستبداد والتحرر عبر التاريخ.
لقد كانت هناك في بيئات الإسلام كنائس ولا تزال خاصة بالجماعات المسيحية، وهي أقليات في جميع المجتمعات والمنظومات السياسية في البلاد العربية-الإسلامية، وهذه الكنائس عريقة راسخة متجذّرة تاريخيّا أقدم من الكنائس الأوروبية وهي لم تحتج لا قبل الإسلام ولا في أكنافه إلى مثل الإيديولوجيا العَلْمانية أو اللائيكية لكونها إمّا كانت تحت سلطة دول مسيحية أجنبية (رومانية ثم بيزنطية ثم في فترة محدودة أوروبية صليبية) أو أنّها كانت مندمجة في إطار دولة الإسلام بأشكالها المختلفة عبر التاريخ، وقد كانت قبل قيام الدولة العثمانية منبثقة من المنظومة السوسيو-ثقافية للأمة العربية-الإسلامية وكانت لها تنظيماتها التي تسمح لأتباع الأديان التوحيدية بالخصوص بالتعايش فيما بينهم والانتظام الداخلي وفق التشريعات الخاصة بكل جماعة دينية. وقد حافظ العثمانيون بدورهم على أسس هذه التنظيمات وإن أصبحت هناك تضييقات في مجالات أخرى مسلطة في الحقيقة على جميع مكوّنات مجتمعات الولايات التابعة لهم. والتضييقات أو القيود على حريات الاعتقاد وممارسة الشعائر وحتى بناء المعابد كانت تظهر وتغيب في فترات متباينة من تاريخ الدول الإسلامية وفق الظروف التاريخية والاجتماعية المفرزة لسياسات وأحكام تكون أحيانا جائرة وأحيانا أخرى متسامحة. وليس هناك في نهاية المطاف موقف ثابت أو سياسة واحدة يمكن اعتبارهما ممثلين للشريعة الإسلامية أو حتى للدين الإسلامي في المطلق كما تسرّع البعض في الاستنتاج انطلاقا من حالات معينة.
وعندما جاء الاستعمار الأوروبي إلى بلاد العرب والمسلمين، ونقصر هنا اهتمامنا على بلاد العرب التي تشمل العرب المسلمين والمسيحيين وحتى اليهود المتعرّبين، انتهج سياسة تفرقة وتمييز على أساس الدين في حين أنّه كان يدّعي اللائيكية والديمقراطية، وقد بلغ حدّ التمييز والتناقض أن منع الاستعمار الفرنسي بالخصوص لباس الشاشية التونسية في المدارس، بما يذكّرنا بمنع ما يسمّى بالحجاب (وهي قضية أخرى وهمية لن أخوض فيها الآن) في فرنسا، كما ضيّق على التعليم العربي في مقابل دعم اللغة الفرنسية في المدارس والإدارة وفتح الباب أمام التبشير للدين المسيحي ودعم أنشطة الكنيسة والإشراف على المؤتمر "الافخارستي" وتمييز الجالية اليهودية والإغراء بالامتيازات في حال الحصول على الجنسية الفرنسية الخ..هذا كله في الوقت الذي كان الاستعمار الفرنسي يزعم أنّه يحرص على لائيكية الدولة (أي فصلها عن الكنيسة) وعلى القيم العَلْمانية (أي تحييد دور الكنيسة في المجال العمومي التعليمي والثقافي الخ..), إلاّ أنّ ازدواجية الخطاب والممارسة ملازمة للمنطق الاستعماري وهو ما رأيناه بصورة بشعة في مختلف المستعمرات الإفريقية والآسيوية الخ..ولا يزال حتى اليوم يبرز في مناسبات عديدة.
للأسف، وبكامل الموضوعية، علينا الإقرار بأنّ الدعوة إلى العَلْمانية واللائيكية اليوم في مجتمعنا التونسي بل وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية بصورة عامة إنّما هي تعبير عن استمرار أطروحات المستعمر خاصة في شقّه المتطرّف، الفرنسي تحديدا، التي لا تزال تعيد إنتاج نفسها بكامل العقم المعرفي والمنهجي دون أدنى أفق للخروج من الورطة التي وضعتها فيها العقلية الاستعمارية نفسها. فالمسألة لم تعد نظرية فقط لا فلسفيا ولا تشريعيا ولا حتى سياسيّا، بل أصبحت منذ انتهاء عصر الامبريالية التقليدية وبداية عصر العولمة مرتبطة ارتباطا كليا بواقع المجتمعات المتباين والأدوار الموكولة لها تراتبيا داخل الخريطة العولمية الجديدة. من هنا تبرز ضرورة إعادة النظر في المسلّمات التي قامت عليها فلسفة السياسة والقانون والأسس التي اعتبرت على امتداد عقود مفسرة دون غيرها لطبيعة المجتمع والثقافة وخاصة للعلاقة الإشكالية القائمة أو التي يمكن أن تقوم بينهما.
معنى ذلك، وبكامل الوضوح، أنّ ما يمكن أن يطرح اليوم في بلادنا واستباقا لانتخابات المجلس التأسيسي والدستور المنتظر، إنما هو صياغة مفهوم علمي دقيق للمواطنة ولا شيء غيرها، في سياق تصور جديد نأمل بلورته تاريخيا وسوسيولوجيّا وفلسفيا وتشريعيّا لمصطلح المواطن التونسي، بعيدا عن ضبابيات الشعارات الهويّاتية المأزومة أو الزائفة أو المغالية. ذلك أنّ موضوع الهُوية الثقافية الذي يطرح اليوم بالحدة الماكيافيلية الغريبة التي تشهدها ساحاتنا السياسية والإعلامية إنما هو يعبّر عن أزمة الانتماءات الفردية والفئوية لا أزمة الهوية نفسها. وإذا كان من حديث عن أزمة الهوية فإننا نراها في مستوى تعاملنا الجماعي مع بعضنا البعض أي مع مفهومنا للمجتمع، وهذا موروث من الذهنيات المبتورة الذي تدعّم في العشريتين الأخيرتين بفعل تفاقم حالة الفصام الجماعي ما بين استقطاب الإغراءات المادية المعولمة (الفاسدة) ومختلف التعبيرات المظهرية عن خُلق التضامن "المثالي"، بما أفرز جميع أشكال النفاق والغش والكذب والمحسوبية والوصولية التي استشرت في العقول والممارسات الاجتماعية كالسرطان الذي يصعب إن لم نقل يستحيل الشفاء منه. أما المواطنة فهي تنبني أساسا على قيمة الاحترام الكامل للذات البشرية مهما كان اختلافنا معها أو حكمنها الذوقي عليها، بما يستتبع التزامًا تاما غير مشروط بهذه القيمة في السياق المجتمعي المخصوص وبصورة مبدئية على مستوى المجتمع البشري عامة. هذا ما نراه البعد العقلاني الحداثي الحقيقي لمفهوم المواطنة.
يقول الفصل الأول من الدستور التونسي السابق ما يلي: " تونس دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهوريّة نظامها". وفي الفصل الخامس: " تضمن الجمهورية التونسية الحريات الأساسية وحقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها وتكاملها وترابطها (وهي فقرة مضافة سنة 2002) الجمهورية التونسية تضمن حرمة الفرد وحرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تحلّ بالأمن العام". وفي الفصل الثامن: " حرية الفكر والتعبير والصحافة والنشر والاجتماع وتأسيس الجمعيات مضمونة وتمارس حسبما يضبطه القانون...ولا يجوز لأيّ حزب أن يستند أساسا في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة (فقرة مضافة سنة 1997)".
نلاحظ أنّ حرية المعتقد والتفكير وحقوق الإنسان الكونية مكفولة بالدستور الذي يضمن بالمناسبة حياد الأحزاب في هذا المستوى بالذات، فعليها ألا تشترط في منخرطيها دينا أو لغة أو عنصرا (أي عرقا) أو جنسا أو جهة (ويمكن أن نضيف: قبيلة، بحكم أنّ الجهويّة ليست غير وجه من وجوه القبليّة) دون غيرها. فإذا كانت اللائيكية تتمثّل في حياد الدولة ومؤسسات المجتمع المدني وخاصة منها الأحزاب (التي تشارك في الحياة السياسية بصورة مباشرة) حيادا تاما تجاه الانتماء الديني وخاصة تجاه السلطة الدينية المفترض احتكارها من قبل مؤسسة مستقلة - وهو أمر منتف تماما كما رأينا في الإسلام- فإنّ تأكيد الدستور التونسي على عدم جواز اشتراط الانتماء إلى تلك الشروط المذكورة يتجاوز المبادئ اللائيكية إلى مبادئ حقوق الإنسان الأكثر شمولية، كما أنّ المجال العربي-الإسلامي نفسه لا يحتوي كما قلنا على مؤسسة دينية مستقلة قانونيا عن الدولة ولا على فئة من رجال الدين المحتكرين للوظيفة الدينية وإنما ذلك من الأوهام التي كانت تسعى فئات مصلحيّة إلى التلبّس بها مع تواطئ رجال السلطة في فترات الأزمات والاستبداد -وما أكثرها- وقد قاومها العلماء في كل زمان وفنّدها ابن خلدون. لذلك نقول مرة أخرى: لا علاقة للنظرية اللائيكية بمجتمعاتنا العربية-الإسلامية ولا حاجة لنا في تضييع الوقت والجهد في خلع أبواب مفتوحة أصلا والتركيز في دستورنا القادم على ضرورة الفصل الوهمي بين الدولة والدين - فالدين بما ينبني عليه من المبادئ الأخلاقية السامية لا ينتفي من حياة الإنسان ولا من مرجعيته الذهنية حتى وإن كان ملحدا- بينما نقصد الفصل بين سلطتين اجتماعية (متمثلة خاصة في جهاز الدولة) وكنسية لا وجود لها أصلا في بيئتنا.
لكن هناك مسألة فرعيّة هامة تتمثّل في إقرار الدستور السابق- وفي تصور البعض في الدستور القادم أيضا- بكون الإسلام دين الدولة والعربية لغتها. هنا نجد في نفس الوقت الإقرار بأنّ الجمهوريّة نظامها. فتأويلا لهذه المصادرات الثلاث، نكون قد نسجنا خيطا رابطا بينها من حيث أنها تمثّل ثلاث دوائر وظيفيّة تتبع هيكل الدولة لكنّها في نفس الوقت لا تمثّل جوهرها، مثل القول بأنّها "دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة". من هنا يأتي فهمنا لكون الدولة مؤسسة قائمة الذات بقطع النظر عن توابعها الثلاثة في المستوى الوظيفي: الدين واللغة ونظام الحكم. فالدين هنا هو الإسلام لكون أغلبية المجتمع مسلمة، واللغة العربية كذلك، أمّا النظام الجمهوري فهو اختيار الأغلبية الممثلة في المجلس التأسيسي الأول.
معنى ذلك أنّ الدولة التونسية ليست إسلامية ولا عربية بإقصاء بقية الأديان واللغات الأقلية في المجتمع، بل هي ليست من صنف تنظيمي أو شكل سياسي يمكن تخصيصه باسم الإسلام أو العروبة دون سواهما، وإنما هي دولة بالمفهوم العلمي الحديث بصورة مجردة تماما عن مختلف الانتماءات. لكنّها، في نفس الوقت ووفق السيرورة التاريخية، وجدت نفسها مؤتمنة على صيانة أسس هوية الشعب التونسي في أغلبيته المبنية على قيم الإسلام وتراث اللغة والثقافة العربيتين، دون إقصاء أو تهميش أو إهمال لأيّ مكوّن آخر يمثّل الأقليات أو الجماعات المتميّزة. هذا أمر واقع اليوم إلى أن يأتي ما يخالفه وفق تلك السيرورة التاريخية.
أمّا الجمهوريّة فهي نظام متعدد الأشكال يمكن تغيير شكله الحاصل وفق نفس السيرورة التاريخية، والشعب التونسي مقبل على اختيار الشكل الجمهوري الذي يرتئيه صالحا للمرحلة التاريخية القادمة، على أساس مبادئ ثورة الكرامة والحرية وحسب ما تتطلبه مصلحة البلاد، لكنّ الذي يبقى ثابتا وفق المسار التاريخي هو تجذّر الدولة التونسية ورمزيتها (هيبتها كما يقال الآن) بالنسبة إل الشعب التونسي الأصيل المتحضّر. فالدولة ليست النظام السياسي، وهذا أمر بديهي قد يغفل عنه البعض، لكنّها بالخصوص ليست الدين ولا اللغة، بمعنى أنّها مؤسسات سياسية تتصرّف في الشأن العام للمجتمع وتحتكر وفق القانون آلية العنف أو بصورة أدقّ قوة الردع الحامية للمواطن والضامنة لنفاذ القانون في الواقع الاجتماعي. فالدولة هي الضامن بذلك للعدل بين المواطنين وهو معنى وجودها.
لذلك نقول مرّة أخرى إنّه إن كان هناك من مصطلح يُفترض التنصيصُ عليه بل التأكيد عليه على امتداد الدستور القادم فهو مصطلح المواطنة (المواطن) الذي ينبغي أن يكون مفتاح الفصل الأول وبقية الفصول (وليس كما هو الحال في الدستور السابق الذي لم يذكره إلا بداية من الفصل السادس) مثلا من خلال التنصيص على أنّ " الدولة التونسية تهدف إلى خدمة المواطن التونسي مهما كان انتماؤه العقائدي أو الاجتماعي أو السياسي.. ". فالمواطنة هي المعنى الجامع لمقوّمات كرامة الإنسان وحريته والضامن لجميع حقوقه مقابل تأمينه لواجباته المواطنية. والمواطنة تضمن بالتالي العدالة بين الأفراد والمجموعات أو الجماعات بقطع النظر عن اختلافات الانتماءات وتنوّعها في إطار هوية متعدّدة الأبعاد جمّاعة للاختلافات باعتبارها حقا مشروعا لكلّ مواطن سواء كان من الأغلبية أم من الأقلية. فالمواطنة تضمن حق الاختلاف وتدفع الأغلبية كما الأقلية إلى الدفاع عن حق الطرف الأخر في الوجود والتمتع بجميع امتيازات المواطنة دون قيد أو شرط. ويكفي التذكير بأنّ الحرية هي المبدأ الأسمى الذي يعطي للهوية معناها التاريخي، فهما كمثل وجهي العملة الواحدة، لا يمكن الفصل بينهما أو التمييز لأغراض خاصة أو مصالح ضيّقة. عندئذ، نفهم أنّه لا معنى للمساومة المجانية والمشبوهة التي نسمعها اليوم أو نقرأها في خصوص الحريات العامة والخاصة باسم المسؤولية التي هي أصلا معرّفة من خلال مفهوم المواطنة. فالحرية أعظم المكاسب التي يناضل من أجلها الإنسان عبر التاريخ وهي اليوم أهم مكسب بفضل هذه الثورة يحقق للتونسي كرامته ولا يمكن التفريط فيه أو التقييد منه تحت أيّ ذريعة وبأيّ شكل من الأشكال، وإنما على المشرّعين أن يحدّدوا مجالات تحقيق المواطنة وممارسة المواطن لحريته في إطار حقوقه وواجباته المواطنية. أمّا غير ذلك من الحريات مما قد يعتبره البعض زائدا، إنما هو أصل في الذات البشرية، فالأَوْلى أن تُحترم في الساحة العامة ويلتزم الجميع بصيانتها والذود عنها. وتلك هي أخيرا مبادئ الديمقراطية التي نصبو إلى تحقيقها باعتبارها تضمن تفعيل المواطنة أكثر من أيّ آليّة أخرى للتصرّف في الشأن العام، والديمقراطية ليست أكثر من ذلك وهي ليست كما يتوهم البعض هدفا في حد ذاتها ولا تضمن مسبقا نجاحها بل تتطلب شرط وعي المواطن بحقوق المواطنة وواجباتها وحرصه الدائم على تجسيمها والتمتع بامتيازاتها.
أمّا الخوف على الأقليات الدينية واللغوية والعرقية وغيرها والدعوة إلى حمايتها من خلال مفهوم اللائيكية أو العَلْمانية (كما يفهمها البعض) فذلك ينتفي بالجملة أمام إقرارنا بمفهوم المواطنة الحديث. وبذلك لا يمكن أن تكون الديمقراطية دكتاتورية (استبداد) الأغلبية على حساب حقوق الأقلية أو حتى حقها في الوجود. لكنّها، في المقابل، لا يمكنها أن تكون استبداد الأقلية على حساب الأغلبية مهما اعتبرت نفسها صاحبة حق. فالمطلوب أن يكون مفهوم المواطنة/المواطن جمّاعا لهذه الحقوق كلّها في وفاق وطني على أسس مشتركة وفضاءات متقاطعة بين الفضاءات الخاصة بكلّ مكوّن من مكوّنات المجتمع. والوطن هو المعنى الأعزّ لأيّ مشروع مجتمعي بقطع النظر عن طبيعة النظام السياسي أو الشكل المجتمعي أو البنية الثقافية، فالوطن فضاء المواطنة قبل أن يكون مجال سيادة الدولة. ولعلّ الخلط في هذا المستوى هو الذي شجّع الاستبداد على التشكّل والتغوّل والتغلغل إلى درجة أصبح معها لاغيا للمواطنة بل حتى بديلا عن الوطن.
خلاصة القول، لا فائدة تُرتجى من اللغْو الحاصل اليوم في الساحة السياسية و"الثقافية" (أين هي فعلا؟) في تونس ما بعد الثورة، ولا معنى للتشنّج والانفعال المبالغ فيه من مختلف الأطراف السياسية وشبه الثقافية التي نصّبت نفسها بديلا عن المواطن وعن المجتمع بأكمله حامية لهذه القيمة أو تلك، معادية لهذا المفكر أو لذاك التيار الخ.. ذلك أنّه لا معنى لإسقاط إشكاليات غير نابعة من واقعنا التونسي ولا للحديث عن مصطلحات مقتطعة من سياقاتها الحضارية في الوقت الذي تميّز فيه مجتمعنا على مدى قرن ونصف القرن بتمشّ تحديثي متّصل ارتقى به إلى مستوى المجتمعات الرشيدة في العالم المعاصر حيث يمكن أن تكون المواطنة فيه هي الهدف الأسمى من قيام الدولة والمحور الرئيسي للفعل الاجتماعي بل الوحيد الذي يقبله العقل (والحداثة ليست في تعريفنا غير حدوث العقل في التاريخ) ويرضى به المجتمع فوق كل اعتبارات الخصوصيات الفردية والجماعية، وتباين ديمغرافية الأغلبية والأقلية، وتمايز بعض الفئات عن الأخرى. فالأجدر بنا أن ندعو اليوم إلى التأكيد على قيم المواطنة الحداثية (بالمعنى الذي ذكرناه) أي على تحرير العقل والضمير في مستوى كل مواطن كي يتحمّل مسؤوليته، راشدا، موثوقا فيه، محترم الذات، مصون الكرامة، مع توفير جميع الضمانات الدستورية لحماية اختياراته من أيّ شكل من أشكال الاستبداد والمصادرة والإقصاء والتهميش والعنف المعنوي والمادي مهما كان مبرره أو مصدره.
No comments:
Post a Comment