Search This Blog

Monday, July 18, 2011

Nabil Grissa: Africains et Arabes témoins de l'humanité

ندوة المعهد التونسي للعلاقات الدولية

سوسة/ الخميس 14 جويلية 2011

الأفارقة والعرب: شهود على الإنسانية


مداخلة الأستاذ نبيل خلدون قريسة

في البدء أشكر القائمين على المعهد التونسي للعلاقات الدولية على هذه الفرصة التي أتاحوها لنا للتحاور حول مسائل استراتيجية شبه منسية في بلادنا، وفي مقدمتهم الأخ المناضل الدكتور أحمد المناعي الذي تجمعني به قرابة لصيقة وتبعا لها كانت لي معه منذ وقت مبكر من حياتي علاقات فكرية ووجدانية حميمة وعميقة، أفدت منه واستفدت واتفقت معه واختلفت، وكنا دوما في كل لقاء نخرج بشحنة فكرية وعاطفية أقوى، هذا على الأقل في مستواي الشخصي. ثم فرقتنا الظروف والأيام وهاهي اليوم تعود فتجمعنا كما لو كانت عقارب الساعة توقفت ذات يوم من سنة 1990 وهو نفس ما أراه يحصل لتونس بأكملها من خلال الأحداث التي نعيشها اليوم والقضايا والإشكاليات التي عادت للبروز بصورة لم تكن في الحقيقة مفاجئة لي بحكم ما كنت أراه وأعانده من الفراغ الثقافي والسياسي الرهيب الذي خلقه النظام السابق.

لقاء اليوم محوره "إفريقيا و العالم العربي في إستراتيجية القوى الكبرى"

يطرح علينا هذا المحور أكثر من إشكالية لعلّ أبرزها في نظري هي التالية: ما مدى ارتباط إفريقيا والعالم العربي في إطار استراتيجية محتملة لما يمكن أن يطلق عليه اليوم القوى الكبرى؟

كما تلاحظون هي إشكالية متعددة الأبعاد الإشكالية: ارتباط مفترض بين المجالين المذكورين/ استراتيجيا محتملة موجهة إليهما بصورة خاصة/ قوى كبرى أو عظمى لعلنا نجدها بمواصفات معينة في عصر العولمة الذي نعيشه اليوم.

ذلك أنّ هذه الحلقات الثلاث ليست بديهية من وجهة النظر الاستراتيجية نفسها، بل هي قد تحيلنا على عكسها أي انتفائها وبالتالي على طلب وجودها أو حتى إيجادها.

في كل الأحوال، لتيسير النظر في المسألة، سنتخلص منهجيا من الحرج القائم ونتطرق إلى الموضوع كما لو كانت هذه الحلقات الثلاث فاعلة تماما، وعندها نلاحظ بداهة أنّ وجود استراتيجيا لقوى عظمى موجهة خصيصا للمنطقة المشتركة بين العالمين الإفريقي والعربي إنما تتحول تاريخيّا إلى استراتيجيا موجّهة إلى هذه القوى نفسها التي نفترض طبعا أنّها غربيّة صناعية بالأساس.

هل التدخل العسكري في ليبيا هو لفائدة الشعب الليبي أم لتأمين المصالح الأجنبية؟ و هل هو في حال اتفاق الاثنين سياسة تكفير عن الذنوب الاستعمارية بما فيها الاستعمار الجديد بعد الاستقلال المبني على دعم الدكتاتوريات؟ هل بدأ الضمير الإنسانوي في الغرب يصحو أخيرا لخدمة المصالح الإنسانية المشتركة، مصالح الشعوب لا البنوك والشركات؟ هنا يبرز الرهان الإفريقي-العربي لدى الغرب باعتباره رهانا على الإنسان وباعتبار الطرف المقابل شاهدا عليه أمام الإنسانية كما هو شاهد عليها أمام التاريخ من خلال هذا الامتحان الذي قد يكون الأخير قبل فوات الأوان. ربما هذه لحظة حاسمة ومرحلة تكون الأكثر خطورة في تاريخ التعايش بين الشعوب مع تفاقم التهديدات الأمنية (خاصة النووية) والغذائية والبيئية والطاقية الخ..

من ناحية أخرى، يبدو لنا تقسيم السودان الحاصل قبل أيام قليلة من هذا الشهر نتيجة طبيعية لفقدان السياسة المتبصرة للعرب في إفريقيا، فالتناقضات وحتى الصراعات بين القادة العرب المستبدّين أدّت إلى كوارث استراتيجية: قضايا الصحراء الكبرى وحقوق الأقليات والأمن العسكري على الحدود وفي الفضاءات المجاورة (مثل المتوسط) والأمن الغذائي والنفط والمياه (مثل النيل) الخ... لكن يبقى السؤال ملحّا: هل هذا التقسيم في صالح شعب السودان بشقّيه الشمالي والجنوبي ونضيف إليهما منطقة دارفور المهددة بدورها بالتقسيم؟

وهل أنّ تمشّي التقسيم سيعمّم على جميع دول المنطقة العربية خاصة منها المتاخمة للصحراء الكبرى والمتماسة مع منابع الثروات الطبيعية الإفريقية المعروفة (المياه، الغابات، الطاقة الخ..) أو المحتوية عليها بمقادير متفاوتة؟ ومن المستفيد في النهاية؟ بمعنى إن كان التقسيم سيضعف الشعوب والدول ويهدد أمنها وتنميتها بأن يحجّمها ويعزلها ويفرض عليها التبعية الخارجية، فهل سيسمح للمصالح الدولية بأن تجد لها فعلا موقعا على المدى الطويل؟

بداية، تشترك إفريقيا والبلاد العربية في الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية وفي الحضارة والتاريخ منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض إلى العهد الامبريالي وما بعده عصر العولمة الاتصالية والاقتصادية والاستراتيجية.

كذلك، منذ حوالي قرن تقريبا، أصبح الأفارقة والعرب يشتركون في نفس القضايا المصيرية الطارئة مثل مقاومة الفقر والجهل والبطالة والتخلف المؤسساتي المتأتّي من القطيعة مع التاريخ وتغلغل الاستعمار والتبعية الخ...

وهم اليوم شهود على ما تعيشه الإنسانية من معارك مصيرية وعلى الرهانات التي قد تفضي الخسارة فيها إلى ضياع النوع البشري، مثل رهان محاربة الفقر والجوع والعطش والتقلبات المناخية الخطيرة والأمراض الفتاكة المعْدية بالخصوص وكذلك رهان خلق توازنات إقليمية مستقرة خاصة على مستوى التمتع بالعدل (أو ما يقرب منه) بالثروات الطبيعية والموارد البشرية الكفأة والتقنيات الحديثة وخاصة منها تقنيات الإنتاج بدل الاكتفاء باستهلاك ما عند الغير وما ينتجه خاصة من تقنيات الاتصال التي تشترط أصلا مستوى أعلى من العيش ومن التعليم والثقافة الخ..

فالوضعية الحالية سرياليّة تماما قد تخدم ظرفيّا الشركات الكبرى، لكنها في المدى المنظور ستفضي إلى امتناع انتشار هذه التقنيات الذكية وبالتالي ظهور تهديد جدي بتعطيل إنتاجها وتقليص أرباح هذه الشركات ما لم ترفع الدول التي تنتمي إليها أيديها عن المجتمعات المستهلكة في وضع التبعيّة وما لم تدخل في شراكة متكافئة معها تسمح بتنمية بشرية عادلة وبالتالي بارتقاء مزيد من السكان فيها (خاصة الأجيال الصاعدة التي تمثل الأغلبية الديمغرافية) إلى مستوى المستهلك الواعي والكفء ولم لا أيضا المشارك في الإنتاج وبالتالي القادر على تلبية احتياجاته الأساسية ومن ثمّ التكميلية في شكل هذه التقنيات الذكية عالية الجودة. هذا تحدّ حقيقي أمام القوى الكبرى أن يصبح الاستقطاب الأحادي العولمي نفيًا للطبيعة التفاعلية للاستقطاب ودحرجةً لفوائد التبعية المطلقة إلى مستوى ضحل من الاستهلاك العقيم بما ينفي قدرة هذه القوى في النهاية على تأمين الأسواق التي تحتاجها للتجديد التكنولوجي ومزيد التقدم الصناعي. ولا بديل عن هذا الخطر غير تحقيق التضامن الإنساني الصادق.

لقد كانت ثورة الكرامة في تونس والبلاد العربية التي تبعتها في هذا المدّ التحرّري التائق إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية تعبيرا عن أهمية هذه التقنيات الاتصالية الحديثة في كشف الحقائق على الأرض وفضح الممارسات المنتهِكة لحقوق الإنسان وتعرية زيف التنمية المشوّهة غير المتكافئة بما ولّد في مختلف أنحاء العالم تضامنا كبيرا مع الشعب التونسي والشعوب المنتفضة ضدّ الاستبداد والقهر، لكنّ هذا التضامن يبقى رهين تواتر الاتصال المعولم المحكوم بآليات سوق الاتصال وتجاريّة الخطاب المثير فيها، كما أنّ دور هذه التقنيات الاتصالية والمواقع التواصلية تقف عند حدود الإمكانيات المادية والثقافية لمستعمليها ولا تسمح لهم بالاستفادة منها الاستفادة القصوى بحكم ما تفرضه عليهم من قواعد لعبة التبعية التكنولوجية وبالتالي الاقتصادية والاجتماعية. من هنا تأتي أهمية خلق شراكة استراتيجيّة فعلية بين البلاد المصنّعة والبلاد المستهلكة لتقاسم الأدوار الإبداعية والإنتاجية في المجالات التقنية الحديثة، تنميةً للطاقات المبدعة في كل المجتمعات وللبيئات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحاضنة لها والضامنة لاستمرارها، وكذلك خدمة للمعرفة الدقيقة والشاملة وللشفافية المعلوماتية والإدارية العادلة والضامنة لحقوق الإنسان في كل مكان، أي في الأخير، خدمة للمصالح الإنسانية المشتركة على المدى الطويل.

تاريخيّا، تتكوّن هذه المصالح انطلاقا من الجذور المشتركة للإنسانية التي نجدها أوّلا في إفريقيا (مهد النوع البشري) والبلاد العربية (حيث نشأ الإنسان الحالي "العاقل العاقل" في فلسطين ثم انبلجت الثورة "النيوليثيّة"، الثورة الرعوية-الزراعية، في منطقة "الهلال الخصيب")، ثم امتدت إلى كل مكان على مراحل حتى العصر الحديث بدون انقطاع من خلال الهجرات والتفاعلات الحضارية على امتداد فضاءات حضارية متجاورة في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأبعد منها في أستراليا وأمريكيا وبقية الجزر والأراضي. معنى ذلك أنّنا نجد امتدادات المرجعية الحضارية المتولدة في البوتقة الإفريقية-العربية في كل أنحاء الكرة الأرضية من خلال الوضعية التاريخية الخاصة بالمجتمعات المسماة "البدائية" primitifs (الأوّلية peuples premiers كما يقول الباحثون الروس) أو الأصيلة authentiques إذا أردنا أن ننظر إليها من خلال منظار مشترك بين علمي الإناسة (الأنثروبولوجيا) والتاريخ باعتبار الإنسان متحضّرا بطبعه بقطع النظر عن مدى مدنيّته، وندمج فيها مختلف البيئات الاجتماعية العتيقة أو العريقة التي لا تزال تحافظ على ذاكرتها السوسيو-ثقافية الشفوية والقبليّة والبدوية وغيرها المتأقلمة أيّما تأقلم مع البيئات المتنوعة سواء عرفت المدنيّة urbanité أم بقيت بمنأى عنها.

والمنهج الإناسي-التاريخي هو الذي يُفترض أن يكون مكسبا للإنسانية بأكملها بفضل تقدّم المعرفة والدراسات الاستكشافية الميدانية والبحوث العلمية داخل مختلف الشعوب والأقوام والثقافات والمقارنة بينها مقارنة منهجية تصل بنا إلى مستوى الاستفادة من تجاربها لإنارة الواقع الحالي واستشراف المستقبل، إلاّ أنّ ما نراه اليوم عوض جني ثمرة هذا التقدم العلمي الهائل، إنّما هو على العكس ضمور الاهتمام بعلم الإناسة وتقليص أهمية مقاربته وتأثير نظرته النسبية للثقافات (مثلما تجرّأ "كلود لفي-ستروس" Claude Lévi-Straussفي كتابه المقدم لليونسكو عن "العرق والتاريخ" Race et Histoire، وقد قامت موجة مستنكرة أجبرته على التراجع عمّا أقرّه من تساوي الثقافات لصالح فكرة تميّز الغرب)، ففكرة التقدّم الحضاري والعلمي للغرب بمعنى المدني والتقني تحديدا (بدل مفهوم التقدم المعرفي الأعمق والأشمل) بقيت تعوّض هذه الرؤية الإنسانية الشجاعة وتطردها من كل المنابر الإعلامية والجامعات، وهاهي اليوم تفضي بنا إلى انحرافات تنموية في مستوى النماذج - المغلوطة والمسقطة بتعسّف وغباء سياسي لا مثيل له على الواقع- وكذلك في مستوى النتائج البيئية والاجتماعية والسياسية الكارثية التي أفضت إليها هذه النماذج المنقطعة عن الواقع.

لقد كان عدد من علماء الإناسة الغربيين على وعي تام بضرورة استعادة ذاكرة الإنسانية المفقودة في الغرب والتي نجدها لا تزال حية في مجتمعات كثيرة تعتبر متخلفة أو بدائية مثل "الإنويت"Inuit (المسمون "اسكيمو") في القطب الشمالي و"الميلانيزيين" (في المحيط الهادي) و"الأفارقة" في شمال الصحراء الكبرى (البدو العرب والبربر و"الطوارق") وجنوبيها (أقوام كثيرة مثل "دوقون"Dogon و"بامبارا" Bambara و"سونغاي" Songhay في مالي و"سيرير" Serer في السنغال و"أشانتي" Ashanti في غانا و"إوي" Ewé في توغو و"بُل" Peul في الساحل الإفريقي وغيرها) وفي شرقيها ("النوير" Nuer و "دنكا" Dinka السودانيون الجنوبيون والنوبة غربي وادي النيل) الخ.. وجميعها قد تميز بدرجة عالية من التنظيم الاجتماعي والثراء الثقافي والحكمة الرفيعة.

قامت دراسات "إدورد إفنس-بريتشارد" E. E. Evans-Pritchard و"مارسيل غريول" Marcel Griaule و"جون مالوري" Jean Malaurie و"جورج بالنديي" Georges Balandier الخ.. إلى جانب المقاربة الشمولية المقارنة للبنيويين وخاصة منهم "لفي-ستروس" و"فرانسواز إريتيى" F. Héritier ، ومن قبل ذلك دراسات "جيمس فريزر" James G. Frazer و"أرنولد فان-جنب" Van Gennep A. وغيرهما حول المعتقدات والأساطير والتراث الرمزي، فبينت جميعها مدى اتساع وعمق المجال المشترك ثقافيا بالخصوص وكذلك اجتماعيا بين مختلف المجتمعات البشرية وقيمة الشهادة الإفريقية على هذا التراث الإنساني الذي لا يمكن الاستغناء عنه لفهم حقيقة الإنسان وبلوغ درجة من الوعي به تسمح بإيجاد سلام عالمي إنساني الأبعاد ودائم بين الشعوب والثقافات بدل الدعوة المستهترة إلى صراع الحضارات المزعوم.

هذه الذاكرة التراثية المشتركة بين البشر والضاربة في أعمق أعماق تاريخهم لا تزال حية في المجتمعات الإفريقية والعربية-الإسلامية، في حين غيّبتها الثورة الصناعية في الغرب وحاربتها يدُها الطُّولَى الاستعمارية حتى في داخل هذه المجتمعات الأصيلة فكادت أن تقضي عليها تماما بدل الحرص على المحافظة عليها باعتبارها ذاكرة الإنسانية التي يمكنها أن تفيد هذا الغرب في يوم ما بتحريك سواكن ضميره وجبر ضرر تقدمه الوهمي. ولعله اليوم أحوج ما يكون إلى هذا بعد ما اكتشف من صعوبات التأقلم مع واقع العولمة الاتصالية، فهو قد دخلها مسلّحا بالتقنية والقوة لكن، في نفس الوقت، فاقدا للعقلية الضرورية للنجاح فيها، ونعني بها عقلية التفاعل على قدم المساواة مع الآخر والتواضع أمام تراثه العريق وروح التضامن الصادقة التي أصبحت اليوم للأسف مجرّد شعار قد لوّثته الممارسات المستهجنة في المستوين العالمي والمحلّي. استتبعت ذلك كلّه، بصورة طبيعية ونكاد نقول منطقية أيضا، حِدّةُ الأزمة الاقتصادية الحالية في جانبيها المالي والتمويني الأساسي (المواد الأولية الغذائية والصناعية وموارد الطاقة) وفداحة نتائجها على مستوى البيئة (تزايد الكوارث الطبيعية مثل الجفاف وارتفاع درجات الحرارة الجوية والمد البحري والفيضانات والزلازل والحرائق الخ..) وكذلك ما أصبح يتهدد توازنات الدول وحتى التجمّعات الإقليمية بالانهيار والتفكك. ذلك أنّ أنانيّة السياسات المنتهجة من قِبل هذه القوى الكبرى ومن يدور في فلكها على امتداد عقود من الاستبداد والاستبلاه لا يمكنها إلاّ أن تفضي إلى مثل هذه النتائج وما سيأتي بعدها من الكوارث.

لم تقف هذه السياسات الأنانية عند المجال الاقتصادي بل تجاوزته إلى المجال الثقافي في نظرة قاصرة تماما عن فهم طبيعة الإنسان رغم ما ذكرناه من التقدم المعرفي الكبير في مجالات العلوم الإنسانية وخاصة منها علم الإناسة. ففي بداية القرن العشرين، دافع الباحث الألماني "ليو فروبنيوس" Leo Frobenius عن الثقافة الزنجية لكن ليجعلها تابعة للثقافة الأوروبية الغازية استعماريا، مبررا ذلك بأنه يريد استرجاع المشترك الحضاري بين الأفارقة والأوروبيين الذي يعود حسب رأيه إلى عصور ما قبل التاريخ قافزا على كل العصور التالية وكل الاحتمالات العلمية الأخرى الممكنة. كما سعت النظريات الاستعمارية إلى التفرقة بين العرب والأفارقة كما فرقت بين مكونات كلّ طرف إلى أشتات مجتمعات لا معنى لوجودها في سياق تاريخي متقطع.

من ناحيته، اشتغل التبشير المسيحي على التمييز الاعتباطي بين الأفارقة والعرب مثلما فعل بين العرب والبربر وغيرهم من الجماعات العرقية والثقافية أو الإثنية لغايات استعمارية تتخذ الدين ذريعة أو غطاء، بينما المسيحية كدين ترفض هذه الممارسات التمييزية الاستبدادية وتدعو إلى المحبة والسلام، وهو قاسم مشترك بين جميع الأديان الكبرى في العالم. وفي الحقيقة لا يمكن أن يكون هناك صراع ديني أو حضاري مسيحي إسلامي في إفريقيا أو في أيّ مكان آخر من العالم، ولا معنى له أصلا. كما أنّ أيّ صراع سياسي لا يمكنه أن يصبح صراعا دينيا وإنما هو فقط يتّخذ من الدين ذريعة عندما يعجز عن إيجاد مشروعيّة أخلاقية أو تاريخية له.

فالأديان والأفكار لا تتصارع وإنما البشر يتصارعون على مصالحهم الآنية والأنانية باعتماد الأفكار والمعتقدات في انتهاك صريح لمبادئها العقائدية والأخلاقية واستسلاما لدغمائية إيديولوجية تنفيها أو على الأقل تضعفها كثيرا.

من ناحية أخرى، نلاحظ أنّ الأصول الحضارية المشتركة لسكان النطاق الصحراوي الممتد على محور خط العرض المسمى بمدار السرطان عبر القارتين الإفريقية والآسيوية، أصول ضاربة في أعماق التاريخ البشري وفي نفس الوقت جمّاعة لخبرات تنظيمية لا تزال حيّة في بيئاتها الأصلية محافظة بذلك على ذاكرة بشرية هامة يمكن الاستفادة منها اليوم لصياغة نموذج بل نماذج تنموية طيّعة أي موافقة لمتغيّرات الواقع البيئي والاجتماعي.

نتحدث عن أصول بشرية مشتركة تبرزها لنا الآثار في النطاق الصحراوي بالخصوص مثل الرسوم الصخرية والآثار الجلمودية والجنائزية والسكنية وتقنيات تربية الحيوانات والزراعة منذ العصر الحجري الحديث الخ...

كذلك نتحدث عن أصول اجتماعية وثقافية مشتركة عبر منظومات القرابة والتنظيمات القبلية والسياسية واللغات المتقاربة الأصول والمعتقدات الطوتمية والوثنية المتشابهة منذ أقدم العصور ثم تجربة التوحيد عبر الديانات الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام. كلها أسهمت في بلورة أشكال مختلفة من الحلول المستجيبة لتحديات الواقع المتغير عبر التاريخ.

لذلك لا نستغرب أنّ أقدم الممالك الإفريقية كانت مرتبطة بالبلاد العربية من القديم وخاصة بعد انتشار الإسلام إلى حين بدأ التوسع الأوروبي في العصر الحديث، وقد شهد بذلك "فروبنيوس" بنفسه.

ما يمكن أن ينتظره العاقل من الدراسة العلمية الرصينة والعميقة لهذا التراث الإفريقي-العربي العريق هو الإجابة على أسئلة التنمية في زمن العولمة، أسئلة تشمل ما لم يشأ البحث العلمي حتى اليوم أن يطرحه بجدّية مثل كيفية إفادة السياسات التنموية من آليات التضامن الاجتماعي التي توفرها المنظومة القبليّة في مستوياتها التنظيمية المتراتبة، أو مثل كيفية الاستفادة من التجربة البدوية للمجتمعات العريقة قصد توظيف الميولات البدوية الحديثة (أو ما بعد الحداثية كما يقول البعض) لإنسان المدن فائقة التصنيع والتعليم العازف عن المشاركة في الحياة السياسية، في خلق شبكات تفاعلية تدمجه من جديد في المجتمع المدني الديمقراطي من خلال خدمة قضايا الإنسانية العادلة والمصيرية.

كل هذا يبيّن ما يمكن أن يُضيعه الأفارقة والعرب بانفصالهم وانقسامهم وتصارعهم حول المصالح الضيقة بتعلاّت واهية مثل تعلّة الاختلاف الديني أو العرقي أو الثقافي، بل ما يمكن أن تخسره الإنسانية بأكملها من وراء ذلك، بمعنى أنّه وفي الأخير يكون خاسرا كلّ من يساهم في تحريك مثل هذه الصراعات أو تغذيتها.

أخيرا، نرجو أن تقوم السياسة الخارجية التونسية المستقبلية تجاه المجال الإفريقي، الذي ترتبط به بلادنا (وقد أعطته اسمها "إفريقية" منذ القديم) وبقية البلدان العربية ارتباطا تاريخيا وثيقا، على مثل هذا الوعي الاستراتيجي بالمصير التاريخي الواحد المبني على أساس التراث المشترك الذي نراه شاهدا على وحدة المصير البشري وفي خدمة التضامن الإنساني والسلم العالمية. ليست هذه السياسة بديلا عن أيّ سياسة أخرى تجاه الأقاليم والمناطق التي نرتبط بها في العالم، وإنما هي متكاملة معها بل مفعّلة لها بصورة أكثر عمقا وانسجاما في المنظور الاستراتيجي ببعديه الوطني والإنساني.

No comments: