عندما كانت جريدة الحرية الأكثر قراءة .. في السجون !
17/09/2013 08:39
حقائق أون لاين ـ احمد النظيف
للقراءة داخل السجن طعم أخر، فالقراءة تمنحك بعضا من حريتك
السليبة،خاصة تصفح الجرائد التي تبقيك على تماس مع مجتمع ”خارج السجن” أو
ما يسمى في معجم السجناء بـــ”السفيل” ،أخبارها الأسبوعية في السياسة و
الاقتصاد و المجتمع و حتى الرياضة تجعلك على دراية بما يحدث من حراك أو
تحولات، و لو كانت بسيطة من حولك و أنت المعزول في شبه كوكب مفارق.
كانت الصحف التي ترد على سجن المرناقية شحيحة . ففيما عدا صحف
دار الصباح و دار العمل كانت بقية العناوين تمنع من دخول السجن ،لست أدري
سبب هذا التصنيف اللامنطقي،فبقية الجرائد على الساحة لم تكن بتلك الثورية
كي تمنع فحالها أشبه بحال صحف دار الصباح أو جريدة الحرية في الحد الأدنى
،غير أن البلد ،آنذاك،كان يخضع لكثير من العبث في كل شيء ، و أحسبه مازال
كذلك !!!
كان نزلاء سجن المرناقية من ذوي الانتماء السياسي ، كحالي
،وحدهم من يشتري الصحف بشكل شبه يومي ،هذا إن توفرت،فحين تشتد وطأة
الإضرابات و الحركات الاحتجاجية داخل السجن من أجل تحسين الأوضاع المعيشية
أو ظروف الزيارة تعمد السلطة إلى منع الصحف و الكتب كإجراء عقابي أو كنوع
من التنكيل و الكيد ضدنا، كما يقتنيها أيضا بعض سجناء الحق العام من ذوي
المستوى الدراسي العالي ،أو بعض أولئك المولعين بقراءة صفحة الجرائم و
الحوادث ،فمجرمو الصفحة هم نزلاء الغد في مهاجع و عنابر المرناقية .
كنت و كغيري من السجناء ، و بعد أن تنتهي طقوس ‘’الحساب’’ عند
الصباح ،و التي يصطف فيها السجناء في صفوف صغيرة يتكون الواحد منها من
خمسة أنفار ، وقوفا في ذلك الفراغ الضيق بين الأسرة ,ليلج بعدها السجان إلى
المهجع و ينطلق في العد و لا يفوت الموقف كي يطلق عقيرته بالصراخ في
وجوهنا بالكلام البذيء حينا و بالشتائم الزقاقية أحيانا أخري ،كنت بعدها
أخرج قصاصتين كل واحدة منهما بقيمة دينار و ادفع بهما للسجين المكلف بإحضار
الجرائد للسجناء من إدارة السجن ،فكما تعلمون أن داخل السجن لا يتعامل
النزلاء بالنقود بل يتم استبدالها بقصاصات ورقية تسمى ”بونو” قيمة كل قصاصة
دينار واحد ،فحين يودع لك الأهل مبلغا ماليا عند إدارة السجن يسلم لك على
شكل دفتر قصاصات ورقية، كان لونها في مهجعنا أزرق فاقعا لأعود
بعدها للنوم ،حتى الساعة الحادية عشر صباحا موعد خضور الجرائد إلى المهجع .
كانت جريدة الحرية في طليعة القادمين كل يوم ،تتصدرها كالعادة صورة بن علي
، فهي على غير بقية الصحف لا تخضع للتدقيق أو المراقبة في الإدارة ،كيف لا
و هي لسان حال الحزب الحاكم ،ثم تصل بقية الصحف بعد عملية مراجعة شاقة في
مكتب مدير السجن .
كنت أغرق في قراءة ”الحرية” بنهم شديد ،حرفا حرفا من الغلاف إلى
الغلاف،لم تكن تنجو من عطشي و جوعي الثقافي حتى صفحة الوفيات أو بعض
المعايدات السمجة المليئة بالتملق لأعضاء الديوان السياسي في التجمع
الدستوري الديمقراطي ،مازلت ذاكرتي حتى اليوم تحفل بعشرات الأسماء،الطريف
أني كنت بين الحين و الأخر أتعثر في أحدهم على الفايسبوك أو في الانترنات و
أجده قد تحول إلى أحد حراس الثورة ،بعضهم اليوم يتخذ من شعار اعتصام رابعة
المصري صورة له على الفايسبوك،إنها سخرية الأقدار لا أكثر.
كانت جريدة الحرية من الناحية المهنية،جريدة جيدة في العموم ،و
كانت تحوي أقلاما محترمة في الجانب المهني و الفكري ،بغض النظر عن الموقف
السياسي و بغض النظر عن بشاعة الديكتاتورية،لغتها كانت راقية خاصة في
مقالات الرأي و الثقافة و الفكر،غير أن الحكم المسبق منها كأداة من أدوات
التضليل في النظام كان يمنع الكثيرين من التعرف عليها ،أعترف أن السجن غير
نظرتي للحرية كقيمة و كجريدة ،أما القيمة فأدركت أن لا شيء يمكن أن نقاتل
من أجله سوى الحرية ،و أما الجريدة فأدركت معنى القول بأن الحكمة ضالة
الإنسان اينما وجدها فهو أحق بها،فلم يكن ثمة في تونس ملحق ثقافي أجود من
ملحق الحرية،اذكر آنذاك أن الشاعر عبد السلام لصليع كان مشرفا عليه ،كنا
نطلع فيه على أخر الاصدارات الفكرية و الثقافية و فيه كثير من الحوارات مع
المثقفين و الكتاب و نتف من القصة و الشعر و النقد الأدبي .
كنت وقتها اتساءل لماذا كان النظام يسمح بدخول جريدته إلى
معارضيه؟ هل كان ينوي عبرها تغير قناعتنا تجاهه ؟ الطريف أن المطلع على
الصفحات السياسية و الاقتصادية للجريدة سيتحول إلى معارض شرس للنظام ما إن
يفرغ من قراءتهما ،فكمية الأكاذيب و الدعاية الفجة المسكوبة بين صفحاتها
تجعل من المواطن العادي معارضا فذا،فهي لا تعرف إلى احترام ذكاء الآخرين
طريقا و لا دربا ،على عكس صفحاتها الثقافية الممتعة و الرائقة في حدها
الأدنى و أقله عندي.
No comments:
Post a Comment